حرية ـ (21/4/2025)
آدم أس. بوسن
في عام 2018، أثار الرئيس الأميركي دونالد ترمب جدلاً واسعاً عندما صور العجز التجاري بمليارات الدولارات الذي تعانيه الولايات المتحدة مع جميع الدول التي تتعامل معها تقريباً، على أنه مبرر كاف لخوض صراع اقتصادي بلا خوف، ففي تغريدة شهيرة قال إن “الحروب التجارية جيدة ويسهل الانتصار فيها”.
مع فرض الإدارة الأميركية رسوماً جمركية على الواردات من الصين تفوق نسبة 100 في المئة، عاد التوتر ليشتعل مجدداً في ما يعتبره كثيرون مرحلة أشد خطراً في النزاع التجاري القائم. وفي محاولة لتبرير هذه الخطوة، أطلق وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت تصريحاً يحمل نبرة التحدي نفسها، قائلاً إن “التصعيد الذي يقوم به الصينيون كان خطوة غير موفقة، فهم يلعبون بأضعف أوراق ممكنة في أيديهم. أما نحن، فما الذي سنخسره من زيادة بكين الرسوم الجمركية علينا؟ إن صادراتنا إليهم لا تقارن بما يضخونه في السوق الأميركية. وبالتالي، فالخسارة الأكبر تقع عليهم”.
بكلمات أكثير تبسيطاً، ترى إدارة الرئيس الأميركي أنها تمتلك ما يطلق عليه منظرو الألعاب “هيمنة في التصعيد” تجاه الصين وغيرها من الدول التي تعاني الولايات المتحدة عجزاً تجارياً ثنائياً معها. ووفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة “راند” RAND الأميركية البحثية فإن هذا المفهوم يشير إلى قدرة طرف ما على تصعيد النزاع بطرق تلحق بالخصم أضراراً وتكبده تكاليف لا يستطيع الرد عليها بالمثل. وإذا صحت هذه المقاربة، فإن أية محاولة من الصين أو كندا أو غيرهما من الدول المتضررة من التعرفات الجمركية الأميركية، ستكون في المحصلة، خاسرة.
لكن هذا المنطق خاطئ، والحقيقة هي أن الصين – لا الولايات المتحدة – هي التي تملك زمام المبادرة لجهة التصعيد في هذه الحرب التجارية. فواشنطن تعتمد بصورة كبيرة على المنتجات الصينية لتلبية حاجاتها من السلع الأساسية، وهي سلع يصعب استبدالها في المدى القريب أو تصنيعها محلياً من دون تحمل تكاليف مرهقة. قد يكون السعي إلى تقليص هذا الاعتماد هدفاً مشروعاً على المدى الطويل، لكن خوض مواجهة اقتصادية قبل سد هذه الثغرة هو أشبه بمقامرة خاسرة، ستكون نتائجها عكسية. وفي استعارة لتعبير الوزير بيسنت نفسه، فإن واشنطن، لا بكين، هي التي تراهن بكل ما لديها وفي يدها أوراق خاسرة.
كشف الأوراق
تبدو حجة الإدارة الأميركية خاطئة من ناحيتين، أولاً الحروب التجارية هي مضرة بطبيعتها بالجانبين، لأن كلاً منهما يفقد إمكان الوصول إلى السلع والخدمات التي يعتمد عليها اقتصادهما، التي يكون شعباهما والشركات على استعداد لدفع ثمنها. وكما هي الحال في النزاعات العسكرية، فإن الحرب التجارية هي شكل من أشكال الضرر المتبادل: فهي تعرض اقتصاد البلد المهاجم نفسه للخطر بمقدار ما تعرض اقتصاد البلد المستهدف. إذ لو لم يكن الطرف المدافع يعتقد أن بإمكانه الرد بطريقة تضر بالمهاجم، لكان استسلم.
أما تشبيه وزير الخزانة الأميركي التجارة بلعبة بوكر فليس صائباً، لأن البوكر تقوم على مبدأ “المحصلة الصفرية”، بحيث لا يربح أحد إلا بخسارة الآخر. أما التجارة، فعلى العكس تماماً، هي علاقة غالباً ما تحقق مكاسب متبادلة، وما ينفع طرفاً يعود بالنفع على الطرف الآخر أيضاً. في البوكر، إن لم تفز، تخسر كل ما راهنت به. أما في التجارة، فأنت تستعيد ما دفعته فوراً على شكل سلع وخدمات اخترت شراءها.
