حرية ـ (29/4/2025)
سعيد طانيوس
كانت العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وموسكو صعبة منذ بداية تأسيس منظمة الـ “ناتو” عام 1949، وكان أول تحالف عسكري تنضم إليه الولايات المتحدة في زمن السلم، وبعد أن أصبحت قوة عظمى بانتصارها في حربين عالميتين لم تخضهما على أرضها، أسهمت في بناء هذا الحلف لتنسيق سياساتها الخارجية والدفاعية.
وتعبيراً عن هذه العلاقة الصعبة مع الـ “ناتو” قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عز الحرب التي كانت تخوضها بلاده في أوكرانيا ضد الغرب الجماعي، إن “روسيا لم تكن تتجه نحو حدود دول حلف شمال الأطلسي، لكن الحلف هو الذي سعى دوماً إلى الاقتراب كثيراً من حدود روسيا، والاتحاد الروسي يحمي شعبه فقط”.
وأعلن خلال اجتماع مع الطيارين العسكريين في تورغوك بمنطقة تفير في الـ 27 من مارس (آذار) الماضي، أن روسيا ليست لديها أية رغبة عدوانية في احتلال أي شيء أو عبور الحدود الأجنبية، وكانت نياتنا ولا تزال منصبة على “حماية شعبنا في الأراضي التاريخية”.
وأضاف، “لقد اقتربوا من حدودنا مباشرة، فهل كنا نتجه نحو حدودهم؟ لا، تلك الدول الأعضاء في الـ ‘ناتو’ هي التي كانت ولا تزال تحاول تطويقنا، ونحن لم نزعج أحداً، كانوا يتجهون نحونا، فهل عبرنا المحيط إلى حدود الولايات المتحدة؟” موضحاً للجي، “إنهم يقتربون منا وقد اقتربوا جداً”.
وعلى رغم ذلك أكد الرئيس الروسي خلال اجتماع مع عناصر المركز 344 للاستخدام القتالي وإعادة تدريب أفراد الطيران التابع لوزارة الدفاع في تورغوك، أن روسيا لا تخطط لمحاربة حلف شمال الأطلسي، وهذا مجرد هراء تروج له وتشيعه أوساط لها مصلحة في الـ “ناتو”.
وأوضح بوتين مراراً وتكراراً أن روسيا ليس لديها سبب للقتال مع دول حلف شمال الأطلسي، وأشار إلى أن موسكو ودول التحالف ليس لديها أية مطالبات إقليمية ضد بعضها بعضاً، وروسيا لا تريد إفساد العلاقات بل هي مهتمة بتطويرها، وأكد أن روسيا ليس لديها مشكلات مع دول حلف شمال الأطلسي، وبحسب قوله فإنهم يقومون بإنشائها بصورة مصطنعة لأنهم لا يريدون أن تكون روسيا منافساً لهم.
إعادة نشر البنية التحتية العسكرية
من جهته أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن أية محاولات لإعادة نشر البنية التحتية العسكرية لدول الـ “ناتو” في أفغانستان تحت أية ذرائع ستكون بمثابة “قنبلة موقوتة”، كما حذر لافروف من أن خطوة كهذه قد تؤدي إلى تفاقم الأوضاع وانفجارها بسرعة.
وقال لافروف خلال مؤتمره الصحافي في ختام زيارته إلى أوزبكستان في الـ 23 من أبريل (نيسان) الجاري، إنه “من غير المقبول محاولة إعادة نشر القواعد أو المنشآت العسكرية التابعة للـ ‘ناتو’ في أفغانستان تحت أي حجج، ومثل هذه الخطوات ستخلق تهديداً جديداً على شكل قنبلة موقوتة، وقد لا يكون تأثيرها بطيئاً هذه المرة”.
وأشار لافروف إلى أن روسيا تراقب بقلق بعض التحركات الغربية التي قد تستغل الأوضاع في أفغانستان لإعادة وجود عسكري غير مباشر مما قد يزيد عدم الاستقرار في المنطقة.
وكانت المحكمة الروسية العليا رفعت قبل أسبوع من هذا التصريح الحظر المفروض على أنشطة “طالبان” في البلاد بحضور ممثل عن الحركة، إذ أكدت وزارة الخارجية الروسية أن هذا القرار يفتح الطريق لإقامة شراكة كاملة مع كابول خدمة لمصالح الشعبين الروسي والأفغاني، فيما أكد المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوغاريك، أن تعليق الحظر على أنشطة “طالبان” في روسيا هو قرار سيادي لموسكو، موضحاً أن وضع الحركة في الأمم المتحدة لم يتغير.
وانسحبت قوات الـ “ناتو” من أفغانستان عام 2021 بعد عقدين من الوجود العسكري، ومنذ ذلك الحين تحاول بعض الدول الغربية إيجاد طرق بديلة للتأثير في الأوضاع داخل البلاد، سواء عبر التعامل مع “طالبان” أو عبر دول الجوار.
