حرية ـ (26/4/2025)
مايكل بي جي فرومان
في أوائل فبراير (شباط) الماضي، وأثناء تحليقه على متن طائرة الرئاسية فوق المسطح المائي الذي كان قد أعاد تسميته قبل فترة وجيزة بخليج أميركا، أعلن الرئيس دونالد ترمب أنه سيفرض رسوماً جمركية على واردات الصلب والألمنيوم كلها. وبعد أسبوعين، أصدر مذكرة رئاسية تتضمن توجيهات جديدة لعمليات التدقيق في استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة واستثمارات الشركات الأميركية في الصين. وعلى مدار الأسابيع الأولى من إدارته، شدد ترمب على أهمية إعادة التصنيع إلى البلاد، داعياً الشركات إلى صنع منتجاتها داخل الولايات المتحدة لتفادي الرسوم.
في ضوء الرسوم الجمركية والحمائية، والقيود على الاستثمار، والإجراءات المصممة لتحفيز الإنتاج المحلي، باتت سياسات واشنطن الاقتصادية تشبه في شكل لافت السياسات التي اتبعتها بكين خلال العقد الماضي من الزمن أو أكثر – هي سياسات صينية بسمات أميركية.
كانت الاستراتيجية الأميركية في التعامل مع الصين تستند إلى فرضية مفادها إذا تمكنت الولايات المتحدة من دمج الصين في النظام العالمي المستند إلى القواعد فإن الأمر كفيل بجعل الأخيرة شبيهة بالولايات المتحدة. وعلى مدى عقود من الزمن، ظلت واشنطن تعظ بكين بضرورة الابتعاد عن الحمائية، وإزالة الحواجز أمام الاستثمارات الأجنبية، وضبط استخدام الإعانات والسياسات الصناعية – لكن النجاح كان محدوداً. ومع ذلك استمر الأمل بأن يؤدي الدمج إلى تقارب.
حصل قدر لا بأس به من التقارب بالفعل – لكن ليس على النحو الذي توقعه واضعو السياسات الأميركيون. بدلاً من أن تصبح الصين شبيهة بالولايات المتحدة، بدأت الولايات المتحدة تتصرف على نحو شبيه بالصين. قد تكون واشنطن هي الطرف الذي صاغ النظام الاقتصادي الليبرالي المستند إلى القواعد، لكن الصين هي من حدد ملامح مرحلته التالية: الحمائية، والإعانات، والقيود على الاستثمار الأجنبي، والسياسات الصناعية. بالتالي، فإن القول بضرورة استعادة الولايات المتحدة لقيادتها من أجل الحفاظ على النظام القائم على القواعد يغفل الحقيقة الأهم: لقد أصبح الاقتصاد العالمي محكوماً برأسمالية الدولة القومية الصينية، وواشنطن تعيش بالفعل في عالم صنعته بكين.
الانفتاح
في تسعينيات القرن الـ20 وبداية الألفية الجديدة، كانت المؤشرات كلها تدل على أن الصين تمضي قدماً في مسيرة لا رجعة فيها نحو التحرر الاقتصادي. بني هذا المسار على إصلاحات بدأها الزعيم الصيني دنغ شياوبنغ أواخر السبعينيات حين فتحت الصين أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية. ومن ثم واصل الرئيس جيانغ زيمين ورئيس الوزراء تشو رونغجي هذه المسيرة اللافتة، وإن كانت مؤلمة، من الإصلاحات الاقتصادية. لقد أعادا هيكلة المؤسسات المملوكة للدولة، وسرحا عشرات الملايين من عامليها، ووسعا نطاق النشاط في القطاع الخاص، وسمحا للشركات بتعديل الأسعار وفق آليات السوق، ومهدا الطريق أمام انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية.
كان جيانغ وتشو يؤكدان مراراً أن الصين ستواصل انفتاحها لا محالة. وذهب كثر في الغرب إلى حد الاعتقاد أن هذا التحرر الاقتصادي سيقود إلى تحرر سياسي، إذ إن المجتمع الرأسمالي يتحول بمرور الوقت إلى مجتمع أكثر ديمقراطية، لكن تلك الفرضية ثبت خطؤها. لم يفكر القادة الصينيون بجدية يوماً في الإصلاح السياسي، إلا أن النمو الاقتصادي الصيني كان لافتاً على أي حال. ارتفع ناتج الصين المحلي الإجمالي من 347.77 مليار دولار عام 1989 إلى 1.66 تريليون دولار في 2003، ثم إلى 17.79 تريليون دولار في 2023، بحسب البنك الدولي. وكان الأمل كبيراً بأن يؤدي دمج الصين في نظام التجارة المستند إلى القواعد إلى عالم أكثر سلماً وازدهاراً. وأسهمت العولمة فعلاً في انتشال أكثر من مليار إنسان من الفقر، وهذا إنجاز مذهل، لكن مزايا هذا التقدم لم توزع بالتساوي، ودفع بعض العاملين والمجتمعات المحلية في البلدان الصناعية الثمن في مقابل صعود الآخرين.
