حرية ـ (28/4/2025)
معانٍ متضاربة تقفز إلى أذهان زوار مواقع السجون التي تحولت إلى مزارات سياحية أو مساحات لتعليم الفنون، أو معارض، فهل الأمر يتعلق بإعادة إنتاج الألم، أم إخفاء المآسي بديكورات فخمة، أم صياغة الذكرى القاتمة بمفهوم جديد، وصناعة أخرى موازية تنبض بالأمل ولتكون علامة على معاداة الماضي البغيض؟
من بين الزوار من يحاول استحضار ذكرى سجناء الرأي والمناضلين، وآخرون تنقبض ملامحهم إذا ما مرت أعينهم على خطوط مسلوبي الحرية المعاقبين الذين سكنوا تلك المباني، وفريق ثالث ينظر إلى الفكرة كلها بعقلانية ودلالة على تطور المجتمعات للأفضل ورفض فكرة أن يتحول السجن إلى مقر تعذيب، إذ يختارون أن يقفزوا فوق كل هذا الألم مع تقديم انحناءة احترام لذكرى كل من فقدوا حرياتهم أو حتى أرواحهم.
في المقابل، تفضل المؤسسات الرسمية دوماً أن تحيل القضية كلها إلى لغة علمية كأن تدل على انخفاض معدل الجريمة، أو عدم ملاءمة تصاميم السجون القديمة لفكرة إعادة التأهيل المتبعة في العصر الحالي، أو الرغبة في طي صفحة غير مرغوبة من تاريخ الأمم تمثلت في بعض المنشآت سيئة السمعة.
في كل الأحوال فإن تحويل مباني السجون التي أنتجت القمع إلى مؤسسات أخرى تزخر بالجمال وبنمط مبهج يعيد تعريف المكان، لا يضمن أبداً التخلص من الأرشيف كاملاً، إذ يظل تراث الأماكن مرتبطاً بوظيفتها الأولى بل ربما تكون بعض هذه التفاصيل على سوداويتها أحد أسباب الجذب الاستثنائية التي تتمتع بها تلك المباني، سواء أصبح يطلق عليها فندقاً أو معرضاً فنياً، أو مزاراً سياحياً.
تكريم لمناضلي الحرية
لا يمكن أن تتنكر الجدران لتاريخها أو لحقيقتها الأولى حتى لو طُليت طبقات فوق طبقات، بل ربما يكون هذا الماضي ملهماً وطريقة عملية لأخذ العبرة والحكمة، هذا في الأقل ما تشي به تصريحات سابقة لداريو فرانشيسكيني، وزير ثقافة إيطاليا قبل نحو ثلاثة أعوام، وذلك على خلفية قيام الدولة بمشروع واعد لتحويل أحد سجون جزيرة سانتو ستيفانو الذي يعود بناؤه للقرن الـ18 إلى مركز ثقافي ومتحف بكلفة 70 مليون يورو، إذ استخدم خلال وقت سابق ليكون مقراً لاعتقال ونفي معارضي النظام السياسي. ولفت فرانشيسكيني إلى أن المشروع يمثل نظرة مشرقة إلى المستقبل، من خلال تحويل المكان الموحش إلى حاضنة للفكر والثقافة. وعدَّ بعض مسؤولي وزارته أن ما يحدث يعد نوعاً من التكريم لذكرى المناضلين من أجل الحرية في البلاد، خلال الحقب الماضية.