وبالتوازي مع ذلك قال وزير الخارجية الروسي خلال مؤتمره الصحافي في أوزبكستان، إن روسيا تعارض بصورة قاطعة محاولات الغرب فرض هيمنته على منطقة آسيا الوسطى، ورداً على سؤال حول عمل صيغتي آسيا الوسطى – روسيا الاتحادية، وآسيا الوسطى – الاتحاد الأوروبي، أكد لافروف أن التفاعل في مثل هذه التنسيقات يمكن أن يكون مفيداً للطرفين ويستند إلى اتفاقات تناسب جميع المشاركين في هذه العملية، مضيفاً “نحن نعارض بصورة قاطعة تسييس عمليات التعاون وإدخال عناصر أيديولوجية تتعلق بمحاولات مجموعة أو أخرى من البلدان ترسيخ هيمنتها في هذا المجال الجيوسياسي وغيره”.

انسحبت قوات الـ “ناتو” من أفغانستان عام 2021
وفي الوقت نفسه قال لافروف إن موسكو “لا تستطيع تجاهل عامل زعزعة الاستقرار الخطر في المنطقة الأوروبية الأطلسية، مثل تكثيف أنشطة حلف شمال الأطلسي على حدود روسيا”، ونقلت وكالة ريا نوفوستي عنه قوله إن “جميع الخطوات التي يتخذها جيراننا في الـ ‘ناتو’ لتعزيز بنيتهم التحتية العسكرية ووجودهم العسكري على حدود الاتحاد الروسي لا يمكن أن تمر من دون رد، وفي المقام الأول التدابير العسكرية التقنية”.
لكن الدبلوماسي أكد أن هذا لا يعني أن موسكو مهتمة بتصعيد التوترات، وقال لافروف إن روسيا تقترح أن ينتقل حلف شمال الأطلسي إلى “لغة الإجراءات العملية”، معتبراً أن “العسكريين في حلف شمال الأطلسي للأسف يتجنبون مثل هذه العملية، لكنني أعتقد أن الحياة ستجبرهم على القيام بذلك يوماً ما”.
عداوة موروثة
في الأثناء حذر نائب رئيس مجلس النواب الروسي (الدوما) أندريه كراسوف من أن روسيا سترد دائماً على الأعمال العدوانية التي يقوم بها حلف شمال الأطلسي، وأكد أنه كلما اقتربت قوات التحالف من حدود البلاد كلما كانت ضربة القوات الروسية أكثر دقة في حال العدوان، وبالنسبة إلى الأسلحة والمعدات العسكرية الحديثة فإن مسافة 140 كيلومتراً، حيث سيتمركز مقر القوات البرية لحلف الـ “ناتو” لا تذكر، وكلما اقترب العدو زادت دقة ضرباتنا، محذراً من أن “لدينا دائماً رد مناسب ولقد اتخذ قرار بالفعل بزيادة عدد القوات المسلحة الروسية، وستظهر قريباً وحدات جديدة جاهزة للقتال”.
وأضاف كراسوف أن مقر القوات البرية لحلف شمال الأطلسي الواقع قرب الحدود الروسية سيصبح هدفاً لضربات القوات الصاروخية والمدفعية للبلاد في حال تصعيد الوضع، موضحاً أن مراكز القيادة الحديثة ليست ثابتة، إذ يمكن لقوات حلف شمال الأطلسي التحرك بالنسبة إلى حدود روسيا، مضيفاً أنه “ربما يكونون هناك على بعد 140 كيلومتراً في وقت السلم، لكن في حال تصعيد الوضع العسكري السياسي فإن هذا المركز قادر على التحرك”.
وفي وقت سابق أصبح معلوماً أن مقر القوات البرية لحلف شمال الأطلسي في شمال أوروبا سيكون في ميكيلي الفنلندية قرب الحدود مع روسيا، وتقع هذه المدينة على بعد نحو 140 كيلو متراً من الحدود مع روسيا، وهي بالفعل موطن للمقر الرئيس للقوات البرية الفنلندية.
وفي المقابل نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالة في الـ 17 من أبريل الجاري حول كيفية عزم حلف شمال الأطلسي الذي يضم حالياً 32 دولة تغيير مفهومه الدفاعي، وقالت إن “حلف شمال الأطلسي الذي أصيب بالصدمة بسبب الفظائع التي ارتكبتها روسيا يتحول الآن إلى التحالف القتالي الذي كان عليه أثناء الحرب الباردة، ويسعى منذ اليوم الأول إلى الدفاع عن كل شبر من أراضيه”.
وتحت هذا العنوان الفرعي كتب ستيفن إرلانغر أنه “بعد الفظائع التي ارتكبتها روسيا في المناطق التي تحتلها من أوكرانيا، من بوتشا وإيربن إلى ماريوبول وخيرسون، لم تعد الدول الحدودية مثل بولندا ودول البلطيق ترغب في المخاطرة بفترة من الاحتلال الروسي، ويشيرون إلى أنه خلال الأيام الأولى لغزو أوكرانيا استولت القوات الروسية على أراض تفوق مساحة بعض دول البلطيق، وإن منع هذا والردع من طريق الرفض يعني ثورة من الناحية العملية، مزيد من القوات المتمركزة بصورة دائمة على طول الحدود الروسية، والتكامل الوثيق بين خطط الحرب الأميركية وحلفائها، وزيادة الإنفاق العسكري، ومطالب أكثر تفصيلاً من الحلفاء للحصول على أنواع محددة من القوات والقدرات، والمعدات اللازمة للقتال إذا لزم الأمر في الأماكن المحددة مسبقاً”.
