حرية ـ (29/4/2025)
في بداية سبعينيات القرن الماضي كان خورخي ماريو بيرغوليو رئيساً إقليمياً للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين. يومها وُصم بأنه “متشدد ومحافظ” ودخل في خلاف مع الرهبان اليسوعيين، فكان قرار بنفيه إلى قرطبة ثاني أكبر مدينة في البلاد.
عامان مرا وعاد بعدهما إلى بوينس آيرس بشخصية أكثر مرونة وتفهماً، وبعدها بعقود وصل إلى روما ليقود 1.4 مليار كاثوليكي في العالم عبر “ثورة” أسقطت جدراناً بين الكنيسة وأتباعها وأقامت أخرى… إنما داخل أروقة الفاتيكان.
“في الكنيسة متسع للجميع، من دون استثناء… ومن أنا لأدين” كرر البابا فرنسيس هذه العبارات في أكثر من لقاء ومقابلة عندما كان يسأل عن قرارات غير اعتيادية اتخذها طيلة نحو 12 عاماً في الفاتيكان، وهو الذي قال عقب اختياره خلفاً للبابا بنديكتوس الـ16 عام 2013 “علينا أن نحذر من مرض روحي يصيب الكنيسة عندما تنغلق على ذاتها، ولو كان علي أن أختار بين كنيسة جريحة تخرج إلى العالم، وكنيسة مريضة منغلقة على ذاتها، لاخترت الأولى”.
سنوات الحبر الأعظم، الذي توفي قبل أيام عن 88 سنة، أحدثت تغييراً ملموساً وكانت جدلية بامتياز وبخاصة أنها فتحت مرة جديدة وبصورة حادة جرح انقسام الكنيسة الأكبر في العالم بين تيارين متناقضين، بين الإصلاحيين والمحافظين.

تساؤلات عما إذا كان خلفه سيكمل بالإصلاحات التي أطلقها أم سيعيد إرساء أسس أكثر تقليدية
صراع الكرادلة والنفوذ
منذ لحظة إعلان وفاة فرنسيس وانطلاق رحلة البحث عن خلف له، دخل أسياد الثوب الأحمر القرمزي الرامز إلى الدم، أي الكرادلة، في صراع مباشر تتداخل فيه عوامل الدين والانتماء والجغرافيا والسياسة والنفوذ العالمي، وحتى العرق واللون، وسط تساؤلات عما إذا كان خلفه سيكمل بالإصلاحات التي أطلقها الراحل أم سيعيد إرساء أسس أكثر تقليدية داخل الفاتيكان، إحدى أكثر المؤسسات سرية وغموضاً في العالم.
كما أن اختيار الحبر الأعظم الجديد يأتي في توقيت بالغ الحساسية والأهمية عالمياً مع عودة الرئيس الجمهوري دونالد ترمب إلى البيت الأبيض ومعه إلى ساحة الصراع العالمي، وكذلك تصاعد نفوذ اليمين المتطرف وبخاصة في دول أوروبية.
في المقابل فإن مجمع الكرادلة الذي يضم نحو 250 كاردينالاً، ويُرتقب أن ينعقد في بدايات مايو (أيار) المقبل لانتخاب البابا الجديد، شهد في عهد فرنسيس تغييرات جذرية تمثلت، وفق تقارير، بتعيين 163 كردينالاً جديداً على مدار أعوام من 76 بلداً، بينها 25 دولة لم تكن ممثلة في السابق، مما سحب البساط مبدئياً من أوروبا داخل هذا المجمع، باعتبار أن أكثرية ثلثي الكرادلة ليسوا من القارة العجوز.
