حرية ـ (21/4/2025)
فيديل سبيتي
يطلق علم النفس والإدراك على ميل البشر إلى فهم الأنماط العشوائية كأنها ذات معنى اسم “الأبوبينيا”
لنفترض وقوع هذا الحدث، أنه عند الساعة 11:11 من يوم 11-11-2011، وقف كثر أمام شاشات هواتفهم أو ساعاتهم يتأملون هذا التماثل الرقمي، وربما اعتقد كثير منهم بأن هذا التسلسل الرقمي ليس مجرد صدفة بل هو شيفرة كونية تخاطبهم، أو رسالة غامضة من فاعل أو قوة أو إرادة ما تتقن الاختفاء خلف الأرقام أو الظهور بمظهر الأرقام.
هذا الأمر يمكنه أن ينطبق على الأفراد أيضاً الذين يشاهدون إشارات في الأرقام وفي المناظر الطبيعية وفي الغيوم وفي ورق اللعب أو الأبراج وفنجان القهوة، وفي شتى المناظر التي قد يشعرون بأنها ترسل إشارات معينة لهم من دون غيرهم لتوصل رسالة ما، بل إن هذا الافتراض يحدث كل يوم في الواقع حين يختار المقبلون على الزواج تاريخاً معيناً لإقامة حفل الزواج على أن يكون الرقم متناسقاً بشكل يعني الزوجين، أو أن يختار آخرون أرقاماً معينة لسياراتهم أو للرقم السري لحقائبهم وخزاناتهم وحساباتهم المصرفية أو لحساباتهم الإلكترونية.
هناك أيضاً من يختار أرقاماً معينة لأوراق اليانصيب واللوتو التي يشتريها على مدى عقود ولا يبدلها، ويحسب آخرون ساعات ولادتهم مع تاريخ يوم وشهر وعام الولادة وحاصل جمع هذه الأرقام يفسرونه وفقاً لقواعد معينة منتشرة وموجودة في مواقع التنجيم أو مواقع تقدم نفسها على أنها تعنى بالأرقام وأسرارها ومعانيها، وهناك آخرون يرون وجوهاً معينة في جذوع الأشجار أو في الصخور أو شقوق الجدران وفي الغيوم، وغير الوجوه من صور معينة، وهناك مواقع على شبكة الإنترنت تفسر لهؤلاء الأشخاص معنى رؤية الغيوم على شكل قلب، وما الذي تعنيه هذه الرسائل أو رؤية شكل العين في كل مكان أو رؤية الأرقام مرتبة بشكل لا يبدو مصادفة، خصوصاً حين تتكرر هذه الرؤى بصورة دائمة.
الشغف بتفسير الأنماط العشوائية
يطلق علم النفس والإدراك على ميل البشر إلى تفسير الأنماط العشوائية كأنها ذات معنى اسم “الأبوبينيا”، وقد اشتهر منها مثال رؤية وجه المسيح أو وجه بوذا أو غيرهما من الأشخاص المقدسين لدى المؤمنين على شطيرة أو في الغيوم أو في شقوق عشوائية على سطح أسمنتي، ومثلها رؤية وجوه على جدار قديم وإشارات في تجمع للغيوم، وهؤلاء المدمنون مثل هذه المشاهدات يعتقدون أنها ليست مصادفات عبثية بل رسائل كونية.
وعندما يتحول هذا التفسير البصري أي “الأبوبينيا” إلى حالة ذهنية إيمانية واعتقادية يطلق عليه اسم “الباريدوليا”، مثل اعتبار بعض الناس أن برجي مركز التجارة العالمي يمثلان الرقم “11” كإشارة مشؤومة، وقد أضاف آخرون أبعاداً أخرى على عملية سقوط البرجين لأنها وقعت في تاريخ 9-11 كتأكيد على علاقة الأمر بالأرقام وتأثيراتها.
