حرية ـ (20/4/2025)
في لحظة ما خلال ثمانينيات القرن الماضي، أدركت إيمي بون أن طفولتها لم تكن عادية. ففي وقت كانت صديقاتها يجمعن ما تبقى من مصروفهن ليشتركن في شراء “ميلك شيك” من “ماكدونالدز”، كانت هي تستقبلهن في مطعم والديها وتوقع الفاتورة بنفسها. تقول ضاحكة اليوم “كنت بالتأكيد صديقة ذات امتيازات!” لكن خلف هذا المشهد المرح، لم يكن كل شيء براقاً كما بدا.
تتأمل بون في تلك الأيام وتقول “على رغم أننا كنا دائماً محاطين بالناس، فإن الطفولة كانت موحشة إلى حد كبير… كان والداي يعملان ستة أيام في الأسبوع، ولم يكونا ينهيان دوامهما عند الخامسة مساء. قضيت كثيراً من الوقت في المطعم”.
كان والداها، بيل وسيسيليا، افتتحا مطعم “بونز” داخل منطقة كوفنت غاردن في لندن عام 1973، ونجحا في انتزاع نجمة ميشلان عام 1980، ليصبح أحد أشهر المطاعم الصينية في لندن، مساهماً في تغيير الصورة النمطية للمطبخ الصيني في بريطانيا.
وفي الحقبة ذاتها تقريباً، كانت ديبنا أناند تعيش تجربة مماثلة في منطقة ساوثهول. هناك، كان مطعم “بريلينت” أي “رائع” -اسم على مسمى- يحتل مكانة بارزة في حياتها. أسسه جدها في نيروبي خلال خمسينيات القرن الـ20، ثم نقله والدها غولو إلى لندن أوائل السبعينيات. وكان المطعم، المتخصص في المطبخ البنجابي، يحصد إعجاب السكان المحليين والنقاد وكبار الزوار على حد سواء.
أما بالنسبة إلى أناند “فالمطعم كان بمثابة بيت ثان… يعود بعض أقدم ذكرياتي إلى المطبخ، وأنا أراقب والدي وهو يطهو”. تتذكر كيف كانت ترتب الزجاجات، وتفرش أغطية ورقية على الطاولات، وتتعلم تقشير الثوم، ومد خبز التشاباتي، وخلط التوابل.
على مدار عقود، شكلت المطاعم الصينية والهندية العائلية، مثل هذه، العمود الفقري للشوارع التجارية في بريطانيا. لكنها اليوم تواجه منعطفاً حاسماً، إذ إن جيل الرواد بدأ يتقدم في السن، وأبناء هؤلاء الذين ترعرعوا بين طاولات الطعام وأبخرة المطابخ باتوا اليوم أمام مفترق طرق. قرر بعضهم طي الصفحة بالكامل، بينما عاد آخرون لكن بشروطهم الخاصة، وكثر باتوا يتساءلون، هل سنكون نحن الجيل الأخير؟ هل تنتهي القصة عندنا؟

مطعم “بون في كوفنت غاردن” خلال احتفالات رأس السنة الصينية
قبل ظهور تطبيق توصيل الطلبات “ديليفرو” وخدمة طلب الطعام من نافذة السيارة، كانت ذروة الإثارة في عالم الطعام تأتي في صينية قصدير أو تحت غطاء بلاستيكي شفاف (ولعلنا جميعاً نتذكر تلك الخزائن الممتلئة بعلب “تابروير” غير الأصلية التي صارت جزءاً من الهوية البريطانية). من برادفورد إلى أبيريستويث، كان المطعم الصيني أو الهندي المحلي هو أول نافذة نطل منها على مطبخ لا يشبه ما نعرف. صار مكاناً نحتفل فيه، وسندنا في مساءات منتصف الأسبوع، ونتوق إليه كطقس ثابت مساء كل جمعة. دجاج حلو وحامض، تيكا ماسالا، رقائق الروبيان، خبز البابادوم. نعم، كُيفت لتناسب الذوق البريطاني، لكنها كانت محبوبة على أية حال.
لم تكن تلك المطاعم تطعم بطوننا فحسب، بل تغلغلت في نسيجنا الثقافي والمطبخي. كثير منها أنشأه مهاجرون وجدوا في الطعام وسيلة للنجاة، ثم سلماً للنجاح. ما بدأ كحاجة اقتصادية، تحول إلى ركيزة ثقافية متجذرة.