وهنا يقول مؤلف كتاب “المصلح العظيم: فرنسيس وصناعة بابا راديكالي”، أوستن إيفري، إن التعيينات التي قام بها الأخير داخل مجمع الكرادلة قد تؤدي إلى انتخاب بابا يلبي حاجات الكنيسة في هذا العصر. لكن هذا الأمر تحوم حوله شكوك كثيرة، فاختيار الخلف يحتاج إلى ثلثي أصوات الكرادلة المؤهلين للتصويت، فيما لا يحظى المحافظون ولا الإصلاحيون بهذه الأكثرية، مما يعني حكماً اشتداد الصراع قبل خروج الدخان الأبيض أو حتمية إجراء اتفاق بين التيارين

اختيار الحبر الأعظم الجديد يأتي في توقيت بالغ الحساسية والأهمية عالمياً
صراع اليوم يعيد ماضي القرون الوسطى حين انقسمت الكنيسة بين تقدميين وتقليديين، حتى أن مجلة “بوليتيكو” كانت بدورها نشرت مقالاً ذكرت فيه أن مجمع الكرادلة لم يعد راهناً يتمتع بالتماسك السابق نفسه، وهو ما يعود جزئياً إلى تعيينات البابا فرنسيس، إذ عبر التاريخ كان الكرادلة في غالبيتهم إيطاليين أو أوروبيين، لكن التغييرات الأخيرة أعطت 73 كاردينالاً حق التصويت في المجمع وهم من خارج أوروبا، مما قلل من فرص بناء تحالفات داخلية.
فيما تقول تقارير إن الجناح المحافظ يقوده أسقف نيويورك الكاردينال تيموتي دولان والألماني غيرهارد مولير، بينما يبرز في الجناح الإصلاحي الكاردينال جان كلود هولريتش من لوكسمبورغ الذي يعدّ صغر سنه (66 سنة) عائقاً في وجه انتخابه، والكندي مايكل زيرني اليسوعي.
لماذا أغضب البابا فرنسيس المحافظين؟
من دون مهادنة وبصورة واضحة وعلنية، انتقدت شخصيات دينية محافظة في الفاتيكان تعامل البابا الراحل مع كثير من الملفات، بعضها جوهري وأساس في تاريخ الكنيسة، حتى أن كتباً ومذكرات وتصريحات إعلامية وتقارير صحافية، انتقدته بصورة مباشرة وبعضها سأل عما إذا كان البابا الراحل “كاثوليكياً”، في إشارة إلى خروجه عما هو مألوف.
وفي تاريخ الحبرية الممتد على مئات الأعوام، لطالما اعتبر المحافظون إلى جانب الحبر الأعظم، إلا أن ما حصل مع برغوليو كان سابقة، وما رآه مئات آلاف المسيحيين حول العالم انفتاحاً مطلوباً وكنيسة أكثر شمولية، اعتبره التيار المتشدد ابتعاداً عن الجذور والتأسيس… وحتى انقلاب.
أيضاً كان البابا الراحل على خلاف واضح مع رموز اليمين المسيحي الأميركي المحسوبين بصورة أو بأخرى على التيار المحافظ ولهم تأثيرهم في عملية انتخاب البابا الجديد، وليس بعيداً انتقاده المباشر المتكرر والعلني لسياسات الرئيس دونالد ترمب المتعلقة بملاحقة المهاجرين غير الشرعيين، داعياً إلى “التأمل في المحبة التي تبني أخوة مفتوحة للجميع من دون استثناء”.
وفي السياق نفسه، يقول موقع بوليتيكو إن “جماعة ترمب تركوا تأثيرهم في السياسة الأوروبية، ولن تكون لديهم مشكلة في التدخل بالمجمع الانتخابي (لانتخاب بابا جديد)، فيما سيرغب البيت الأبيض ربما ببابا أقل صدامية معهم”.
فرنسيس الإصلاحي وأحياء الأرجنتين
في رحلة البحث عن أسباب اختلاف البابا فرنسيس عن بقية الباباوات أو أقله آخر اثنين منهم، لا يمكن إلا أن نتوقف عند النشأة والطفولة، فالبابا يوحنا بولس الثاني، البولندي الأصل، ولد ونشأ في بلدة هادئة تقليدية طبعت بلا شك شخصيته، كذلك الأمر بالنسبة إلى البابا بنديكتوس الـ16 الذي ولد وعاش في قرية بالريف الألماني.
هدوء الريف الأوروبي قابله صخب الأحياء الأرجنتينية الشعبية حيث لا صوت يعلو على صوت رقصة التانغو وضجيج الناس والشوارع، وهذا ما يربطه متابعون بقرب البابا فرنسيس من الشعب وبخاصة الفئات المهمشة والضعيفة.