إذاً، هناك حكمة يمكن أن يستقيها المسؤولون الواقفون على هذه القرارات، والتي تبدو غريبة للغاية ولكنها شائعة داخل بلدان عدة. فعلى مسافة ليست ببعيدة من إيطاليا، حول سجن بالينسيا في إسبانيا إلى ملتقى ثقافي أيضاً، ملحق به فندق يستقبل الزوار وكذلك الراغبين في تعلم الموسيقى والفنون ومحبي القراءة حيث تستقبلهم مكتبة عملاقة. لكن في هولندا تحول الأمر إلى ظاهرة وهناك أسباب موثقة وراء هذا التوجه بطبيعة الحال، فوفقاً لبيانات المركز الدولي لدراسات السجون، فإن معدل المساجين ينخفض بصورة ملحوظة داخل الدولة الأوروبية ووصل إلى 54 سجيناً لكل 100 ألف نسمة بحسب إحصاءات عام 2022، إذ تعد الأقل مقارنة بالدول داخل المنطقة وتليها الدنمارك ثم ألمانيا.
المجتمع يتغير
وتقر الدراسات والإحصاءات الرسمية في هولندا إلى انخفاض معدل الجريمة، إضافة إلى إصلاح منظومة العدالة وتدني أعداد المحتجزين احتياطاً ومن هم على ذمة التحقيق، وقلة الأحكام بالسجن وتعويضها بعقوبات مالية وتأديبية ومجتمعية، والنتيجة تزايد عدد السجون المغلقة، وتلك التي تدخل ضمن مشروعات فنية وتجارية، وبينها سجن هيت آريثويس الذي يعود تاريخه إلى القرن الـ19، إذ ظل يعمل حتى عام 2007 وقبل نحو 14 عاماً تحول إلى فندق فخم، مع الاحتفاء بمعماره الأصلي لا سيما الأبواب والسلالم، وهو يقع في مدينة رويرموند بمقاطعة ليمبورخ. كذلك يعد سجن بلمربايس من أشهر سجون العاصمة الهولندية أمستردام، الذي أصبح عام 2017 فندقاً يديره مجموعة من طالبي اللجوء في الدولة، وتحول المكان على يد إحدى الجمعيات الخيرية إلى مؤسسة تفتح باب الأمل للمضطهدين بعد أن كان سجناً سيئ السمعة، وتنتشر قصص المشروعات من هذه النوعية في عموم هولندا التي يتناقص عدد نزلاء سجونها عاماً بعد آخر، وأُغلقت عشرات المؤسسات العقابية وبينها سجن أثري مشيد منذ أكثر من 130 عاماً هو بريدا، الذي أصبح موقعاً للتصوير بمعماره النادر.
مشروعات اقتصادية تستلهم التاريخ
على النقيض، تتفوق الولايات المتحدة في عدد نزلاء سجونها على كثير من الدول، فوفقاً للإحصاءات التي تقرها معاهد الأبحاث الجنائية الدولية، فإن نسبة المساجين تراوح ما بين 130 إلى 144 شخصاً لكل 100 ألف نسمة، وعلى رغم ذلك اضطرت الدولة إلى إغلاق بعض سجونها الأسوأ لأسباب متعددة، بينها صعوبة التأمين نظراً إلى وعورة المناطق الجغرافية التي تقع فيها السجون، وأيضاً بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي كانت تحدث في بعضها، وبينها سجن بوسطن الذي أنشئ منتصف القرن الـ19 وكان يضم أخطر المجرمين، لكن وُضع حد لهذا المعتقل بعد أن تكررت الانتهاكات وحالات الهرب، وتحول عام 2007 إلى فندق اسمه بعيد تماماً عن فكرة الحبس وهو “الحرية”، وتكلفت تهيئته 150 مليون دولار ويضم نحو 300 غرفة ومطاعم فاخرة، مع الاحتفاظ ببعض الزوايا التي كانت تمثل أماكن استجواب واحتجاز لينعم الزائر بتجربة تغوص في التاريخ، كما يحتفظ بجدرانه الخارجية كما هي، وهذا الزخم منح الفندق تقييماً عالياً في مواقع الضيافة، واختير مراراً كواحد من أفضل فنادق الولايات المتحدة بسبب خدمته الفارهة والراقية التي تنال رضا رواده.