ومع موجات الهجرة التالية تنوعت النكهات أكثر، انضمت مأكولات سيشوان وهونان إلى قائمة الأطباق الكانتونية [الأطباق المشهورة في مطبخ كانتون وهو إقليم قوانغدونغ جنوب الصين]، وتوسعت المائدة الهندية لتشمل كاري السمك من كيرالا وكلاسيكيات دابا البنجابية. وبحلول الثمانينيات، كانت كل مدينة بريطانية تقريباً تضم مطعمها الصيني أو الهندي، الذي كان أحياناً المصدر الوحيد للطعام الساخن بعد الساعة الثامنة مساءً عقب الخروج من الحانة. صحيح أن غداء الأحد الإنجليزي التقليدي لا يزال طقساً مقدساً، لكن كاري مساء الجمعة اكتسب هالته الخاصة أيضاً.
القصة الكلاسيكية لهذه المطاعم هي قصة تضحيات، ساعات عمل طويلة، عمل شاق لا يخلو من القسوة، وكرم ضيافة يمارس كنوع من الشرف. تقول إيمي بون “إدارة مطعم صيني لم تكن أبداً تقارن بمكانة الطبيب أو الصحافي أو المصمم أو المهندس أو الموسيقي أو الفنان أو مستشار الأعمال… كل من نشأ داخل مطعم صيني سيشهد على قسوة الساعات، والعمل المتعب المليء بالأوساخ، والنظرة السائدة بأنك تلجأ إلى هذا المجال فقط لأنك غير مؤهل لغيره”.
لم تكن تلك الصورة النمطية صحيحة يوماً بالطبع. كسر والد إيمي القالب منذ عام 1976، حين وضع مطبخاً زجاجياً في قلب مطعمه، في زمن كانت المطابخ المفتوحة ضرباً من الخيال. كان ذلك رده الصريح والواثق على التصور السائد بأن المطاعم الصينية متسخة أو عديمة الحرفة. كان سباقاً في تقديم الرز المطهو في قدور فخارية، وعرف زبائنه على اللحوم المجففة بالهواء. لم يكن طعامه يشبع الزوار فحسب، بل كان يحفر في الذاكرة، ويوقظ مشاعر لا تقل عمقاً عما نشعر به في حفلات الزفاف أو الجنازات.
تسترجع بون باعتزاز “الطاهي الشهير هنري هاريس يتحدث عن طبق الحبار المقلي بالثوم والفلفل الحار الذي تذوقه مع زوجته قبل 39 عاماً، ويصفه بأنه اللقمة التي غيرت مجرى حياته”. أما مايكل بيرت، أحد كبار مصوري البورتريه في بريطانيا، فيكتب عن طبق نودلز تذوقه في مطعم بون خلال السبعينيات ضمن مذكراته. والشيف الأسترالي المعروف إيان هيويتسون لا يزال يذكر بحنين “طبق الحبار الحار والثوم الرائع”.
أعرف الكثيرين ممن تركوا هذا المجال، إما لرغبتهم في نمط حياة مختلف أو لأنهم رأوا بأنفسهم مدى صعوبة هذا المجال.
ديبنا أناند، طاهية ومؤلفة
لكن على رغم أن الإرث محاط بكل هذا التقدير، فإنه لا يورث دائماً. فكثير من أبناء أصحاب هذه المطاعم نشأوا وهم عازمون على سلوك طريق مختلف كلياً عن ذاك الذي اختاره آباؤهم. تقول بون “لم يكن العمل في هذا المجال لامعاً أو محل احترام واسع، فلا عجب أن طفلاً نشأ في مطعم صيني يفضل سلوك طريق آخر”.
أما أناند، فكانت على النقيض تماماً، إذ غرقت في هذا العالم منذ اللحظة الأولى. تقول “لم تتوقع عائلتي مني يوماً إن أتسلم زمام العمل… لكن بالنسبة لي، كان القرار بديهياً تماماً”. احتاج أخوها وقتاً أطول ليجد طريقه، لكنه عاد أخيراً، واليوم يديران المطعم معاً.