يربط متابعون قرب البابا فرنسيس من الشعب وبخاصة الفئات المهمشة بنشأته وطفولته في الأرجنتين
واللافت أن خورخي ماريو بيرغوليو كان استثنائياً في أكثر من ناحية وزاوية، فهو أول بابا من أميركا اللاتينية وأول بابا يسوعي، وأول من تم انتخابه وسلفه (بنديكتوس الـ16) على قيد الحياة، وأول من اختار اسم فرنسيس، وأول من زار دولاً لم يطأها حبر أعظم من قبل كالعراق وكورسيكا، وأول من أقام خارج القصر الرسولي مفضلاً البقاء في دير القديسة مارتا المتواضع، ولبس اللباس العادي واختار التنقل في سيارة متواضعة.
قد تكون هذه الاستثناءات عادية، لكن أخرى لم تمر مرور الكرام، ومنها أنه كان أول من أسند أدواراً مهمة وأساسية للنساء والعلمانيين في الكوريا الرومانية، وأول من ألغى السر الباباوي في قضايا الاعتداءات الجنسية، وأول من بارك المثليين، وغيره الكثير… مما ترك عواصف عاتية هزت أعمدة الفاتيكان، سندخل في تفاصيلها في الأسطر اللاحقة.
توجس المحافظين من فرنسيس الإصلاحي
“شاغب” فرنسيس في قضايا خشي كثير من الباباوات السابقين فتح أبوابها المغلقة، كما أثار ريبة التقليديين أو المحافظين داخل الكنيسة الكاثوليكية بقرارات وصفت بالثورية، هي خمسة ملفات كبرى طبعت مسيرة الراحل داخل أروقة الفاتيكان، وصدمت كل واحدة منها مئات ملايين الكاثوليك حول العالم طوال 12 عاماً.
أولاً، تخطى البابا فرنسيس تقاليد كانت قائمة منذ مئات الأعوام ووسع دور المرأة في الكنيسة الكاثوليكية، فمنحها حق التصويت في السينودس، الذي نالته الأخت ناتالي بيكوار عام 2021، كذلك عين باربارا جاتا مديرة لمتاحف الفاتيكان عام 2016، ورفع الأخت رافاييلا بيتريني إلى رئاسة حاكمية الفاتيكان. قراراته عبر عنها المؤرخ الكنسي ماسيمو فاجيولي بقوله “جعل ما كان مستحيلاً… قابلاً للتداول”.

فرنسيس “كسر” الخوف من أية مقاربة طقوسية لدور المرأة في الكنيسة
فرنسيس الذي “كسر” الخوف من أية مقاربة طقوسية لدور المرأة في الكنيسة، أنشأ أيضاً لجنتين لدراسة الشماسات، لكن في الوقت عينه أبقى تمسكه بالعقيدة في رفض كهنوت النساء، وهو ما يرفضه أيضاً المحافظون بصورة قاطعة.
بالأرقام، كشفت صحيفة الديباتي الإسبانية، أنه خلال العقد الأول من حبرية فرنسيس ارتفعت نسبة النساء العاملات في الفاتيكان من 19.2 إلى 23.4 في المئة، إلا أن هذا الارتفاع وعلى رغم أهميته لم يكن بالمستوى الذي أراده التقدميون داخل الكنيسة وخارجها.
ثانياً، فتح الحبر الأعظم الراحل واحداً من أخطر وأكثر الملفات غموضاً وسوداوية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، إنه ملف تحرش رجال الدين واعتدائهم على أطفال وقاصرين، الذي كان مجرد الحديث عنه في الإعلام من المحرمات و”خطيئة”، بل في مراحل سابقة في منتصف القرن الماضي، لم يتم تصديق الضحايا أو الإصغاء إليهم واعتبروا أنهم أسهموا بطريقة أو بأخرى بما حصل لهم.
لكن ما الذي فعله البابا؟ ولماذا يؤخذ عليه عدم نجاحه في إقفال هذا الملف؟
عملياً وخلال أعوام حبريته الـ12، تم إصدار نحو 60 مرسوماً لتعديل القانون الكنسي والنظام القضائي الفاتيكاني تضمنت قواعد وإجراءات أكثر صرامة في مكافحة الانتهاكات الجنسيّة، مثال على ذلك الوثيقة التي صدرت عام 2019 ضمن قمة حماية القاصرين في الفاتيكان، وعبرت عن استعداد الكنيسة للعمل بحقيقة وشفافية في موقف تائب، والأهم هو المرسوم الذي صدر ومن خلاله رُفع العمل في ما يعرف بقاعدة “السرية الباباوية” عن قضايا الاعتداءات الجنسية ضد قاصرين.