وتنقل المقالة أيضاً عن مساعدة الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي للاستثمار الدفاعي والمتحدثة باسم المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية كاميلا غراند قولها إن الدول التي انضمت إلى التحالف على مدى الأعوام الـ 26 الماضية تعتقد أنه “لم يعد كافياً أن نقول إننا مستعدون للردع بينما نعد بالاستعادة، لكن يجب علينا الدفاع عن كل شبر من أراضي حلف شمال الأطلسي منذ اليوم الأول”.
تعزيز الإنفاق الدفاعي
ويرى مسؤول كبير في حلف شمال الأطلسي أن “معايير جديدة للإنفاق الدفاعي من قبل الدول الأعضاء يجب الاتفاق عليها خلال قمة حلف شمال الأطلسي المقبلة، والحد الأدنى الذي يبلغ اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني لم يعد مناسباً نظراً إلى القدرات التي أظهرتها روسيا على الجبهة الأوكرانية، لذلك فإن مساهمة تتراوح ما بين 2.5 في المئة إلى ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي من جانب الدول الرائدة في حلف شمال الأطلسي على مدى العقد المقبل ستكون مناسبة”.
ويعتقد خبراء أوروبيون في المجال العسكري أن مفهوم الدفاع الجديد لحلف شمال الأطلسي يجب أن يتغير ليتلاءم مع الحقائق التي ظهرت خلال العامين الأخيرين، ويقولون إنه “منذ 30 عاماً كان الأوروبيون يقللون عمداً من قدراتهم العسكرية بسبب اعتقادهم الواهم أن ‘الجيش الأحمر’ لم يعد يشكل خطراً داهماً عليهم وعلى حدودهم”.
ويعتقد المحلل العسكري المستقل والأستاذ في جامعة براغ، يوري فيدوروف، أن القرارات السياسية الرئيسة ينبغي اتخاذها من دون إبطاء، وأن الاستعدادات التنظيمية، بما في ذلك جميع الوثائق اللازمة، جارية بالفعل وسيجري اعتمادها واستكمال جميع الاستعدادات والتنسيق مع جميع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي قريباً، وقد اتخذت بالفعل بعض الإجراءات العملية لكن يمكن أيضاً اتخاذها على مستوى ثنائي خارج الـ “ناتو”، مثل نشر أسلحة أميركية في شرق ووسط أوروبا وإنشاء هياكل إضافية للمقار، مضيفاً أن العمل سيستمر على المستوى الثنائي وفي إطار متعدد الأطراف بين جميع دول التحالف.

الأمين العام للناتو مارك روته، يصافح كبار مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية
وبحسب خبراء روس فإن الدول الأوروبية ستبذل جهوداً لتطبيق مفهوم الدفاع الجديد، إلا أن العبء الرئيس سيلقونه على عاتق الولايات المتحدة التي على عكس رغباتهم تريد التحرر من التزاماتها في الدفاع عن الشركاء الأوروبيين، وإدارة الرئيس دونالد ترمب لن تقبل تحمل هذه المسؤولية المكلفة، موضحين أن “الأوروبيين كانوا على مدى 30 عاماً يقللون عمداً من إمكاناتهم العسكرية، وهذا ينطبق على ألمانيا، والآن تُبذل جهود مختلفة لاستعادة الأسلحة والقاعدة المادية وتدريب الجنود والضباط، لكن هذه عملية طويلة إلى حد ما ولا يمكن حل هذه المشكلات بسرعة”.
وفي عام 2023 بدأ التجنيد للخدمة العسكرية الإلزامية في لاتفيا، ويعتقد يوري فيدوروف أن “هذا الإجراء يتوافق مع مفهوم الدفاع الجديد للـ ‘ناتو’ لأن التجنيد الإلزامي والخدمة العسكرية الإلزامية لمن لا يملكون أسباباً وجيهة لعدم الخدمة في الجيش يعدان أداة لإعداد احتياط جاهز للقتال، فإذا خدم الشخص مدة عام في الأقل فسيتعلم خلال هذه الفترة أسس القتال، والأمر لا يتعلق بتنظيف ساحة العرض وإصلاح السياج بل بالقدرة على استخدام الأسلحة الحديثة وفهم كيفية التصرف في مواقف قتالية معينة”.
ويؤكد رئيس الأبحاث في “المركز الدولي للدفاع والأمن” في تالين، توماس جيرمالافيسيوس، أن “استبدال المفهوم السابق لأمن حلف شمال الأطلسي بمفهوم جديد يعني حرمان العدو من أية فرصة لتحقيق هدفه العسكري، وهذا يعني أننا نرسل إشارة مفادها أن العدو مضمون أن يخسر أية إستراتيجية هجومية، وهذا ينبغي أن يؤثر في حسابات العدو وما إذا كان الأمر يستحق الدخول في مثل هذه الحملة”.