في ما يتعلق بالرسوم الجمركية، تنطلق إدارة الرئيس ترمب من فرضية مفادها بأن ارتفاع حجم الواردات يعني تقلص حجم الأخطار، وأن العجز التجاري مع الصين – التي تستورد الولايات المتحدة منها أكثر مما تصدر إليها – يجعلها أقل عرضة للضرر. هذا خطأ في فهم الوقائع وليس مجرد وجهة نظر، فالقيود على التجارة تؤدي إلى تراجع الدخل الحقيقي للدولة وتضعف قدرتها الشرائية. إذ إن الدول لا تصدر عبثاً، بل تقوم بذلك للحصول على عوائد مالية تمكنها من شراء ما لا تنتجه أو ما يصعب إنتاجه محلياً بكلفة معقولة.
إضافة إلى ذلك، حتى عند تحليل المسألة حصراً من زاوية الميزان التجاري الثنائي – كما تفعل إدارة ترمب – فإن الأرقام لا تشير إلى أن الولايات المتحدة ستكون في موقع قوة في حرب تجارية مع الصين. ففي عام 2024، بلغت الصادرات الأميركية إلى الصين 199.2 مليار دولار، في مقابل واردات منها بقيمة 462.5 مليار دولار، مما أدى إلى عجز تجاري مقداره 263.3 مليار دولار. وإذا اعتبر الميزان التجاري مؤشراً على الجهة التي تملك اليد الطولى في هذا النوع من المواجهات، فإن الكفة تميل لمصلحة الدولة صاحبة الفائض، لا الدولة التي تعاني عجزاً.
وفي الوقت الذي ستتخلى فيه الصين – بصفتها الدولة التي تتمتع بفائض تجاري – عن الإيرادات، وهي مجرد أموال متأتية من مبيعاتها، فإن الولايات المتحدة – صاحبة العجز – ستواجه أخطاراً أكبر تتمثل في عدم تمكنها من الوصول إلى سلع وخدمات تعتمد عليها، ولا تنتجها محلياً بصورة تنافسية أو لا تنتجها إطلاقاً. الأموال بطبيعتها مرنة وقابلة للاستبدال: إذ إنه يمكن تعويض فقدان الدخل عبر خفض النفقات، أو البحث عن أسواق بديلة، أو توزيع الأثر اقتصادياً على مختلف أنحاء البلاد، أو حتى السحب من المدخرات، كما يحدث عبر سياسات التحفيز المالي. والصين كغيرها من الدول ذات الفوائض التجارية، تنتج مدخرات تفوق حجم استثماراتها، مما يجعل عملية التكيف مع تراجع الصادرات إلى الولايات المتحدة أقل كلفة. بهذا المعنى لن تواجه نقصاً حاداً، وقد تتمكن من تعويض جزء كبير من الطلب الأميركي من خلال السوق المحلية أو عبر التوسع في أسواق أخرى.
الدول التي تعاني عجزاً تجارياً دائماً – كالولايات المتحدة – تميل إلى الاستهلاك بما يفوق مدخراتها. وفي سياق حرب تجارية، فإن هذا يضعها أمام خطر فقدان سلع ومواد أساسية تحتاج إليها، خصوصاً أن الرسوم الجمركية تؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتراجع الإمدادات. وعلى عكس المال، الذي يتميز بالمرونة وسهولة التعويض، فإن هذه السلع غالباً ما يصعب إيجاد بدائل لها أو استيرادها من مصادر أخرى في المدى القريب. ونتيجة لذلك، تتوزع الأعباء بصورة غير متكافئة، فتتضرر بعض القطاعات الاقتصادية أو المجتمعات أو الأسر، ولا سيما عندما تكون السلع المتأثرة حيوية ولا يمكن تعويضها على المدى القصير.
من جهة أخرى، تعتمد الدول التي تعاني عجزاً تجارياً، على رأس المال المستورد، مما يجعل الولايات المتحدة أكثر عرضة لتقلبات الثقة العالمية في استقرار حكومتها وجاذبيتها كمركز للأعمال التجارية. وعندما تتخذ إدارة ترمب قرارات غير متوقعة، كفرض زيادات ضريبية كبيرة وإحداث حال من عدم اليقين في سلاسل توريد الشركات المصنعة، فإن النتيجة المحتملة ستكون تراجع الاستثمار في الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى زيادة أسعار الفائدة على ديونها.