سجن بوسطن وقد تحول إلى فندق فاخر
لكن قصة سجن ألكاتراز الذي يقع في جزيرة تحمل الاسم نفسه داخل خليج سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة تبدو أكثر تداخلاً، إذ صُنف من أكثر السجون الفيدرالية تشديداً، وكان يحتجز داخله السجناء الخطرون والعنيدون، وبين أبرز نزلائه آل كابوني زعيم عصابة المافيا الشهير الذي أرعب الولايات المتحدة مطلع القرن الـ20، وكانت كل محاولات الهرب منه قاتلة لأصحابها بسبب الطبيعة الصعبة للمكان الذي يقع فوق صخرة عالية وحولها تيارات مياه شديدة التدفق تجعل من المستحيل تجاوزها، إضافة إلى أبراج مراقبة يتناوب عليها 100 حارس لترويض السجناء المتمردين الذين يأتون من بقية مرافق الاحتجاز بالدولة.
ألكاتراز كان يعد سجناً حربياً خلال بعض الأوقات، وفي تسعينيات القرن الماضي أُغلق وأودع نزلاؤه في سجون أخرى، إذ تناوب عليه أكثر من 1500، والسبب الذي قيل حينها أنه يستهلك موارد كثيرة نظراً إلى صعوبة تأمينه إضافة إلى احتياجه لكلف ضخمة لإدارته وترميم مبانيه في هذه الطبيعة المتاخمة الصعبة، كما أن قيوده لم تعد تلائم فكرة العقاب الحديثة التي تهتم بالتأهيل أكثر منها سلب الحرية والإجحاف.
تجربة ثرية… من يقدر عليها؟
تحول ألكاتراز إلى مشروع اقتصادي مربح ومزار سياحي، بغرفه التي تصل إلى 380 وساحته وأبراج مراقبته التي ظلت كما هي، إذ يدر المزار أموالاً طائلة للجزيرة، فيما يمكن للزوار الذين يبلغ عددهم آلافاً يومياً أن يعيشوا التجربة بصورة كاملة، بدءاً من غرف الفحص والتحقيق وحتى المكوث في الزنزانة الضيقة، مع تسجيلات صوتية تشرح الخطوات بالتفصيل وأخرى تعيد تمثيل أبرز الأحداث التي جرت داخل المكان الذي كان رمزاً لأقسى أنواع العقاب.

تحول سجن ألكاتراز إلى مشروع اقتصادي مربح
لكن هل هذه تجارب ممتعة بالفعل تستقطب السياح؟ وفقاً لآلاف من التعليقات لزوار خاضوا هذا الأمر، فإنهم انقسموا ما بين الراغبين في الاستكشاف الذين شعروا بأن التجربة مثيرة ومختلفة وتستحق التكرار، وآخرين سكنتهم الوحشة والقتامة وندموا، لكن المشترك بين الفريقين أن الفضول حتماً يحرك الزائرين للتوافد بصورة مستمرة، في حين كان تاريخ السجن الشهير جاذباً لمبدعي السينما، إذ قدمت هوليوود أعمالاً مهمة عدة تناولت المآسي الإنسانية التي وقعت بين جدرانه، وبينها “الهرب من ألكاتراز” لكلينت إيستوود نهاية السبعينيات، كما تحول سجن آرثر كيل إلى موقع تصوير جاذب نظراً إلى معماره الفريد.
هوليوود مرت من هنا
وعلى ذكر السينما، فقد ارتبطت إصلاحية أوهايو التي شيدت داخل الولايات المتحدة عام 1861 وحملت لبعض الوقت اسم مانسفيلد بكثير من الأعمال الرائدة، وأغلقت مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد تزايد الشكاوى من الظروف غير الإنسانية للمحتجزين بها، ومن أبرز الأفلام التي صورت في المكان “وداعاً شاوشانك” 1994، الذي يعد من أهم الأفلام التي تناولت حياة المساجين، ولا يزال المكان يستقطب مبدعي السينما الباحثين عن وجهة أصيلة لتصوير أعمالهم كما أنه مزار سياحي بارز.