إذ كانت الكنيسة تفرض سابقاً تعتيماً على حالات الاعتداء الجنسي وتحيطها بسرية، وتتعامل مع هذه القضايا وفق قاعدة السرية التي وضعت أساساً لحماية المعلومات الحساسة المتعلقة بالكنيسة، لكنها تحولت لاحقاً إلى أداة للإفلات من العقاب.
كذلك وضع البابا فرنسيس إجراءات جديدة للإبلاغ عن التحرش والعنف، وأدخل مفهوم المساءلة، ومن خلاله يرغم الكهنة والرهبان والراهبات على التبليغ عن أية شبهة باعتداء جنسي أو تحرش، وكذلك عن تغاضي مسؤولي الكنيسة عن هذه الأفعال.
الحبر الأعظم غير أيضاً تعريف الفاتيكان لاستغلال الأطفال في شكل إباحي، بحيث يشمل تعريف القاصر من هم دون 18 سنة بعدما كان 14.
وقبلها كان اعتذر علنياً عام 2018 عن الإساءة إلى الطفولة عبر حوادث التحرش التي قام بها رجال دين.
لكن وعلى رغم كل هذه القرارات، طاولته انتقادات علنية وبخاصة من المحافظين بأنه لم يقفل البابا على هذا الملف بصورة تامة، بل بقيت تتكشف حالات تحرش في أعوام حبريته.
ثالثاً، قراره بمنح المطلقين المتزوجين مجدداً الحق في تناول القربان المقدس، الذي اعتبر حينها من بين أكثر القرارات إثارة للجدل.
في التفاصيل، مضى البابا فرنسيس، ومنذ خلال “الإرشاد الرسولي” الذي تضمن خلاصة ما توصل إليه سينودوس عامي 2014 و2015، في ما كان ينتظره المطلقون الذين تزوجوا مرة ثانية مدنياً خارج الكنيسة، من خلال الدعوة إلى رفض إدانتهم، هذا الملف حسم من خلال وثيقة طويلة مؤلفة من 260 صفحة ومخصصة للعائلة والزواج بعنوان “فرح الحب”، وفيها تم التطرق إلى مسألة المناولة التي تعتبر ذروة الليتورجيا الكاثوليكية، وتعد المطلب الأساس للكاثوليك المتزوجين مدنياً بعد طلاق.
رابعاً، الخطوة الأكثر إثارة للجدل على الإطلاق في مسيرة البابا فرنسيس بأكملها، الذي منح بموجبها البركة للمتزوجين من الجنس نفسه، وهو قرار وصفه كثيرون بالانقلاب غير المسبوق في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، ففتح المحافظون “نار” الانتقادات.
في الوثيقة نفسها المذكورة أعلاه فقرتان تتطرقان إلى ضرورة إحاطة العائلات “التي يظهر أحد أفرادها ميولاً مثلية”، فيما أكد فرنسيس نفسه “على ضرورة احترام كل شخص في كرامته والتعامل معه باحترام بمعزل عن ميوله الجنسية”، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن “لا أساس لأي وجوه شبه ولو من بعيد بين زيجات مثليي الجنس ومقاصد الله حول الزواج والعائلة”.
ليس ذلك فقط، بل أصدرت “دائرة عقيدة الإيمان” في نهاية عام 2023 وثيقة تحمل موافقة البابا رسمياً على السماح للقساوسة بمباركة الأزواج المثليين، مما اعتبر انقلاباً تاريخياً غير مسبوق في سياسة الفاتيكان لناحية التعامل مع المثليين.
وفي حين أشارت الوثيقة حينها، إلى أن الزواج “سر مقدس مدى الحياة بين رجل واحد وامرأة واحدة”، فإنها أكدت أن “طلبات الحصول على البركات في زواج المثليين لا ينبغي رفضها تماماً”.
هذه الوثيقة فجرت بركان انتقادات داخل الفاتيكان وبخاصة من قبل التيار المحافظ، مما دفع الفاتيكان لإصدار بيان توضيحي يؤكد فيه أن عقيدة الزواج لن تتغير ومنح البركة للأزواج المثليين لا تعني أبداً الموافقة على الزواج.

