حرية ـ (17/4/2025)
في حين يجب النظر إلى وزن الجسم من جانب طبي ومن خلال تقييمات مختلفة لمدى ملاءمة الكيلوغرامات التي يحملها الإنسان على عظامه لوضعه الصحي، بغض النظر عن مظهر قوامه، إلا أن الأمر على مدى عقود وعقود ظل مرتبطاً بمعايير مجتمعية بحتة. وباتت الأوزان تتغير صعوداً وهبوطاً بين وقت وآخر وفقاً لضوابط صارمة تتحكم فيها أقاويل لا تستند إلى أي شروط علمية.
السمنة جمال وثراء
اعتمدت الشعوب في العصور القديمة ولا سيما الشعب اليوناني القوام البدين، كعلامة جمال وثراء ورغد عيش ووفرة وتنوع الطعام، وبطبيعة الحال كانت النحافة علامة لا تقبل الشك على البؤس وشظف العيش وفقر الحال. وفي ما يتعلق بالنساء، كانت صاحبات الرقبة الممتلئة مثاليات تماماً، وظل الأمر على ما هو عليه حتى بدايات القرن العشرين. ثم بدأت النظرة تتغير تدريجاً بعد أن أصبحت قائمة الأمراض والمتاعب المصاحبة للسمنة طويلة ومزعجة. في حين تمتع ذوي النظام الغذائي الصحي بالنشاط وبحياة أفضل، خصوصاً مع تطور صناعة الموضة التي كانت تحتفي بمن هم أقل وزناً ويظهرون جمال التصاميم من دون مجهود ويشجعون الجماهير على التشبه بهم.
وجهان لعملة واحدة
من المؤكد أن التغيير تدريجي، فحتى اليوم لا تزال بعض المجتمعات تعتبر أن القوام الممتلئ يمثل علامة على القوة والجمال والخصوبة. وبحسب الرأي الطبي، فإن النحافة الشديدة تماماً هي مثل البدانة دليل مؤكد على سوء التغذية واتباع نمط أكل غير صحي، يحرم الجسم من حاجاته من الدهون والفيتامينات والمعادن، ويصبح صاحبه هزيلاً بجلد شاحب وشعر متساقط، ويضغط نظام الأكل السيئ على أعضاء الجسم بشدة ويستهلكها قبل أوانها، ويجر صاحبه نحو أمراض الشيخوخة مثل السكر والضغط والقلب مبكراً.

تيس هوليداي تتباهى بوزنها الزائد على منصات العروض
نجمات ممتلئات
حتى على مستوى نجمات السينما، عربياً وعالمياً، لم تكن النحافة المفرطة رائجة مطلع القرن العشرين، حتى أن فنانات مثل مارلين مونرو في هوليوود، وهند رستم وسعاد حسني وشادية في مصر لا يمكن تصنيفهن على أنهن نحيلات مقارنة بمن جئن بعدهن. وفي مجال الطرب أيضاً كانت أم كلثوم مطربة كل العصور ذات بنية ممتلئة. وبدأ هوس النحافة في النصف الثاني من القرن العشرين، ومثلما حاول الأطباء مواجهة أخطار الوزن الزائد، وجدوا أنفسهم أيضاً في مواجهة غير متوقعة مع فقدان الشهية العصبي، الذي انتشر بين الحالمات بقوام عارضات الأزياء وبعضهن فقدن حياتهن في سبيل الحصول على الخصر النحيل.

هند رستم كانت تعتبر أيقونة جمال في فترة نجوميتها
كيف نقيس السمنة؟
وفقاً للتعريف الطبي، السمنة هي زيادة في الوزن نتيجة تخزين الدهون، والسبب عادة يتعلق بزيادة معدل تناول الأطعمة التي تولد الطاقة مقابل قلة النشاط والحركة، ويعتبر الشخص سميناً إذا زادت نسبة كتلة الدهون في جسده مقارنة بالعضلات والعظام والماء على 25 في المئة.