ثم دخل الرئيس هو جينتاو المشهد، وتلاه الرئيس شي جينبينغ. وتبين أن مسار الصين الاقتصادي لم يكن خطياً ولا حتمياً كما ظن كثر. في عهد هو، عمقت الدولة تدخلها في الاقتصاد من خلال السعي إلى إنشاء “مؤسسات وطنية رائدة” في قطاعات استراتيجية عبر تقديم إعانات ضخمة، أي إن الحكومة وسعت دورها بدلاً من المضي قدماً في تحرير السوق. وفي الوقت نفسه أسهم تدفق الواردات الصينية الرخيصة في تسريع وتيرة انحسار التصنيع في الولايات المتحدة – وفي شكل لم يتوقعه أحد تقريباً. أصبحت الصين مصنع العالم، وتجاوزت عمالقة التصنيع مثل اليابان وألمانيا خلال العقد الأول من هذا القرن. عام 2004، شكلت الصين تسعة في المئة من القيمة المضافة الخاصة بالتصنيع في العالم، وقفزت حصتها إلى 29 في المئة في 2023، وفق البنك الدولي.
كيف فازت الصين؟
واصلت واشنطن الضغط على بكين طوال تلك الفترة لحضها على تنفيذ أجندتها الإصلاحية، داعية إياها إلى فتح أسواقها، وعدم فرض رسوم جمركية مرتفعة أو حواجز أخرى على المنتجات الأميركية. كذلك طالبت بالسماح للشركات الأميركية بالاستثمار في الصين من دون أن تمنع من ولوج قطاعات معينة أو تجبر على إبرام شراكات مع شركات محلية وتحويل التكنولوجيا الأميركية إليها. وطالبت كذلك بوقف الإعانات الحكومية المخصصة لإنتاج وتصدير المنتجات، والتي كانت تشوه السوق العالمية، لكن هذه القائمة الطويلة من المطالب لم تلق آذاناً صاغية.
عام 2009، قادت إدارة أوباما جهوداً لاستكمال “جولة الدوحة” – وهي مفاوضات تجارية متعددة الأطراف بدأت تحت مظلة منظمة التجارة العالمية عام 2001. اتخذ هذا القرار لأسباب من أهمها أن الاتفاق الذي كان يتوقع أن يفضي إليها تلك الجولة كان سيمنح الصين وضع “البلد النامي” في شكل دائم من ضمن قواعد المنظمة. وكان ذلك سيتيح لها التمتع بـ”معاملة خاصة وتفضيلية”، أي إنها لن تكون ملزمة بتحمل المستوى نفسه من الالتزامات والانضباط – في ما يتعلق بالنفاذ إلى الأسواق، وحماية حقوق الملكية الفكرية، وغيرهما – الذي تتحمله الولايات المتحدة والبلدان الصناعية الأخرى. وتعرضت واشنطن حينها إلى انتقادات شبه جماعية بسبب تشجيعها على إعادة النظر في أسس تلك المفاوضات، لكن حتى في ذلك الوقت كان واضحاً أن استمرار السياسات الاقتصادية الصينية من دون معالجة سيؤدي إلى اضطراب كبير في نظام التجارة العالمي.
الولايات المتحدة تعيش بالفعل في عالم شكلته الصين
ثمة دوافع مماثلة جعلت إدارة أوباما تسعى إلى إبرام “اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ” Trans-Pacific Partnership، وهو اتفاق تجاري عالي المعايير تفاوض عليه 12 بلداً من البلدان التي تطل على المحيط الهادئ. وصممت هذه المبادرة لكي توفر للبلدان الآسيوية بديلاً جذاباً عن النموذج الذي تطرحه الصين. ضم الاتفاق مجموعة متنوعة من البلدان المستعدة لاعتماد معايير صارمة في حماية العاملين والبيئة، والحد من استخدام الإعانات، وفرض الانضباط على الشركات المملوكة للدول، ومعالجة مخاوف محددة تتعلق بالصين، مثل حماية حقوق الملكية الفكرية، لكن بحلول وقت انتهت فيه المفاوضات على الاتفاق عام 2015، كانت الاتفاقات التجارية – حتى تلك المصممة لموازنة نفوذ الصين – قد أصبحت ضارة سياسياً في الساحة الداخلية الأميركية، فانتهى الأمر بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق.
