حرية ـ (27/4/2025)
مع استمرار الانجراف وراء التكنولوجيا التي لم ينكفئ جديدها عن إبهارنا، يبدو هذا السعي المحموم وكأنه يقطع آخر الخيوط التي تربطنا بالطبيعة الأم، وينسينا تلك الروابط الأصيلة التي تربط الطبيعة بالصحة والتشافي وغيرها من الأصول التي تضمن استمرار جودة الأداء البشري، بخاصة بعد جائحة “كوفيد-19” التي أعادت السؤال الأزلي حول نفع كل التطور المعرفي والحياتي من دون طبيعة وصحة.
وفي هذا السياق نجد الهندسة المعمارية ومحترفيها من أوائل المنتبهين والمنبهين إلى هذا التفصيل الأساس في حياة البشر، ومع استمرار دمج العناصر الطبيعية وألوانها في التصاميم العصرية، نرى توجهاً أكثر تكثيفاً في سبيل استجلاب الطبيعة على نحو أقوى إلى داخل الوحدات السكنية وتلك الخاصة بالرعاية الصحية، بغرض الإسهام في الاستشفاء الآمن والسريع.
العلاج بالطبيعة
وأُثبت تأثير الطبيعة في التشافي وسُمي “العلاج الطبيعي” أو البيئي، وهو تطبيق علاجي مستمد من عالم الطبيعة لتعزيز الصحة البدنية والنفسية، فيستمد هذا النوع من العلاج من الخصائص العلاجية للطبيعة من خلال قضاء الوقت في البيئات الطبيعية، ويستند العلاج الأخضر إلى مفهوم أساس مفاده بأن قضاء الوقت في الطبيعة يساعد على تحسين المزاج وتعزيز مشاعر السعادة والرضا وخفض مستويات التوتر ودعم الوظائف الإدراكية والصحية ككل.
وتُعزى هذه الفوائد إلى التجارب الحسية العميقة التي تتيحها الطبيعة، ودرجة تأثيرها في فيزيولوجيا الجسد من ناحية تقليل إفراز المواد الكيماوية المسببة للتوتر والإجهاد وتعزيز إنتاج الهرمون الداعم للصحة النفسية وتعزيز وظائف المناعة.
والمؤكد أن فكرة قدرة الطبيعة على شفاء المرضى نفسياً وجسدياً ليست مفهوماً جديداً، إذ أدركت ثقافات مختلفة الصلة بين المساحات الخضراء والشفاء بدءاً من الطاويين الصينيين وصولاً إلى العصور الوسطى وحدائق الأديرة الأوروبية العلاجية، وتأتي التأثيرات العلاجية للطبيعة من آليتين رئيستين، الأولى أن مشاهدة الطبيعة تحول الانتباه بعيداً من الألم، والثانية أنها تحفز إطلاق نواقل عصبية (مادة كيماوية) تعزز الشعور بالسعادة من خلال الاستمتاع بجمال الطبيعة.
عمارة متمحورة حول الإنسان
وتشير الأبحاث والدراسات العلمية اليوم إلى أن دمج العناصر الطبيعية في تصاميم المستشفيات أمر بالغ الأهمية، إذ تسهم المساحات الخضراء في توفير دعم حيوي للمرضى الذين يواجهون تحديات جسدية أو نفسية، وبالتزامن معها تعمل المستشفيات على إعادة دمج المساحات الخضراء في تصميماتها لتحسين تجربة كل من المرضى والطاقم الطبي على حد سواء.
ومع تقدم التكنولوجيا وتراجع أهمية العلاقة بين الطبيعة والشفاء تدريجاً، انخفضت قيمة الحدائق في المستشفيات، والحقيقة أنه من خلال دمج المساحات الخضراء في العمارة الطبية، يسهم المصممون في تحول مجتمعي نحو نهج أكثر شمولية للرعاية الصحية.
وتظهر أمثلة كثيرة لتصاميم تشتهر بهندستها المعمارية المتمحورة حول الإنسان والتي تدور حول مبادئ فلسفية تتلخص بالسلامة والابتكار واحترام البيئة والتكامل الحضري، وكلها في إطار يرتكز على الإنسان ذاته وحاجاته ورفاهه وسلامته، استلهمت تصاميمها من السؤال التالي، هل بإمكان الهندسة المعمارية أن تسهم إيجاباً في صحة المرضى؟
استعادة مفهوم حدائق الاستشفاء
مؤسسة “سانتا في دي بوغوتا” مستشفى رائد في كولومبيا، وصُمم المبنى كتوسعة لمستشفى قائم ويتألف من 12 طابقاً يضم مجموعة مرافق، بما في ذلك وحدات الاستشفاء ووحدة العناية المركزة وغرف العمليات والتصوير التشخيصي ومنطقة العيادات الخارجية والخدمات اللوجستية وغيرها.