ويعتبر آخرون أن الوزن المثالي للشخص البالغ يحتسب بأخذ الرقمين الأخيرين من الطول بالسنتيمتر على أن يطابق هذا الرقم الوزن، على سبيل المثال إن كان الطول 160 سنتيمتراً فالوزن المثالي 60 كيلوغراماً وإن زاد بضعة كيلوغرامات على ذلك اعتبر سميناً. وبالطبع أثبتت هذه الطريقة عدم دقتها، مثلما ثبت أيضاً أن معدل كتلة الجسم منفرداً قد يعطي قياسات غير سليمة. هذا ما تقوله الطبيبة وفاء وافي أستاذة التغذية العلاجية في معهد تيودور بلهارس، وتضيف أنه في أوقات كثيرة لا يكون معدل كتلة الجسم وحده فاصلاً في تحديد الوزن الصحي لكل شخص، بل قد يكون معياراً خادعاً كأن يكون الشخص رياضياً وعضلاته ضخمة، فتخرج النتيجة غير صحيحة، وتواصل: “الأفضل أن نقوم بعدة فحوصات مجتمعة من بينها الكتلة، وتحليلات الدم مثل السكر والكوليسترول، وفحص الـ InBody الذي يقيس نسب الدهون والمياه والعضلات في كامل الجسم ويعطي تقريراً مفصلاً”.
وتربط وافي الأمر بتطور الطب ودقته، فالاعتماد على مقياس وحيد في رأيها سيكون معيباً.
هوس العمر البيولوجي
وحول تعبير “العمر البيولوجي” الذي بات شائعاً ويتعلق بالصحة العامة والوزن والرشاقة أيضاً، تقول وافي إن المقصود به مستوى لياقة الجسم ومدى كفاءة أعضائه مثل القلب وغيرها، فهناك أشخاص في الثلاثينيات من عمرهم ذات لياقة شخص في الثامنة عشرة، وهناك من هم في العشرينيات ولكن مستوى لياقتهم وكأنهم في الخمسين من عمرهم. مشيرة إلى أن السمنة تصنف تقريباً بدءاً من خمسة كيلوغرامات زيادة على الوزن الصحي. ولكن هناك بعض الاستثناءات، فالبعض لا يتحمل حتى مجرد كيلوغرامين فقط زيادة على وزنه المثالي، لأسباب جينية أو مرضية، وهناك أشخاص قد يعانون من النحافة ولكن لديهم كوليسترول وكبد دهني، لأن كيمياء أجسادهم لا تحتمل الدهون، داعية إلى التخلص من الوزن الزائد لتجنب تأثيراته السلبية والمزمنة.
حملات ضد الحميات سيئة السمعة
المعروف أن عالم عروض الأزياء هو الأكثر قسوة في ما يتعلق بمعايير القوام المثالي، وتعددت حالات الوفاة إثر الحميات سيئة السمعة غير الصحية التي يعيش أصحابها على نوع واحد من الخضروات أو الحساء، أو المكسرات. واستغرق الأمر عقوداً حتى خرجت حملات تدعو للتكيف مع مختلف أشكال الجسم، وعدم الرضوخ للمقاييس الصارمة للجمال، والمفهوم الخادع لما يسمى الوزن والشكل المثالي.

الفنانة أديل بعد أن فقدت الكثير من وزنها
وكانت الفنانة إنجي وجدان من أوائل المشاهير العرب الذين أطلقوا حملات من هذا النوع مثل “حبي نفسك” تدعو فيها المتابعات اللاتي يعانين من الوزن الزائد مثلها، إلى تقبل مظهرهن، لا سيما وأنها حاولت خسارة الوزن بطرق متعددة ولم تفلح. وفي العقد الثاني من الألفية الثالثة انتشرت ظاهرة عارضات الأزياء الممتلئات أو من يطلق عليهن “بلاس سايز” PLUS SIZE منصات عروض الأزياء، وتُعد أشلي غراهام من أشهرهن على الإطلاق، بتحديها المعايير السائدة ودعوتها لعدم الحكم على النساء بناءً على أوزانهن. ويتراوح وزن آشلي بين الـ 75 إلى 85 كيلوغراماً بينما طولها يتجاوز الـ 175 سنتيمتراً بقليل وظهرت كعارضة بوزن زائد منذ أكثر من 10 سنوات. وفي الفترة نفسها تقريباً ظهرت تيس هوليداي، وكانديس هوفين التي تحول جسدها من مصدر لمعاناتها من التنمر والسخرية إلى وسيلة لشق طريقها المهني الناجح.