وبحسب جيرمالافيسيوس فإن “الإستراتيجية السابقة المتمثلة في احتواء المعتدي المحتمل من خلال ضربة انتقامية كانت تتميز بطول زمني معين، وبالتالي فإن دول البلطيق المجاورة لروسيا كانت تخاطر بخسارة جزء من أراضيها حتى تقوم دول حلف شمال الأطلسي بالرد المناسب على المعتدي، لكن استعادة الأراضي أصعب بكثير من تجنب خسارتها وسقوط ضحايا بين المدنيين، وعلاوة على ذلك، في مثل هذه الحال، فقد تقرر موسكو عدم تكبد أي خسائر من جانبها، وتتمثل الإستراتيجية التي ينتقل إليها الـ ‘ناتو’ الآن في بناء دفاع أمامي قوي، وبالطبع يمثل هذا تحدياً للدول المجاورة لروسيا وبيلاروس لذا سيزداد الإنفاق الدفاعي، ومن ناحية أخرى لا نملك كامل القدرات لصد المعتدي، لذا نعتمد على حلفائنا الذين عززوا وجودهم في بولندا ودول البلطيق العام الماضي”.

ترمب يعمل على إنهاء الحرب في أوكرانيا
ويسعى حلف شمال الأطلسي إلى نشر ألوية تابعة له تضم ما بين 5 و6 آلاف جندي، حيث تنتشر كتائب قوامها 500 أو 600 جندي، ولكن من دون الدعم الأميركي أعتقد أننا لن سنشهد توسعاً كبيراً للوجود العسكري لحلف الـ ‘ناتو’ في دول البلطيق خلال المدى القريب، ومن المقرر أن يناقش الحلف الآن خططاً إقليمية جديدة للدفاع الجماعي في منطقة البلطيق، وستقيم الدول ما لديها وما يمكنها تقديمه، وستقيم قيادة الـ “ناتو” ما إذا كان هذا كافياً أو ما إذا كان من الضروري تشجيع الدول الأعضاء في الحلف على توسيع قدراتها الدفاعية.
وأكدت روسيا مراراً وتكراراً أنها لن تسمح بتعزيز الوجود العسكري لدول أخرى قرب حدودها، فهل تأخذ دول حلف شمال الأطلسي هذه المشاعر التي يحملها الكرملين في الاعتبار؟ أم أن فكرة عدم استفزاز بوتين أصبحت بالفعل شيئاً من الماضي؟
سياسياً لا تزال بعض الدول الأطلسية مثل سلوفاكيا والمجر وإسبانيا تبدي جموداً تجاه روسيا بل وتتمسك بقانون تأسيس روسيا والـ “ناتو” عام 1997، ويعتقدون أن هذا القانون لا يزال يحمل بعض الدلالة، إذ تنص مقدمة هذه الوثيقة على أن الطرفين لا يعتبران بعضهما بعضاً خصمين عسكريين محتملين، ولكن أولئك الذين يخططون للدفاع عن الحلف لم ينتبهوا إلى هذه القيود التي يفرضها هذا القانون، وأية تصريحات من جانب روسيا في شأن هذه المسألة، وروسيا بتحديها للغرب الجماعي في أوكرانيا لم تغير الوضع الأمني في أوروبا إلى الأسوأ وحسب، بل كسرت ظهر هذا الفعل بصورة أساس وجعلت من نفسها دولة ذات استعداد قتالي يفوق استعدادات الدول الأوروبية التي لم تخض جيوشها أي حروب جدية منذ وقت طويل، ولا يمكن الرد على تصريحاتها إلا من خلال تعزيز دفاعات الحلف، وهناك أمر واحد يجب فهمه وهو أن “النظام في موسكو يفسر دائماً امتناع الـ “ناتو” من المواجهة المباشرة لا كإشارة إلى نيات غير عدوانية، بل كدليل على ضعف دول الحلف في مواجهة تهديدات موسكو”.
وفي دول البلطيق، وبخاصة لاتفيا، يعيش عدد معين من الناطقين باللغة الروسية، وهم في الغالب مخلصون تماماً لوطنهم التاريخي، وفي هذا الصدد يرى الخبراء الغربيون أن التواصل الإستراتيجي مع ممثلي الجاليات الناطقة باللغة الروسية ينبغي أن يحدث على أساس مستمر، وهم من الناحية العملية يطرحون سؤالاً حول ما الذي يجب فعله أيضاً لكي تتوقف غالبية الناطقين بالروسية عن العيش في عالم مواز، حيث روسيا قوة عظمى وبوتين هو المنقذ السيادي؟ في وقت يرى العالم كيف يتوغل جيشه بدعم من غالبية المجتمع داخل أراضي أوكرانيا، بما في ذلك تلك التي يقطنها سكان ينطقون بالروسية، فالناطقون بالروسية في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا لا يريدون حماية ولا اقتراب قوات الـ “ناتو” من وطنهم الأم، ولا يتوانون عن دعم بوتين في تحديه للغرب الجماعي، إذ لا يوجد فرق بين الموت والخلاص، وعليهم اتخاذ خطوات لتعزيز نظام الدفاع الشامل ودعم نضال بلادهم الأصلية في محاولتها لاستعادة مجد مفقود، وليس انتظار بعض الضمانات والوعود والأوهام السحرية من حلف شمال الأطلسي.