العجز والهيمنة
باختصار، سيعاني الاقتصاد الأميركي بصورة كبيرة في حال نشوب حرب تجارية واسعة مع الصين، خصوصاً في ظل الرسوم الجمركية الراهنة التي فرضها ترمب التي تتجاوز 100 في المئة، وإذا ما بقيت على حالها. في الواقع، سيتحمل الاقتصاد الأميركي العبء الأكبر مقارنة بالصين، وسيزداد هذا التأثير سوءاً إذا ما مضت الولايات المتحدة في التصعيد. وعلى رغم أن إدارة الرئيس دونالد ترمب قد تظن أنها تتخذ موقفاً حازماً، إلا أنها في الحقيقة تعرض اقتصاد الولايات المتحدة لخطر التصعيد الانتقامي من الصين.
كذلك ستواجه الولايات المتحدة نقصاً في مواد حيوية، بدءاً من المكونات الأساسية لمعظم الأدوية، وصولاً إلى أشباه الموصلات الرخيصة التي تستخدم في السيارات والأجهزة المنزلية، إضافة إلى المعادن الأساسية للعمليات الصناعية، بما في ذلك إنتاج الأسلحة. وستؤدي صدمة العرض الناتجة من خفض الواردات من الصين بصورة كبيرة أو تصفيرها – وهو ما يزعم أن ترمب يسعى إلى تحقيقه – إلى ركود تضخمي، وهو كابوس الاقتصاد الكلي الذي شهدناه في سبعينيات القرن الماضي وخلال جائحة “كوفيد – 19″، عندما انكمش الاقتصاد وارتفع التضخم بصورة حادة. في مثل هذا السيناريو الذي قد يكون أقرب مما يتوقعه كثيرون، لن يتبقى أمام كل من “الاحتياط الفيدرالي” Federal Reserve (المصرف المركزي الأميركي) وصانعي السياسات المالية في الولايات المتحدة، سوى خيارات غير مواتية، مع فرصة ضئيلة لمنع ارتفاع معدلات البطالة إلا من خلال زيادة التضخم.
في سياق حرب حقيقية، يعد استفزاز العدو، إذا كان لديك سبب للخوف من التعرض للغزو ولم تكن مستعداً بصورة كافية، ضرباً من ضروب الانتحار. هذا هو جوهر خطر النهج الاقتصادي لترمب: فبالنظر إلى أن الاقتصاد الأميركي يعتمد بصورة كبيرة على الواردات الصينية في السلع الأساسية (مثل الأدوية، والرقائق الإلكترونية الرخيصة، والمعادن الأساسية)، يعد قطع العلاقات التجارية من دون تأمين موردين بدلاء أو تعزيز الإنتاج المحلي، تهوراً كبيراً. ومن خلال القيام بعكس ذلك، فإن الإدارة الأميركية تتسبب بالأخطار نفسها التي تسعى إلى تجنبها.
حتى لو كانت تحركات الرئيس دونالد ترمب مجرد ورقة ضغط تفاوضية – على رغم التصريحات المتكررة له ولوزيره بيسنت وسلوكهما العملي – فإن هذه الاستراتيجية، في ظل المعطيات الراهنة، مرشحة لأن تسبب أضراراً تفوق فوائدها. وكما كنت نبهت سابقاً في مقالة نشرتها في “فورين أفيرز” في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإن جوهر الخلل في المقاربة الاقتصادية لترمب يتمثل في أنه سيحتاج إلى تنفيذ ما يكفي التهديدات التي تؤذي الولايات المتحدة نفسها، كي يكون ذا صدقية. هذا الأسلوب يكرس حالة من عدم اليقين في الأسواق ولدى الأسر، ويقوض الثقة في البيئة الاستثمارية للولايات المتحدة. وبدلاً من جذب الاستثمارات، سيدفع الأمر بالمستثمرين المحليين والأجانب إلى التراجع، ويضعف صدقية الحكومة الأميركية في الالتزام بأي اتفاق مستقبلي. ونتيجة لذلك، لن تنمو القدرات الإنتاجية للاقتصاد الأميركي، بل ستنكمش، مما يوسع دائرة النفوذ الصيني والدولي على حساب الولايات المتحدة.
في الخلاصة، إن إدارة دونالد ترمب تنخرط في مواجهة اقتصادية تشبه إلى حد كبير حرب فيتنام – الصراع الاختياري المرشح إلى أن يتحول سريعاً إلى مستنقع، يضعف الثقة بقدرة الولايات المتحدة وكفاءتها، سواء في الداخل أم على المستوى الدولي – وأعطانا التاريخ مثلاً واضحاً على الطريقة التي تنتهي بها مثل هذه النزاعات.
آدم أس. بوسن هو رئيس “معهد بيترسون للاقتصاد الدولي”