الخصر النحيل موضة قديمة؟
جاء ذلك بالتزامن مع إفساح المجال لموجة الاختلاف المتعلقة بالعارضات غير النمطيات وبينهن عارضات مصابات بأمراض جلدية مثل البهاق، أو محجبات، أو متحولات جنسياً. ولم تقتنع علامة الملابس الداخلية الشهيرة فيكتورياز سيكريت بهذه المعايير حتى عام 2019 حيث قررت حينها ضم آلي تايت كاتلر كأول عارضة أزياء بدينة لمجموعاتها مثيرة دهشة المتابعين، إذ لطالما تميزت عارضاتها بالنحافة. أما فيكتوريا بيكهام مصممة الأزياء البريطانية (50 عاماً) فبقيت طوال عقود تشجع على النحافة الزائدة بوزنها الذي لم يتجاوز الـ 47 كيلوغراماً بينما طولها 163 سنتيمتراً، ولكنها قبل عامين تقريباً وصفت النحافة بالموضة القديمة وقالت إنه يجب على النساء التمتع بقوام ممتلئ بعض الشيء، وإن كان هذا الرأي لم يترجم في مظهرها حتى الآن. ولكن حتى الآن لا يزال مفهوم “السوبر توب موديل” بمعناه الكلاسيكي أي النحيف، ينطبق على العارضات الأكثر طلباً، وبينهن بيلا حديد بوزن لا يزيد على الـ55 كيلوغراماً وطول 175 سنتيمتراً.

أوبرا وينفري
السمنة تؤرق النساء والرجال
وعلى رغم كون السمنة مصدر قلق للنساء أكبر من الرجال لكونهن تحت المجهر الاجتماعي دائماً، فإن الرجال باتوا أكثر حرصاً في السنوات الأخيرة على الحفاظ على النظام الغذائي الصحي وممارسة الرياضة للتمتع بقوام مثالي ليبتعدوا كذلك عن الأمراض التي تسببها السمنة والتي لا تفرّق بين الجنسين. حتى أنهم باتوا يشرحون تجاربهم من خلال فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تكون أيضاً هذه المنصات سبباً من أسباب هذا التوجه نحو المظهر اللائق.
العالم يعاني من البدانة
وبحسب تقرير نشرته مجلة The Lancet الطبية العام الماضي – بناء على إحصاءات عام 2022 – يعاني ما يزيد على المليار شخص في العالم من السمنة، أي نحو 1/8 من عدد سكان الكرة الأرضية. وعلى قائمة الدول العربية، أتت مصر الأولى في معدل السمنة بنسبة تقترب من 60 في المئة، تليها قطر ثم الكويت والعراق والسعودية وليبيا، بينما يأتي اليمن من بين المعدلات الأقل في الإحصائية بنسبة لا تزيد على 17 في المئة. وتنبهت مؤسسات الدولة في مصر لأزمة السمنة، وأشار إليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مناسبات عدة وتحاول الجهات المعنية تنظيم فعاليات رياضية لتشجيع المواطنين على ممارستها.
التنمر لا يرحم
لا يقلّ الجانب النفسي أهمية في أزمة الوزن، ويعاني النحيف كما السمين من التنمر في المجتمع. وتقول الدكتورة هالة حماد استشارية الصحة النفسية والعلاقات الأسرية، إن السمنة تسبب خلافات زوجية ويعتبرها الشريك مبرراً وحجة للخيانة. وتابعت: “الوزن الزائد قد يسبب مشكلة بين الشريكين إن كان أحدهما رياضياً ورشيقاً بعكس الثاني. أما في حال كان كلاهما غير مهتم بالمظهر فستكون المشكلة ثانوية. أما طبياً فيؤثر الوزن الزائد في العلاقة الزوجية لما يخلفه من أمراض معروفة، وكذلك على المستوى النفسي. إذ يحاول الطرف البدين تجنب النزهات على سبيل المثال، لأنها تشكل عبئاً بالنسبة إليه مما يخلق خلافات مزعجة. وقد تدخل الزوجة في دائرة مفرغة من الاكتئاب ولوم النفس وتلجأ لالتهام الطعام، عندما يحاول شريكها إقناعها بأنها السبب في خيانته لها لأنها لم تعد تروق له بسبب السمنة مما يفقدها الثقة بالنفس”.