بين عامي 2009 و2017، توليت أولاً منصب نائب مستشار الأمن القومي للشؤون الاقتصادية الدولية، ثم منصب ممثل الولايات المتحدة التجاري. وخلال تلك الفترة، حذرت نظرائي الصينيين باستمرار من أن البيئة الدولية المواتية التي سمحت بنجاح الصين لن تستمر ما لم تعدل بكين سياساتها الاقتصادية العدوانية، لكن الصين واصلت مسارها إلى حد بعيد، بل إنها ضاعفت التزامها بهذا النهج. عندما تولى شي جينبينغ السلطة عام 2012، أنهى فعلياً حقبة “الإصلاح والانفتاح” التي كانت قد تعثرت في عهد هو جينتاو، ووضع الصين على مسار يهدف إلى الهيمنة على التكنولوجيات الحيوية، وزاد الإنتاج إلى حد أدى إلى فائض في الطاقة الإنتاجية، والتزم بنمو تقوده الصادرات. واليوم، كما يشير الاقتصادي براد سيتسر، ينمو حجم صادرات الصين بمعدل يفوق ثلاثة أضعاف معدل نمو التجارة العالمية. وفي قطاع السيارات، تسير الصين نحو امتلاك طاقة إنتاجية تكفي لتلبية ثلثي الطلب العالمي. ويتجاوز نفوذ الصين قطاع السيارات، إذ تنتج أيضاً أكثر من نصف المعروض العالمي من الصلب والألمنيوم والسفن.
في نهاية المطاف، بدأت الشركات الأميركية نفسها، التي كانت تاريخياً ركيزة الاستقرار في العلاقة الثنائية، تتذمر من الصين بعدما سرقت ملكيتها الفكرية أو أجبرت على ترخيص استخدامها، وتعرضت إلى إقصاء عن السوق الصينية أو تأخير كبير في النفاذ إليها، بينما كانت الإعانات والتفضيلات الممنوحة إلى الشركات المحلية الصينية تقلص من فرصها. ومع غياب مبدأ المعاملة بالمثل، بدأت العلاقة بالتدهور. وتشدد السياسيون في كلا الحزبين الأميركيين، ومعهم الرأي العام الأميركي، في مواقفهم تجاه الصين. كذلك بدأت أوروبا والاقتصادات الكبرى الصاعدة تعادي سياسات بكين. باختصار، اختفت البيئة الدولية المواتية.
بعد فشل واشنطن في إقناع بكين بتغيير سياساتها الاقتصادية العدوانية أو فشلها في المضي قدماً نحو إنشاء تكتل تجاري بديل لموازنة نفوذ الصين، لم يبق أمامها سوى خيار واحد: جعل الولايات المتحدة أشبه بالصين. بعد عقود من انتقاد الصين لفرضها رسوماً جمركية مرتفعة وقيوداً أخرى على الصادرات الأميركية، بدأت الولايات المتحدة في إقامة الحواجز نفسها. وفق حسابات الاقتصادي تشاد باون، فرض ترمب رسوماً جمركية رفعت متوسط معدل التعرفة على الواردات من الصين من ثلاثة في المئة إلى 19 في المئة خلال ولايته الأولى، وشملت هذه الرسوم ثلثي الواردات الصينية كلها. وحافظ الرئيس جو بايدن على هذه الرسوم، بل أضاف رسوماً على منتجات صينية أخرى، مثل معدات الوقاية الشخصية، والسيارات الكهربائية، والبطاريات، والصلب، مما زاد قليلاً من متوسط الرسوم الجمركية على الواردات الصينية. وبعد أقل من شهرين على بدء ولايته الثانية، فرض ترمب رسوماً إضافية بنسبة 20 في المئة على واردات الولايات المتحدة من الصين كلها – في إجراء يفوق في حجمه مجموع الرسوم التي فرضها في ولايته الأولى وتلك التي فرضها بايدن.
وبالمثل، غيرت الولايات المتحدة نهجها من معارضة القيود على الاستثمارات الثنائية إلى فرض قيود صارمة على الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة، وعلى الاستثمارات الأميركية في قطاعات حساسة داخل الصين. تراجعت الاستثمارات الصينية السنوية في الولايات المتحدة من 46 مليار دولار في 2016 إلى أقل من 5 مليارات دولار في 2022، بحسب “مجموعة روديوم”. وبعدما كانت واشنطن تدعو بكين إلى التخلي عن سياسات الإعانات والدعم الصناعي، تبنت هذه السياسات بنفسها خلال عهد إدارة بايدن، مع تخصيص ما لا يقل عن 1.6 تريليون دولار بموجب “قانون استثمار البنية التحتية وفرص العمل” لعام 2021، و”قانون الرقائق والعلوم” لعام 2022، و”قانون خفض التضخم” لعام 2022.
إذا عجزت عن هزيمته، فكن جزءًا منه
للمضي أبعد في تبني النهج الصيني، يمكن للولايات المتحدة اعتماد أداة أساسية من أدوات بكين: اشتراط أن تبرم الشركات الصينية التي تستثمر في الخارج شراكات مع شركات محلية، وتنقل التكنولوجيا إليها. قد تعزز تلك الاستراتيجية من القدرة التنافسية الصناعية الأميركية، وكذلك من قدرة بلدان أخرى متضررة من فائض الطاقة الإنتاجية الصينية، بما فيها بلدان أوروبية كثيرة.