الغرب يتهم موسكو بالابتزاز
يرى المراقب العسكري الأوكراني ميخايلو بريتولا أن مفهوم الأمن الذي كان قائماً في السابق بين دول حلف شمال الأطلسي كان يفترِضُ أن روسيا قد تهاجم دول البلطيق وتحتلها بالكامل، وبعد الاستيلاء على دول البلطيق سيجري تدمير الوحدة الروسية، وبالنظر إلى ما يفعله الجيش الروسي في أوكرانيا الآن فقد تغير المفهوم، إذ من الواضح أن تحرير الأراضي التي تدخلها القوات الروسية يتطلب جهداً وطاقة وأرواحاً بشرية وهي عملية مكلفة للغاية، ولذلك تغير المفهوم فهو يهدف الآن إلى منع القوات الروسية من التوغل في أراضي الدول التي أرادت الاستيلاء عليها، كما أشار الخبير، وفي هذه الحال تعد أوكرانيا، وفقاً لميخايلو بريتولا، مثالاً واضحاً على مدى صعوبة استعادة أراضيها من القوات الروسية، إذ يتطلب الأمر تدمير كمية كبيرة من المعدات العسكرية للعدو باستخدام أنظمة الدفاع الجوي والأسلحة المضادة للدبابات، ولذلك فمن الأكثر جدوى منع الغزو نظراً إلى أن روسيا أصبحت تمتلك قدرات هجومية ودفاعية هائلة، وجيشاً اكتسب خبرة قتالية كبيرة في حرب أوكرانيا، ولذلك قررت دول حلف شمال الأطلسي تغيير مفهومها الدفاعي، بحسب اعتقاده.
وفي المستقبل القريب، وفقاً للمراقب العسكري، يمكن توقع تغيير عالمي في الوضع على الجبهة سيكون مرتبطاً بتحول الجيش الروسي من جيش دفاع إلى جيش هجومي، خصوصاً بالنسبة إلى أوروبا التي ضعفت بصورة ملحوظة خلال العقود القليلة الماضية، وازدادت هشاشتها بعد تنكر ترمب لمبدأ الدفاع عنها وشمولها بالمظلة النووية الأميركية، سواء علناً أو ضمناً.

فلاديمير بوتين في اجتماع مع رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية
ويعتقد بريتولا أيضاً أن مفهوم الدفاع الجديد لحلف شمال الأطلسي، والذي يتضمن مبدأ “الدفاع عن كل شبر من أراضي دول الحلف”، يؤخذ في الاعتبار من قبل القيادة العسكرية الأوكرانية أثناء سعي كييف إلى الانضمام للـ “ناتو”، متوقعاً أن تسعى موسكو إلى ضرب أراضي دول الحلف انتقاماً منها لمساعدتها أوكرانيا، مضيفاً أنه “لمنع تطور الأحداث سيجري تطبيق هذا المفهوم”.
كما يعترف بريتولا بأن التهديد بتوجيه ضربة قد لا يستهدف دول حلف شمال الأطلسي وحسب، وأن روسيا قد لا تنفذ هذه الضربة بنفسها بل قد ينفذها أحد حلفائها، وبهذه الطريقة يخلق الكرملين فرصة للمساومة ويحاول تعزيز مواقفه التفاوضية مع أولئك الذين يدعمون أوكرانيا، ليخلص المراقب العسكري الأوكراني إلى أن “الغرب يدرك تماماً رغبة موسكو في تحقيق أهدافها عبر الابتزاز، وأعتقد أن بوتين لن ينجح لأن الجميع يدركون ما يفعله وأسبابه”.
التوتر يمتد لآسيا
وفي سياق تدهور العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، يهدف دعم اليابان اختراق التحالف لآسيا، من وجهة نظر طوكيو، إلى احتواء القوى الخطرة القريبة جغرافياً، إذ تخلق العلاقات الودية التي تربط اليابان بالهند والفيليبين وسنغافورة أجواء مواتية لتوسيع نطاق النشاط العسكري والدبلوماسي لحلف شمال الأطلسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على نطاق واسع، ففي اليابان وجد حلف شمال الأطلسي، الذي امتد نطاق مصالحه منذ فترة طويلة إلى ما هو أبعد من المحيط الأطلسي، شريكاً موثوقاً به، كما يتضح من الإيماءات الودية من الجانبين، ومن ناحية أخرى تتجه طوكيو نحو الاقتراب من حلف شمال الأطلسي، ليس رغبة في إثبات ولائها لحلفائها الأميركيين، بل من أجل حل مشكلاتها الإستراتيجية وبخاصة “جزر كوريل” التي استولت عليها روسيا منها نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ إن جولة جديدة من عدم اليقين الإستراتيجي تجبرها على التحرك نحو الاقتراب من شركائها الغربيين بوتيرة أسرع.