عارضة الأزياء آشلي غراهام
مواقف مرتبكة
اللافت أن التقارير الدولية تقول إن العالم يتجه بسرعة نحو الترهل بسبب زيادة معدلات السمنة، كذلك فإن التقديرات كانت تشير إلى أن عدد “المليار بدين” كان من المفترض الوصول إليه في عام 2030 ولكنه تحقق قبل موعده المتوقع بنحو ثماني سنوات. يأتي هذا بعد أن تصاعدت الأصوات المنادية بعدم إطلاق الأحكام على أحد بسبب وزنه، وبعد استعانة دور الأزياء العالمية بالعارضات البدينات وبترحيب من مديريها، على عكس ما كان يحدث سابقاً عندما كان المصصمون العالميون يسخرون من البدينات وبينهم الألماني الراحل كارل لاغرفيلد الذي كان يؤكد أن لا أحد يرغب في رؤيتهن على منصات العروض وأن النحيفات يلائمن هذا المجال المرتبط بالأحلام والخيال، ولكن هذا التصريح كان عام 2011 أي قبل الثورة في مفاهيم الجمال.
ولكن على ما يبدو أن هذا المجال ومعه السينما والدراما في حالة ارتباك، فالدعوات مختلفة عن الواقع. وشهدت الأعوام الأخيرة تحولاً مذهلاً في مظهر النجوم تميزوا بالوزن الزائد منهم أديل وأوبرا وينفري وريبيل ويلسون وجيمس كوردن، وغيرهم. منهم من لجأ لحقن التخسيس التي شاعت أخيراً بعد أن فشلوا في إنقاص أوزانهم بالنظام الغذائي.
عربياً أيضاً أصبح التخلص من الوزن الزائد هاجساً لمشاهير أحبهم الجمهور بمظهرهم البدين بعض الشيء، وبينهم شيماء سيف ومها أحمد ومراد مكرم، وإلهام شاهين، ومنهم من لجأ للأنظمة الغذائية وآخرون للجراحة وغيرهم للحقن. ولطالما كانت السينما العربية مسرحاً لتقديم نجوم بدناء حققوا شهرة جارفة وبينهم جورج سيدهم وأنجيل رام وعلاء ولي الدين وشيكو وويزو، ولكن لم يكن يخلو عمل لهم من مشهد يعتمد على السخرية والتنمر على أوزانهم.
ولا بد من الإشارة إلى أن بعض النجوم وبخاصة الكوميديين يترددون في إنقاص أوزانهم ربما لأن بعض من سبقوهم من زملائهم خسروا بريقهم، إلا أن الصحة تبقى المعضلة الحقيقية إذ تقول الطبيبة وفاء وافي، إن المعايير المجتمعية والمهنية وحتى التفضيلات الشخصية توضع جانباً حينما يتعلق الأمر بالصحة.
معايير ضارة
وطالبت وافي باعتماد نظام صحي غير قاسٍ لضمان الالتزام به، والبحث عن وصفات سهلة وصحية والمواظبة على الرياضة، واعتبرت أن اللجوء لطرق مختصرة لإنقاص الوزن مثل الأدوية والجراحات وإذابة الدهون الموضعية وغيرها سببه غالباً عدم رغبة الشخص باعتماد أسلوب حياة صحي، محذرة من أن الابتعاد عن الطعام الصحي يسبب عودة سريعة لما كانوا عليه. واعتبرت وافي أن أسلوب الحياة الحالي يشجع على الإصابة بالسمنة بسبب استعمال السيارات بدلاً من المشي على الأقدام وانتشار الوجبات الجاهزة، وأيضاً ثقافة الأكل في المطاعم، مقارنة بما كان يحدث سابقاً حيث كان ينتظر الجميع العودة إلى المنزل لتناول وجبتهم الرئيسية ما يجعلهم يمارسون نظم الصيام المتقطع تلقائياً.

جيمس كوردن
وتلوم وافي بعض الأمهات والآباء الذين يجبرون أبناءهم على تناول النشويات بكثرة ليكتسبوا وزناً زائداً بحجة التمتع بالصحة والجمال، مشيرة إلى أنهم من دون أن يعلموا يقللون من عمر أعضاء أبنائهم مثل البنكرياس ويهددونهم بمشكلات جمة مثل البلوغ المبكر وأمراض المفاصل وغيرها.
وهو أمر تؤكده الدكتورة هالة حماد استشارية الطب النفسي والعلاقات الأسرية التي تقول إن بعض الثقافات بالفعل تشجع النساء بالتحديد على اكتساب وزن زائد، ومنها بعض المجتمعات العربية حيث تعتبر المرأة المليئة أجمل على عكس الثقافات الآسيوية على سبيل المثال. مشيرة إلى أن الامتلاء هنا لا يعني السمنة المرضية.