وعلى رغم التماسك العائلي، فإن ملامح العمل تتبدل. مطعم “بريلينت” الذي ظل يفتح أبوابه لأكثر من نصف قرن، يستعد اليوم لإسدال الستار. وفي موقعه، تتجهز أناند وشقيقها لإطلاق مشروع جديد، حانة راقية تجمع بين روح الضيافة العائلية والنفس العصري. تقول “نحن لا نغادر عالم الضيافة، بل ننتقل إلى شكل آخر منها”. هذا الانتقال، من وجهة نظرها، لا يعني التخلي، بل البناء على إرث العائلة. وتتابع “تلك هي روعة العمل في الضيافة أنها تتيح لك التكيف من دون أن تقتلع جذورك”.

لمطعم الذي يحمل اسم “بريليانت” أو “الرائع” كان قد أُنشئ في لندن في أوائل السبعينيات
لكن ضغوط التغيير لا تقتصر على العاطفة، فثمة واقع اقتصادي يفرض نفسه بقوة. تقول أناند “تغيرت صناعة المطاعم بصورة جذرية، والحفاظ على مطعم تديره العائلة بات أكثر صعوبة من أي وقت مضى… أحد أبرز التحديات هو الارتفاع المستمر في الكلف، من أسعار المكونات إلى فواتير الغاز والكهرباء، مروراً بالمواد الخام والأجور”.
وترى أناند أن “الابتكار هو مفتاح البقاء في هذا القطاع”، لكنها تستدرك أن ليس كل ابتكار يصب في مصلحة المطعم.
قد تكون تطبيقات التوصيل مثل “ديليفرو” و”أوبر إيتس” غيرت جذرياً طريقة طلب البريطانيين للطعام، لكنها لم تفعل ذلك من دون ثمن. فعمولات هذه المنصات، التي تراوح ما بين 25 و35 في المئة، كفيلة بابتلاع هوامش الربح الضئيلة أصلاً. ولتعويض هذا النزف، يلجأ كثر إلى رفع أسعارهم على هذه التطبيقات، مما يجعل وجباتهم تبدو باهظة بصورة غير متناسبة، ويدفع ببعض الزبائن للنفور والابتعاد. والأسوأ من ذلك، أن هذه المنصات باتت تمارس دور الوسيط الذي ينتزع من أصحاب المطاعم صلتهم المباشرة بعملائهم، ويحرمهم من بياناتهم وولائهم. فالراحة التي تعد بها هذه التطبيقات، لا تبدو متبادلة دوماً.
أما بون، فقد خاضت بدورها تجربة الابتكار. بدلاً من إعادة فتح مطعم تقليدي، أطلقت مشروع “بونز لندن” من خلال فعاليات طعام موقتة وخط إنتاج للصلصات. متجرها في مجمع “سبا تيرمينوس” المخصص لإنتاج وتوزيع المواد الغذائية في لندن يقدم معجنات صينية طازجة إلى جانب تشكيلة من المواد الأساس في المطبخ الآسيوي. وعند سؤالها عن خطتها الكبرى، تضحك قائلة “أنا لا أمتلك استراتيجية لهذا الحد!”

بيل وسيسيليا بون في يوم زفافهما
ومع ذلك، فقد نجحت في صناعة مشروع حديث وشخصي الطابع. تقول “اسم العائلة ليس شيئاً جامداً. بل هو كائن حي يتطور ويتغير… ما كنت لأتمكن من إنجاز أي من هذا لولا المنصة التي منحني إياها والداي… أشعر دائماً وكأن هناك شيئاً من غاتسبي في ما أفعله [غاتسبي من رواية “غاتسبي العظيم”، الذي واصل بناء شيء جديد، لكنه يفعل ذلك على أساس التراث الذي أسسته عائلته وحافظ على جذوره] – لكن ليس بمعنى سلبي، أنا أعترف بكل ما سبقني، كي أتمكن من فعل ما أقوم به الآن”.
إذا كانت هذه الصورة تحمل طابعاً رومانسياً، فهي كذلك بالفعل. لكن في الوقت نفسه، هناك جانب من الواقعية أيضاً. فاليوم، نادراً ما تُفتتح مطاعم صينية أو هندية عائلية جديدة في بريطانيا، وكثير من المطاعم القديمة بدأ يغلق أبوابه بهدوء. وتقول أناند “في الماضي، على رغم أن العمل كان شاقاً، كانت الكلف العامة أقل، وكان هناك تدفق أقوى من الطهاة المهرة”. كما أن عادات الزبائن تغيرت أيضاً. وتضيف “يتوقع الناس خدمة أسرع، وراحة أكثر، وأسعاراً تنافسية، وهو ما يصعب تحقيقه مع الحفاظ على الجودة… في الوقت نفسه، أصبح الزبائن أكثر مغامرة، وزادت المنافسة”. كما أن نقص الكفاءات أصبح ملموساً أيضاً. وتتابع “أصبح من الصعب العثور على الطهاة المهرة الذين يفهمون المطبخ الهندي الأصيل، كما أن قليلاً من الشباب يدخلون هذا المجال”.