وفي يناير (كانون الثاني) 2023 استقبلت اليابان الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ الذي أعلن افتتاح مكتب للحلف في طوكيو خلال زيارته، وقدم إشادة دبلوماسية مستحقة للزعيم الياباني كيشيدا، فقد أسهم الأخير كوزير للخارجية ثم كرئيس للوزراء إلى حد كبير في تعزيز صورة اليابان الموالية للغرب، وعلى رغم الخلافات العرضية، ومنها الاقتصادية في المقام الأول، فإن اليابان لا تستطيع أن تتخيل تطوير علاقاتها الدولية من دون شركائها الأوروبيين والأميركيين، وهم بدورهم ينجحون بمساعدة اليابان في خلق ثقل إستراتيجي موازن للصين في منطقة أساس بالنسبة إليها، فالاعتماد الإستراتيجي لليابان على الولايات المتحدة، والذي تفرضه “معاهدة التعاون والأمن” المتبادلة عام 1960، يحدد بعض السمات المهيمنة للسياسة الخارجية اليابانية ومن بينها العلاقات السياسية الودية المستمرة التي تتمتع بها اليابان مع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي، بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وفي نهاية القرن الماضي لم تتقاطع مصالح حلف شمال الأطلسي واليابان عملياً، فقد كان التحالف منشغلاً بأنشطة حفظ السلام في يوغوسلافيا، وكانت اليابان منشغلة بالتكامل الاقتصادي في الداخل وفي شرق آسيا التي حررت نفسها من قيود النظام العالمي ثنائي القطب، ومع حلول الألفية الجديدة أصبحت الشراكات الإستراتيجية أكثر مباشرة ولم يقتصر التعاون على مستوى اللقاءات والتصريحات الرسمية وحسب، بل وعلى مستوى الفعاليات المشتركة أيضاً، وقد حصلت قوات الدفاع الذاتي اليابانية على الوقت الكافي للتعاون مع ممثلي حلف شمال الأطلسي في أفغانستان.
وبعدما كانت اليابان تنظر إلى أوروبا في السابق كعملاق اقتصادي في المقام الأول، أصبحت الآن صديقاً مخلصاً لحلف شمال الأطلسي في الشرق وحظيت العمليات التي نفذها الحلف لمكافحة القرصنة في خليج عدن وبحر العرب بين عامي 2008 و 2009 بدعم غير مشروط من اليابان، على اعتبار أن أمن هذه المنطقة الصغيرة التي تعد أساسية لسوق الطاقة العالمية، لا يزال يشكل أحد شروط الاستقرار الاقتصادي في اليابان التي تعتمد على واردات النفط والغاز.
ولقد دفع الصعود الاقتصادي والسياسي للصين الجانبين إلى اتخاذ منعطف جديد في التعاون، وسعي الحكومة اليابانية إلى تأكيد التزامها بما يسمى “النظام المبني على القواعد” يتزامن مع الاهتمام المتزايد من جانب الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي بآسيا، فقد بدأت القوى الغربية تعترف تدرجياً بفكرة رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي في شأن دمج المحيطين الهادئ والهندي، والتي انعكست في البداية فقط في مفهوم “المحيطين الهندي والهادئ الحر والمفتوح” الذي طرحته اليابان عام 2016، ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة بل إن فرنسا وحتى كندا لديها إستراتيجيتها الخاصة في المحيطين الهندي والهادئ، واليابان التي لا تدعم الخطاب الصيني الروسي حول “عالم متعدد الأقطاب” تعد قائداً مثالياً للأيديولوجية الليبرالية الجديدة بين عدد من البلدان سريعة النمو في شرق وجنوب شرقي آسيا، ومن ثم فإن اليابان تتحدث اللغة السياسية نفسها التي يتحدثها الغرب، ومن غير المرجح أن يقتصر التفاهم المتبادل المتزايد على الخطاب المماثل والمفاهيم النظرية الجديدة.