قد يكون لقاء الأبوبينيا والباريدوليا، أي مشاهدة الظواهر ومن ثم تفسيرها ذهنياً ناتجاً من حاجتنا إلى التعرف إلى الأنماط التي نراها وتعريفها وتفسيرها، وهي حاجة كانت قد نمت لدى أجدادنا القدماء منذ بدأوا اكتشاف وتعريف كل ما يحيط بهم، فهذه الطريقة هي التي أنقذتهم من الحيوانات المفترسة المتربصة خلف الصخور والأشجار بلا حراك، ومن الحشرات والزواحف التي يمكنها الاختفاء والتلون بلون المكان والتمويه. ويفسر علم الأعصاب الباريدوليا بأنها نتيجة نشاط منطقة في الدماغ تعرف بالتلم القفوي في الفص الصدغي، وهي المنطقة المسؤولة عن التعرف إلى الوجوه.
هل الإيمان بالإشارات مرض نفسي؟
لا يمكن اعتبار الميل إلى تفسير الأنماط العشوائية مرضاً، ففي علم النفس وعلوم الدماغ تجيب سلباً على وضع المؤمنين بالإشارات والظواهر فوق الطبيعية في خانة المرضى النفسيين، ولو أن هذه الإيمانات ترتفع لدى المصابين بالفصام، ولكن هذا لا يعني أن كل المصابين بالفصام مرنمون بالضرورة بالرسائل الكونية، ولا كل المؤمنين بها مصابون بالفصام، فالأمر جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، بل وقد تكون أداة فنية تسهم في خلق الإلهام لدى الفنانين والشعراء الذين صنفهم فرويد بالمجانين الاجتماعيين بسبب قدرتهم على تصعيد جنونهم بواسطة أعمالهم الفنية وقصائدهم.
وبحسب علماء النفس فإن هذا الأمر يظهر بوضوح في لوحات سلفادور دالي أو في موسيقى بيتهوفن وباخ وغيرهم، فالأبوبينيا يمكنها أن تصبح وسيلة للخلق والتعبير فوق الواقعي أو السوريالي وتمثيلاً مادياً للاوعي الإنساني بصور فنية وعلمية أيضاً، فعلى سبيل المثال يقول ألبرت أينشتاين إنه “بقدر ما تشير قوانين الرياضيات إلى الواقع، فهي غير مؤكدة، وبقدر ما هي مؤكدة، فإنها لا تشير إلى الواقع”.

قد ينهمك البعض في محاولة الربط بين أرقام ودلالاتها
عالم الفيزياء الشهير نيكولا تسلا كان معروفاً بهوسه بالأرقام 3 و6 و9، بل واعتبرها مفاتيح للطاقة الكونية، وكان معروفاً عنه أنه يدور حول الأبنية ثلاث مرات قبل أن يدخلها، وقوله “لو كنت تعرف عظمة الأرقام 3 و6 و9، لامتلكت مفاتيح الكون”، وبات شهيراً بل ودفع كثيراً من العلماء والباحثين والحشريين إلى البحث في عوالم هذه الأرقام الثلاثة.
وهناك كثر يعتبرون أن الرقم 3 رمز للثالوث، الأب والابن والروح، ورمز لثلاثي النفس والعقل والجسد، وهو عند الصوفيين يشير إلى الوحدة المتجلية في الكثرة، أي الرقم الذي يجمع الرقم واحداً الفردي والرقم اثنين المزدوج، ومثال لثلاثي السماء والأرض والبحر، لثلاثي الماضي والحاضر والمستقبل.
أما الرقم 6 فهو رقم التوازن والخلق، لأن العالم خلق في 6 أيام بحسب الأساطير الدينية السماوية وفي كثير من أديان الشعوب القديمة، وهو هندسياً تمثيل للنجمة السداسية أو رمز تداخل السماوي بالأرضي، كما الحال في نجمة داوود التي هي إشارة دينية في الهندوسية أيضاً، ثم الرقم 9 فيعتبر نهاية دورة الأرقام من 1 إلى 9، وهو في الأديان والتقاليد الشرقية رقم “الاكتمال”.