ويغطي البناء الطوب الأحمر متناغماً مع للمباني المحيطة، ويُثبت الطوب بكابلات معدنية ويشكل شبكة هوائية فوق المبنى المرتفع.
ويشكل سقف الطابق الأساس رواق واسع مفتوح يتصل بالطابق الأول ويطل بسلالم على الشارع والمباني القائمة، استُبدلت بعضاً من حجارة الرصف في الرواق بالنباتات التي تتفاوت أنواعها في الارتفاع لتكسر رتابة استواء وصلابة الأرضية، بينما خصص الطابق السابع ليكون قاعة محاضرات وصالة طبية.
ونجد في الطابق التاسع حجرة السولاريوم وهي المساحة التي كان الهدف منها استعادة مفهوم مستشفى الحدائق أو حدائق الاستشفاء، إذ تتيح للمرضى فرصة التواصل مع الطبيعة، فيخترق الضوء واجهة الجدار خلال النهار ليصل إلى النباتات في الحجرة، وفي الوقت ذاته صممت ليظل المرضى على اتصال بالمدينة وتواصل مع العالم الخارجي مع الحفاظ على سلامتهم وأمنهم، مما يقلل من التوتر وظروف العزل.
وأتاحت ظروف الإضاءة والمساحة وتحقيق شروط الاتصال بالطبيعة فرصة مثالية للاستشفاء، إذ تظهر الإحصاءات انخفاضاً في مدة التعافي والالتهابات والمضاعفات الطبية.
إعادة تعريف الصحة والمرض
في السياق ذاته، يعيد مركز “ستينو” للسكري في الدنمارك تعريف مفهومنا عن الصحة والمرض، إذ يعتمد على العلم الكامن وراء كيفية استخدام الهندسة المعمارية المتحدة بالطبيعة ليس فقط للعلاج، بل للوقاية والتثقيف أيضاً، فيضع الإنسان في صميم الاهتمام، لذا يرتكز تصميمه على الطبيعة، فتبدو المناظر الطبيعية مرئية من كل اتجاه، ويعد وجود الطبيعة في كل مكان عنصراً معمارياً أساساً في المركز وجزءاً لا يتجزأ من العلاج والترويج لنمط حياة صحي.
ومركز “ستينو” عبارة عن مستشفى ومركز بحثي وتعليمي متخصص في علاج وإدارة مرض السكري، يشكل تصميمه خليطاً بين المواد الدافئة وضوء النهار، إذ اختيرت الأرضيات والأسقف الخشبية الدافئة كمادة رئيسة في تصميمه الداخلي اعتماداً على الدراسات التي تشير إلى قدرة التصميم الخشبي على التقليل من التوتر، ويهدف كل من الغطاء النباتي والديكور الداخلي الخشبي ذو الألوان الدافئة إلى خلق جو هادئ ومريح.
ويشغل المستشفى مساحة مستطيلة الشكل مع مدخلين مفتوحين على جانبين متقابلين، كما تتخلل إطار واجهة الألمنيوم المؤكسد أجزاء زجاجية كبيرة تكسر الحدود بين الداخل والخارج.
ويتألف المبنى من طابقين، يضم الطابق الأول أربع حدائق داخلية اثنتان منها تستقبلان الزوار فور دخولهم، بينما تقع المساحات المشتركة في منتصف مخطط الطابق، وتصطف معظم الغرف الفردية على الحلقة الخارجية تحجبها طبقة رقيقة من النباتات في الغرف الخاصة بشكل نسبي عن أعين العامة، ويستمر التصميم ذاته في الطابق الثاني، بحيث تستبدل المساحات المشتركة المغطاة بحديقة سطح متصلة.
وتُعد المساحات الخضراء والحديقة مركزاً للتنوع البيولوجي، إذ توفر نباتاتها المتنوعة مساحة هادئة وتثقيفية مفتوحة للجميع للاستمتاع بها على مدى الساعة طوال أيام الأسبوع، فعند الوصول تستقبل الزوار مناظر طبيعية خضراء متموجة عند المدخل الرئيس الذي تحيط به حديقة واسعة من طابقين مع ست ساحات خضراء أصغر وحديقة عامة على السطح.
وتتجه الأرصفة الخرسانية المصبوبة بسلاسة نحو الدرج الكبير الذي يدعو الزوار إلى الصعود إلى حديقة السطح العامة، وبذلك يتشابك مبنى المركز وحدائقه بصورة وثيقة في تصميم بيوفيلي يخلق تناغماً بين الداخل والخارج.