من التايغا إلى المحيط الهادئ
في وقت تعمل اليابان وحلف شمال الأطلسي على اعتماد آليات جديدة للتعاون الثنائي، يبدو أنهما يحاولان مزامنة ساعاتهما في مواجهة حال عدم اليقين العالمية، وبات النادي غير الرسمي لشركاء حلف شمال الأطلسي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، محط اهتمام بروكسل، وعلاوة على ذلك يفضل ممثلو حلف شمال الأطلسي خلال الحوار مع حلفائهم الشرقيين إثارة المشكلات ذات الطابع العالمي بدلاً من المشكلات ذات الطابع الإقليمي، لكن اليابان تربط التهديدات الحقيقية لأمنها لا بالأحداث التي تجري حالياً في أوروبا الشرقية بل بالأفعال الخطرة المحتملة التي تقوم بها ثلاث دول مجاورة هي كوريا الشمالية والصين وروسيا، وفي سياق التدهور غير المسبوق في العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وروسيا منذ الحرب الباردة، فإن دعم اليابان لاختراق التحالف آسيا يهدف من وجهة نظر طوكيو إلى احتواء القوى الخطرة القريبة جغرافياً، فالعلاقات الودية التي تربط اليابان بالهند والفيليبين وسنغافورة، وهي ليست من اللاعبين الإقليميين الأكثر طموحاً ولكنها واعدة، تخلق أجواء مواتية لتوسيع نطاق النشاط العسكري والدبلوماسي لحلف شمال الأطلسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
حق الأقوياء
قانون القوي هو مفهوم يشير إلى وجود قوانين غير رسمية في المجتمع الدولي حين يجري إعطاء القوة والسلطة أهمية أساسية، وهذا يعني أن القوانين والقواعد قد تصبح غير فعالة عند مواجهة تصرفات طرف أقوى، فوجود قانون القوي في المجتمع الدولي يعتمد على العوامل الاجتماعية والاقتصادية، والقوانين غير الرسمية قد تبدو تافهة، لكن المشكلة هنا أنها في بعض الأحيان لا تعمل بصورة أسوأ من القوانين الرسمية، وإذا ترجمت عبارة “حق الأقوياء” إلى اللغة العادية فستحصل على “لأنني قادر على ذلك”، وبموجب “حق القوة” بدأت الولايات المتحدة وأتباعها عمليات خاصة في يوغوسلافيا وليبيا وأفغانستان والعراق، وبموجب “حق القوة” دخلت القوات السوفياتية والروسية إلى أفغانستان وأوكرانيا، لكن أفغانستان تشكل استثناء لأن الروس والأميركيين غادروها، والسؤال الوحيد هو من غادر تحت الرايات المفتوحة ومن غادر بصورة عاجلة للغاية؟
إنه أمر صغير بالطبع، لكن بعض الناس لا يزالون يشعرون بعدم الارتياح عند تذكر خلوتهم، وبصورة أكثر دقة، فإنهم في الخارج يفضلون نسيان الأمر برمته، تماماً كما حدث مع النجاحات التي حققوها في فيتنام، واليوم يمكننا أن نرى كيف يجري تنفيذ “حق الأقوياء” في مسودة طروحات روسية في شأن الضمانات الأمنية التي تتوقعها موسكو من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وينص اتفاقان مع الولايات المتحدة وأعضاء التحالف على رفض توسيع حلف شمال الأطلسي إلى الشرق، بما في ذلك قبول أوكرانيا في صفوفه، فضلاً عن فرض قيود على نشر أسلحة هجومية خطرة، وبخاصة الأسلحة النووية، وقد دعا الرئيس الروسي مراراً وتكراراً إلى إضفاء الطابع الرسمي على هذه الاتفاقات، نظراً إلى أن الالتزامات الشفهية التي قطعها الغرب في السابق لم يجر الوفاء بها أبداً.
مقترحات لحلف شمال الأطلسي
تقترح روسيا ألا تتبادل مع أعضاء حلف شمال الأطلسي نظرة العداء إلى بعضهم بعضاً، وأن يصار إلى حل جميع التناقضات سلمياً من دون خلق مواقف من شأنها أن تهدد أمن الجانبين، ولحل المشكلات الناشئة تقترح استخدام آليات المشاورات العاجلة من خلال مجلس روسيا وحلف شمال الأطلسي الذي جرى تعليق عمله، كما تدعو موسكو إلى ضبط النفس في إجراء التدريبات العسكرية، ولا سيما من خلال حظر المناورات فوق مستوى اللواء “في منطقة الجانب المتفق عليه والتشكيل على كل جانب” من حدود روسيا وحلفائها وحدود دول حلف شمال الأطلسي.

وزير الدفاع الأميركي بيت غيجسيث في اجتماع ثنائي مع أمين “الناتو” مارك روته
ويطلب من الدول التي انضمت إلى حلف شمال الأطلسي خلال الحرب الباردة الامتناع من نشر الأسلحة في البلدان التي انضمت إلى حلف شمال الأطلسي بعد الـ 27 من مايو (أيار) 1997، أي في مختلف أنحاء أوروبا الشرقية، ويمكن ترك الأسلحة التي جرى وضعها هناك حتى هذه النقطة، وكذلك تقترح روسيا أن يتخلى حلف شمال الأطلسي عن أي نشاط عسكري في أوروبا الشرقية، بما في ذلك أوكرانيا ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، كما تضمن رفضاً قطعياً لتوسيع التحالف بصورة أكبر، وإن على حساب أوكرانيا، وإضافة إلى ذلك تدعو موسكو إلى الرفض المتبادل لنشر صواريخ أرضية متوسطة وقصيرة المدى في المناطق التي تسمح لها بضرب أهداف على أراضي روسيا والدول المشاركة في حلف شمال الأطلسي.