لكنها تبقى متفائلة بأن الجيل المقبل سيتكيف مع الوضع. ومع ذلك، هي صادقة في مشاعرها. وتقول “آمل بصدق أن تظل مطاعم الكاري العائلية موجودة بعد 20 عاماً، لكن الوضع لا يبدو مشجعاً جداً… هذه المطاعم أكثر من مجرد أماكن للأكل، فهي تمثل أجيالاً من التقاليد والشغف والعمل الجاد. لقد لعبت دوراً كبيراً في تشكيل حب بريطانيا للطعام الهندي، وستكون خسارة كبيرة إذا بدأت تختفي”.
تتمتع بون بتفاؤل أكبر قليلاً. وتقول “اتجاهات الطعام متقلبة ودائرية… قد يتضاءل عدد مطاعم الوجبات الصينية التقليدية، لكنني أعتقد أن تطوراً ما حدث”. وتشير إلى مفاهيم جديدة مثل “ثري آنكلز”، وهو متجر لحم مشوي كانتوني أنيق يعيد تقديم نكهات البط المعلق في نوافذ مطاعم الحي الصيني بأسلوب حديث مناسب للتناول السريع. وكذلك “رايس غايز”، وهو مشروع بدأ كعربة طعام في الشارع ثم تحول إلى علامة تجارية تركز على التوصيل، مقدماً تجديدات حديثة على أطباق تقليدية مثل “تشا شيو” و”مابو توفو”. كلاهما يمزج بين نكهات وراحة المطبخ الصيني التقليدي مع نموذج سريع وعصري وهوية معاصرة. وتقول بون “هذه أمثلة رائعة، مزدهرة ولذيذة للوجبات الصينية التقليدية، لكن تمت إعادة تصورها للجيل المقبل”، طعم مألوف، لكنه متخيل لزمن مختلف.
وتتفق كلاهما على أن النجاح اليوم يكمن في إيجاد طرق جديدة للحفاظ على القصص القديمة. وتعبر بون عن ذلك بصورة جميلة قائلة “لقد تقدم مختلف أصناف الناس ليشاركوا أعظم ذكرياتهم عن تناول الطعام في مطعم بون، وعن لقائهم بوالدي، وعن الطعام الذي كان يطهوه والدي لهم، وكيف كانت أمي تقدمه لهم”.
تضيف “ثم هناك قصصي الخاصة عن لقائي بأشخاص مثل شون كونري وباربرا سترايسند، اللذين لم أكن أعتقد أنهما يشكلان محط اهتمام أحد في ذلك الوقت!”
تعتقد أناند أن الابتكار الذي يحفظ القصص والتقاليد هو الطريق إلى المستقبل أيضاً. وتقول “بعض من أفضل المطاعم الهندية اليوم عبارة عن مفاهيم يقودها الطهاة، تتحدى الحدود بينما تحترم التقاليد في الوقت نفسه. أعتقد أن المستقبل سيكون مزيجاً من الاثنين”.
فهل نحن أمام آخر جيل؟ ربما لا. لكنه جيل مختلف. جيل نشأ بين التنور والكتب المدرسية، بين القدور الفخارية وأيام التوجيه المهني. جيل يعرف كم كان بناء إرث كهذا مكلفاً، وكم قد يكلف التخلي عنه. سواء اختاروا الإرث أو إعادة ابتكاره أو الابتعاد منه، هناك شيء واحد واضح، ما بنته عائلاتهم لا يزال يهمنا بقدر ما يهمهم. كانت هذه الأماكن التي سدت رمقنا في ليالي الجمعة الهادئة، قبل أن يصبح توصيل الطعام مجرد خوارزمية. قد يختفي عدد منها، لكن تلك التي ستظل صامدة تجد طرقاً جديدة للتكيف، تتطور من دون أن تنسى من أين بدأت. ونحن أيضاً لن ننسى.