مشهد من فيلم “وداعاً شاوشانك”
تجربة السجن تتحول إلى مصدر للربح والدخل وتسهم في الترويج السياحي، وتتحول أيضاً إلى رمز خاص للفخامة في مدينة إسطنبول التركية، حيث أصبح سجن السلطان أحمد في نهاية تسعينيات القرن الماضي فندق فور سيزونز الفاخر الذي يضم أكثر من 60 غرفة كانت زنازين مظلمة في ما قبل، محتفظاً بكثير من تفاصيله المعمارية وبينها الممرات المزينة بأقواس حديدية. وبُني السجن عام 1918 على يد المهندس ميمار كمال الدين بيك، واستخدم لعقاب السياسيين المعارضين، وبينهم الشاعر التركي الثائر ناظم حكمت.
ميراث الأشباح
في بريطانيا أيضاً تتعدد التجارب، وبينها سجن ريدينغ غرب لندن، الذي تحول إلى مركز فني بالتعاون بين مجلس المدينة وبعض الفنانين المتطوعين في البداية. ويعد من أقدم السجون حيث سُجن فيه الكاتب والشاعر البارز أوسكار وايلد الذي عاش خلال القرن الـ19، لكنه بات فارغاً من المساجين منذ 12 عاماً. وخلال عام 1996 حُوِّل أحد أقدم سجون مدينة أكسفورد إلى فندق يتبع سلسلة مالميزون، واحتُفظ بجدرانه العارية وبعض أساليب الإضاءة التي كانت تتواءم مع السجن، لكنها على ما يبدو تعجب النزلاء، كذلك لا تزال أبواب معظم الغرف معدنية كما هي.
والأمر نفسه بالنسبة إلى سجن “لو ستريت” الذي أصبح فندقاً من فئة الخمس نجوم، وفي المملكة المتحدة أيضاً يمكن التمتع بليلة مع الأشباح في مزار شيبتون ماليت الذي أصبح فندقاً يمكن حجز ليلة استثنائية به مقابل 50 جنيهاً استرلينيا، إذ يعيش النزلاء تجربة حسية يتعرفون فيها على أحلك المواقف التي مرت بالسجناء الخطرين، ويستمعون لقصص غير اعتيادية، إذ بني السجن خلال القرن الـ17 لتنفيذ حالات الإعدام واحتجاز القتلة.
السمعة السيئة تتبدل
أما في كندا، فخلال 10 أعوام فقط من 1962 إلى 1972 اكتسب سجن أوتاوا الذي كان يتبع مقاطعة كارلتون، سمعة شديدة السوء، إذ كان به طابق مخصص لتنفيذ أحكام الإعدام، وكان يشتهر بسوء المرافق وضيق الزنازين الخانقة، وعلى رغم تحويله إلى فندق لكنه لا يزال يحتفظ بغرف الإعدام والمشانق، والأبواب الصلبة وديكوراته الخشنة التي تلائم حياة السجن.
كذلك يمكن لرواد فندق كاتاجانوكا في فنلندا أن يلمسوا بأيديهم نقوش نزلائه السابقين من السجناء، والذي بُني خلال النصف الأول من القرن الـ19، وتردد أنه استقبل كثيراً من رجال السياسة قبل أن يتحول إلى فندق فاخر يتضمن تجارب مختلطة من الرفاهية المفرطة، إلى الإرث الأسود كونه مركز احتجاز شديد الحراسة، كما لا يزال يحتفظ بالطوب الأصلي لجدرانه.
تجربة الفنادق التي كانت بالأصل سجوناً يمكن مشاهدتها في عدد من البلدان، بينها السويد وسويسرا وألمانيا والتشيك والنمسا، ولا يزال بعضها يحتفظ بالأسلاك الشائكة وقائمة وجبات السجناء، للزوار الباحثين عن التجارب الغريبة وغير التقليدية، أو ربما الراغبين تأملاً في معاني الحياة وتقلبات الدهر.