أصدرت “دائرة عقيدة الإيمان” عام 2023 وثيقة تحمل موافقة البابا على مباركة الأزواج المثليين
وبالعودة إلى عام 2013، صدم برغوريو العالم بتصريح قال فيه إن “المثلية خطيئة وليست جريمة” متسلحاً بجواب السيد المسيح قائلاً “ومن أنا حتى أدينهم؟”، ليأتي الموقف التالي عام 2016 عندما قال إنه على الكنيسة الكاثوليكية أن تعتذر للمثليين، بسبب الأسلوب الذي تعاملت به معهم.
ولتبيان الفرق الشاسع بين فرنسيس وبنديكت الـ16، كان الأخير وصف زواج المثليين بأنه من الأخطار التي تهدد النظام التقليدي للأسرة وتقوض مستقبل البشرية نفسها.
خامساً وأخيراً، التقارب مع الديانات الأخرى وبالتحديد الإسلام بعد أعوام طويلة كانت أشبه بالقطيعة، فعمل الحبر الأعظم الراحل على زيارة الشرق الأوسط ومراكزه الإسلامية مرات عدة، ووقّع وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب في أبو ظبي عام 2019.
ومن قراراته التي تعتبر “تركة” ثقيلة على خلفه، الاتفاق التاريخي مع الصين، الذي منح بموجبه الحكومة الصينية صلاحيات أوسع في اختيار الأساقفة، وهو مما لم يُعمل به من قبل في تاريخ الكرسي الرسولي. وعلى رغم اعتراض الكثير من التقليديين على هذا التوجه بوصفه تنازلاً من الكنيسة للحكومة الشيوعية في بكين، فإن مؤيديه يقولون إن فرنسيس تنازل عن بعض الاستقلالية في اختيار الأساقفة التي سعى الفاتيكان جاهداً إلى تحقيقها، في سبيل تحقيق مصلحة أشمل.
فضائح مالية في الفاتيكان
ثورة البابا الإصلاحية لم تقتصر على جوانب دينية واجتماعية وجندرية، بل تعداها إلى ما هو مالي في الكنيسة الكاثوليكية، وقد نجح عقب قرارات عدة في مواءمة قواعد الكنيسة المالية وأجهزتها الرقابية أسوة ببقية الدول، وفق الهيئة الأوروبية لمكافحة غسل الأموال.
وفي السياق، أقفل مصرف الفاتيكان الذي يدير كتلة نقدية تفوق الـ6 مليارات يورو، 5000 حساب مشبوه خلال أعوام حبرية البابا فرنسيس، ووفق تقارير صحافية تراجع العجز في موازنة الفاتيكان بنسبة 65 في المئة بعد إخضاعها لهيئة رقابية جديدة.
في حين أُحيل عدد من كبار المسؤولين السابقين عن مالية الكنيسة إلى المحاكمة، وعلى رأسهم وزير المالية السابق الأسترالي جورج بيل.
كذلك خرجت فضيحة كبرى إلى العلن عام 2023 تتعلق بأحد أقوى الكرادلة فى الفاتيكان ويدعى أنخيلو بيتشو، الذي استقال بعد محاكمته بتهمة الشراء الفاسد لعقار فخم في لندن باسم الفاتيكان، على رغم أنه كان من المقربين من البابا فرنسيس.
وشكلت محاكمة بيتشو اختباراً للإصلاحات المالية التي سعى الراحل إلى تطبيقها، وقام قبل انطلاقها بإعطاء المحاكم المدنية في الفاتيكان صلاحية ملاحقة الكرادلة والأساقفة بعدما كان الأمر يقتصر على محاكم يترأسها رجال دين.
كثيرة هي الترجيحات والسيناريوهات التي يتناقلها متابعون للشأن الكنسي عن خليفة فرنسيس، بين هوية آسيوية أو أفريقية، أو عودة إلى الحبرية الإيطالية، ولا أحد حتى الساعة لديه الاسم اليقين، لكن ما تيقن منه المتابعون هو أن برغوريو شق دروب التغيير في صميم الفاتيكان عبر تحول بنيوي غير عابر أو مرحلي، ولم يعد بإمكان الكنيسة الكاثوليكية العودة إلى مراحل سابقة.