وتسلا ليس وحيداً في هوسه بالأرقام، فليوناردو دا فينشي الذي يعتبر من أواخر الفلاسفة الموسوعيين كان يرى النسبة الذهبية أو الرقم 1.6180339887 أو كما كان يسميها العدد الإلهي فاي ϕ)) تتكرر في الطبيعة وفي جسم الإنسان وفي الأصداف وفي الزهور وحتى في وجه موناليزا، وهذه النسبة كانت بالنسبة إليه إشارة إلهية تدل على التصميم الكوني المتقن. أما الفيلسوف العربي أبو حامد الغزالي فقد رأى في انتظام الأشكال في الكون إشارات تدل على وحدانية الخالق، وكان يؤمن بأن العقل يستطيع أن يرى هذه التوقيعات في حال التعمق في تفاصيل تشكيل المخلوقات، أما الشاعر والروائي الإنجليزي ويليام بليك فكان يرى رؤى ورسائل في الغيوم وفي الظلال والأشجار، وقد كتب عنها كأنها رسائل من عوالم الأخرى.
لكن العالم الأبرز والأشهر في التفسير والبحث في مثل هذه الظواهر والإيمان بها كان عالم النفس الشهير كارل يونغ، وهو أحد تلامذة مؤسس علم النفس سيغموند فرويد وأحد مساعديه في وضع معظم نظرياته كان يرى في ما نعتبره مصادفات متكررة بأنها إشارات سماها “synchronicity”، وكان يقول إن ما قد تعتبره حدثاً غريباً قد يكون “رسالة” شخصية لك. وكثيراً ما اعتبر يونغ أن العقل الباطن والكون يتفاعلان عبر رموز وأرقام وأحداث متزامنة لها معنى شخصي وروحي، وكان يرى في الأحلام والأرقام المتكررة إشارات معينة يرسلها اللاوعي الجمعي أو النفس الكونية.
النبي يوسف كما رويت قصته في الكتابين الدينيين التوراة والقرآن رأى الرموز في الأحلام وفسرها كإشارات مستقبلية، وكذلك النبي موسى رأى النار فكانت كلاماً إلهياً، والشيخ الصوفي محيي الدين بن عربي كان يرى في الحروف والأعداد معاني كونية باطنية أو “وجهاً” للحق، وحتى الناس العاديون فإنهم يرون كثيراً عن مستقبلهم في فنجان القهوة أو في نمط سير خط النمل على الأرض أو في تشققات الجدران.

يختار أزواج مواعيد الزفاف كدلالة لرموز في حياتهم
ويقال إن الشاعر العربي ابن الرومي كان متطيراً من الإشارات بشكل كبير، فإذا رأى شقوقاً في الأرض على شكل (لا) وبجانبها حبة تمر، كان يفسرها بـ(لا تمر) فكان يعود أدراجه ولا يكمل طريقه. وكان الرسام السوريالي الإسباني سلفادور دالي مولعاً بالتفسيرات الباريدولية، وكانت لوحاته تعج بوجوه خفية وأجساد مشوهة ووجوه مكنونة في صخور لوحاته، وكان يؤمن أن هذه الأرقام تمثل مفتاحاً لفهم الطاقة والتردد.
كل هذه المشاعر والأحاسيس البشرية تجاه الرموز والإشارات ومحاولة تفسيرها لها أساس في أعماق النفس البشرية تتعلق بالرغبة في البحث عن معنى للظواهر غير المفهومة أو الواضحة أو المباشرة، ولهذا لم تعتبر هذه الإيمانات بالإشارات والظواهر الخارقة اضطراباً نفسياً، بل ظاهرة طبيعية مرتبطة بحاجة الدماغ البشري منذ فجر التطور إلى ربط النقاط والأمور والأسباب والنتائج، فإن يرى وجهاً بين الأشجار فقد يعني أن هناك عدواً متربصاً، وما بدأ كحماية من أخطار الطبيعة الخفية فتح الباب على مصراعيه للدماغ البشري لإعادة تفسير الظواهر والإشارات، فكان اللاوعي والأسطورة والماورائيات والأمور الخارقة للطبيعة.