عروض لأميركا
تقترح روسيا أيضاً أن تتخلى الولايات المتحدة عن رحلات القاذفات الثقيلة ووجود السفن الحربية السطحية في المناطق التي تمكنها من مهاجمة أهداف على أراضي البلدين، وتحسين آليات منع الاقتراب الخطر بين السفن والطائرات، وتسترشد الأطراف حالياً باتفاق أبرم عام 1972، فروسيا مستعدة لعدم نشر الأسلحة النووية خارج أراضيها إذا فعلت الولايات المتحدة الشيء نفسه، وهي تدعو الولايات المتحدة إلى إعادة الرؤوس الحربية المنشورة بالفعل في الخارج والقضاء على البنية التحتية المقابلة، حيث بعض الرؤوس الحربية الأميركية موجودة في دول حلف شمال الأطلسي، كما تقترح عدم تدريب العسكريين من البلدان التي لا تمتلك أسلحة نووية على استخدامها، وعدم ممارسة سيناريوهات استخدامها.
الصعود نحو الهاوية
أصبحت قضية الضمانات الأمنية إحدى القضايا الرئيسة خلال المفاوضات بين روسيا والغرب الجماعي، وكما أكد الجانب الروسي فإن موسكو مهتمة بمنع حلف شمال الأطلسي من التوسع شرقاً ونشر أسلحة تهددها قرب حدودها، لكن الغرب يرفض مناقشة مخاوف موسكو، بما في ذلك الضمانات المحتملة، مع حلفاء واشنطن الرئيسين في حلف شمال الأطلسي، وكما أشار نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف فإن الجانب الروسي لا يعول على توفير هذه الضمانات بصورة سريعة من قبل التحالف، ومع ذلك فإن موسكو عازمة على مواصلة الحوار، وهي تعرب طوال هذا الوقت عن استيائها من توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، أي انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الحلف، ونشر أنظمة الدفاع الصاروخي في أوروبا.

رئيس الوزراء الياباني يصافح الرئيس الأوكراني على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك
لكن جيران روسيا الذين لديهم تاريخ طويل من الصراع معها كانوا ولا يزالون يشككون في تأكيداتها رغبتها في السلام، ولم يؤد سحق القوات الروسية للانفصاليين في الشيشان واجتياحها مناطق واسعة من أوكرانيا إلا إلى تأجيج هذه المخاوف، ورأوا في حلف شمال الأطلسي الضمانة الوحيدة لأمنهم.
من جهتها اتهمت روسيا، ولا تزال، حلف شمال الأطلسي بالتعهد برفض قبول دول أوروبا الشرقية في صفوفه، على رغم أن أية معاهدة وقعتها دول الحلف وروسيا لم تتضمن مثل هذه الأحكام، وعلى مدى العقدين الماضيين وصفت روسيا نشر عدد محدود من أنظمة الدفاع الصاروخي في أوروبا، المصممة لمحاربة ترسانة الصواريخ الإيرانية الصغيرة، بأنه تهديد للتكافؤ النووي مع الولايات المتحدة، وأعلنت واشنطن وحلفاؤها مراراً وتكراراً أن روسيا لا ينبغي أن تخشى الدفاع الصاروخي، وفي المقابل اعتقد حلف شمال الأطلسي أن روسيا تنتهك المبادئ الأساس لتنظيم نظام العلاقات الدولية، فهي تحاول الحد من سيادة الدول التي تعتبرها ضمن نطاق مصالحها وتتعدى على سلامة أراضيها مثلما حدث في جورجيا وأوكرانيا، ففي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا أصبحت العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وموسكو متوترة إلى حد غير مسبوق، وفي عام 2014 عقب ضم روسيا شبه جزيرة القرم، علقت بروكسل التعاون العملي مع روسيا، وقد نصت “إستراتيجية الأمن القومي للاتحاد الروسي” التي اعتمدت عام 2021، أي قبل الغزو المفتوح لأوكرانيا، على أن “زيادة الأخطار العسكرية والتهديدات العسكرية للاتحاد الروسي يسهلها بناء البنية التحتية العسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي قرب الحدود الروسية”، وفي عام 2022 جرى اعتماد المفهوم الإستراتيجي لحلف شمال الأطلسي الذي ينص على أن روسيا تشكل التهديد الأمني الأكثر أهمية ومباشرة للدول الأعضاء في الحلف.
في واقع الأمر واجهت روسيا الغرب الجماعي وحلف شمال الأطلسي مجتمعين في أوكرانيا مع شركائه الآسيويين من أستراليا إلى اليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وغيرها، ونجحت إلى حد كبير في هذه المواجهة التي لم يكن هدفها الأساس الاستيلاء على أوكرانيا، وقد صرح بوتين بوضوح أن هدفه ليس الاستيلاء على كييف بل إعادة بناء البنية الأمنية الأوروبية بأكملها والعودة لعام 1997 عندما لم تكن الدول الحليفة لموسكو سابقاً في “حلف وارسو” المحلول، أو في ما كان يسمى “المعسكر الاشتراكي”، أعضاء في حلف الـ “ناتو” المناهض لروسيا ولكل ما هو روسي منذ إنشائه قبل أكثر من 75 عاماً.