توجهات بنديكتوس المحافظة قابلتها رؤى فرنسيس التي تميل إلى اليسار
عن علاقة راتزينغر المحافظ ببرغوريو الإصلاحي
عندما استقال البابا بنديكتوس الـ16 عام 2013، وانتُخب البابا فرنسيس، حصلت سابقة في تاريخ الكنيسة تمثلت بوجود باباوين في الوقت نفسه على قيد الحياة، والأهم أن كلاً منهما ينتمي إلى تيار، فالأول محافظ والثاني تقدمي.
بعد عدة أيام لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، من وفاة بنديكتوس، صدر كتاب يحوي أدق أسرار حياة الرجل، كتبه تلميذه المقرب وسكرتيره الإداري رئيس الأساقفة جورج غانسوين الألماني الجنسية، وحمل عنوان “لا شيء سوى الحقيقة… حياتي برفقة البابا بنديكتوس الـ16”.
من دون الدخول في كثير من تفاصيل ما ذكره الكتاب، إلا أنه كشف عن بعض من علاقة الباباوين الراحلين، ومنها مثلاً أن نقطة الخلاف الأول بين فرنسيس وبنديكتوس كانت عندما رفض الأول، وبعد انتخابه مباشرة، الإقامة في شقة القصر الرسولي المخصصة تقليدياً للباباوات.
يدخل الكاتب في توجهات بنديكتوس المحافظة، ورؤى فرنسيس التي تميل إلى اليسار، ويتوقف عند “صدمة” بنديكتوس من قرار فرنسيس بإعطاء المناولة المقدسة للمطلقين والمتزوجين من جديد خارج الكنيسة.

يترقب العالم مجمعاً انتخابياً متوتراً مرشحاً لأن يتحول إلى ساحة صراع حاد بين التيارات المحافظة والإصلاحية
وعبر صفحات الكتاب عينه نجد قصة أخرى تتصل بتسريب رسالة من بنديكتوس، يعرب فيها عن انزعاجه من تغيير فرنسيس قواعد صلوات القداس اللاتيني القديم، مما اعتبر من جانب التيار المحافظ في الفاتيكان توجهاً يسارياً جديداً يقوده فرنسيس داخل الكنيسة.
ويقول جورج غانسوين “إن المشكلة ليست حقيقة وجود اثنين من الأحبار على قيد الحياة، ولكن ولادة وتطور مجموعتين حزبيتين، لأنه بمرور الوقت أصبح من الواضح أن هناك رؤيتين مميزتين للكنيسة، وقد خلقت هاتان المجموعتان توتراً ردده الآخرون الذين لم يكونوا على دراية بالديناميات الكنسية”.
ترقب لما هو مقبل وقلق من التغيير العكسي
“أخرج الباباوية من القصر إلى الشوارع” بهذه العبارة وصفت مجلة “التايم” الأميركية البابا فرنسيس عام 2013 عندما منحته لقب “شخصية العام” ووصفته بأنه “بابا الشعب” كونه عمل على تقريب الكنيسة من الناس، لكن شعبية فرنسيس أزعجت وأقلقت من دون شك المحافظين في الكنيسة الكاثوليكية، الذين طالما رأوا في بعض الآباء السابقين، مثل يوحنا بولس الثاني، رجلاً يتمتع بشعبية جارفة لم تمنعه من الالتزام بالخط الكاثوليكي التقليدي.
فيما يؤكد كثيرون أن فرنسيس لم يخرج عن أسس الكنيسة التاريخية، لكنه حاول رسم طريق وسط بين مشروع التقليديين الذي تركه بنديكت، وثورية الإصلاحيين التي تلبي حاجات جيل الشباب والعصر الحديث.
واليوم مع وداعه رسمياً بحضور نحو 50 رئيس دولة حول العالم وعشرات القيادات، يقلق أتباع الكنيسة الكاثوليكية من أن يضغط خليفة فرنسيس لإغلاق المجال الذي أسهم في فتحه البابا القادم من الأرجنتين.
فيما يترقب العالم مجمعاً انتخابياً متوتراً، مرشحاً لأن يتحول إلى ساحة صراع حاد بين التيارات المحافظة والإصلاحية داخل الكنيسة.