حرية ـ (22/5/2025)
مارلين كنعان
يبدو أن صوت الباحثة الفرنسية بريجيت بودون (1955-2023) ما زال يخترق الصمت، وصداه ما زال يتردد في دروب الحكمة المنسية، بعد عامين على وفاتها المفاجئة عن عمر يناهز 68 سنة. ففي كتابها “قوة الفلاسفة، العصور القديمة”، الصادر حديثاً عن منشورات “أنكراج”، سلسلة “اللقاءات الفلسفية” (2025)، لا تكتب أستاذة الفلسفة اليونانية لتعلم، بل لتهمس في آذان قرائها أن الطريق التي سلكها الفلاسفة القدماء ما زالت تتقاطع مع طريقنا، وأن فكرهم دائم التجدد، وأنه في حقبات التأزم يرجى هؤلاء، كالرواقيين الذين دعوا إلى قبول الحاضر وكبح النفس عن الانقياد وراء اللذة أو الخوف من الألم عبر مشورة العقل لفهم العالم وفعل ما تقتضيه الطبيعة، أو كهيراقليطس في رؤيته للعالم في تغيره الدائم الذي أكد رينيه توم، وهو عالم رياضيات من القرن الـ20، أن لا شيء أكثر حداثة من رؤيته الدينامكية للعالم، أو كسقراط وأفلاطون وأرسطو بوصفهم أسياد الفكر ومعلمي العالم الذين لا تزال صورهم تحتل صفحات المجلات كما لو أنهم آخر الأساتذة المفكرين، أو كلوكريتيوس الذي بين الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشال سير أن رؤيته الذرية للعالم تفتح المجال أمام تصور انسيابي للكون يتمتع براهنية نادرة.
تتجلى إذاً ديمومة الفلاسفة القدماء، سواء كانوا من فلاسفة ما قبل سقراط أم من الأفلاطونيين أم الأرسطيين أم الأبيقوريين أم الرواقيين أم الأفلاطونيين الجدد، برأي بريجيت بودون في قوة تفكيرهم كما في قدرتهم على العيش وفقاً لأفكارهم. لقد قدموا لنا ليس فقط المفاهيم الأساسية للفلسفة، بل أيضاً إمكان العيش بحسبها، فضلاً عن أن المواضيع التي تفكروا فيها منذ القرن السادس قبل الميلاد ما زالت تطرح بثقلها على الإنسان المعاصر وتشكل أساس كل التأملات التي وقعها الفلاسفة الذين جاءوا من بعدهم. الفلسفة الوسيطة في تجلياتها المسيحية، وفكر عصر النهضة، والتساؤلات الكبرى لفلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، ما انفكت تستمد بعض مسائل ومفاهيم هذا الإرث الاستثنائي، على رغم القطيعة التي برزت بين مرحلة وأخرى.
العودة الدائمة

الكتاب الفرنسي (دار أنكراج)
هل يعني هذا أن المفكرين والفلاسفة المعاصرين لم يبتكروا شيئاً، وأننا محكومون بالعودة للفلسفة القديمة؟ تجيب بريجيت بودون عن هذا السؤال في كتابها الصغير قائلة إن الرد على هذا السؤال سلبي بالتأكيد، لكنها تشدد على أن كل شيء يكمن في البدايات والجذور، فالفلاسفة القدماء هم أول من تفكر في الإنسان والعالم. ولئن كان التفكير يعني بحسبها الاستيقاظ من السبات العميق، فإنه يعني أيضاً التجدد المستمر، والفلاسفة القدماء هم أول أناس أرادوا أن يحيوا مستيقظين وأن يعيشوا وفق العقل ونوره، لذا كان لا بد برأيها من استعادة تعاليمهم في هذا الكتيب الذي، على رغم صغر حجمه، واسع في مداه، ينتشل الفلسفة القديمة من قيدها الأكاديمي ليعود بها لما كانت عليه، أسلوب حياة وطريقة للوجود في العالم وللتعامل مع الذات. فالفلسفة اليونانية القديمة أسهمت في نحت عدد من المفاهيم والأسس التي قام عليها الفكر الفلسفي التي استمرت حتى يومنا هذا، كتأسيس منهج يعتمد على المنطق والاستدلال والتحليل، والاهتمام بالأسئلة الأساسية حول الوجود والمعرفة والمعنى والحقيقة والسلوك والقيم والحياة في المدينة.
بدءاً من الصفحات الأولى، تستحضر بودون تعاليم هيراقليطس ولوكريتيوس وسقراط، مهيئة المشهد لفكر متجدد دوماً، لا ينفك، كالنار المقدسة التي لا تزال جمراتها كامنة تحت الرماد، ينبعث من جديد.
ليس الكتاب مجرد عودة للبدايات، بل صعود نحو الينابيع، حيث تلتقي الصرامة الفكرية بالسلاسة، والحدس بقوة البحث العلمي الرصين. ولئن كان لا شيء، على ما يقول رينيه توم، أكثر حداثة من الفكر في حال التكون، فإن لا شيء أكثر حياة، كما تقول بريجيت بودون، من صوت فيلسوف يوناني اختار أن يعيش يقظاً قبل 2500 عام.
الكتاب الصغير عبارة عن تأملات عميقة في مواضيع ما زالت تهم القارئ المعاصر، تأملات تجعلنا لا نقرأ بل نصغي لـ”اللوغوس” ليس بوصفه مفهوماً مجرداً، بل كلمة تنبض، تجمع وتربط وتنظم الفوضى.
عيش الفلسفة
تقول بريجيت بودون إن العيش عند القدماء وفقاً لـ”اللوغوس” كان فيما مضى يعني العيش في انسجام مع الذات ومع الآخرين والعالم، وكانت الكلمة والفكر والعقل والقياس كلها جسداً واحداً ولم تكن الفلسفة تأملاً، بل تحولاً. لا تشرح بودون هذه الأفكار وغيرها كما عبر عنها طاليس وأنكسيماندروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وحسب، بل ترسم حولها دوائر من نور، بحيث يصبح كل اسم عندها عتبة ودعوة إلى العبور.
أبعد من المذاهب والمدارس الفلسفية، تستخرج أستاذة الفلسفة ورئيسة تحرير مجلة “أكروبوليس” من هذه التعاليم الفكرية مواقف روحية. ذلك أن التفكير ليس برأيها جمعاً للمعارف، بل، كما علم سقراط، تعلم معرفة النفس التي تعني الاعتراف بأننا جزء من الكل، كون صغير ينبغي أن يتناغم مع الكون الأكبر.
في هذا المسار التمهيدي، لا يعارض “الميثوس”، أي الأسطورة أو القصة “اللوغوس”، أي العقل، بل يشكل كلاهما عمودي معبد الإنسان الداخلي، فأحدهما يمثل القوى البدائية، لغة الحلم والنماذج الأصلية، والآخر يسمي، يربط ويعقل ويوضح. لذا تشدد بودون على أن الفلسفة القديمة لا تفصل “الميثوس” عن “اللوغوس”، بل توحدهما، قائلة لنا إن اتحاد المعنى والرمز يسقي هذه الحكمة بأكملها وإن التمييز بين المعرفة والحكمة، بين “السوفوس” و”الفيلوسوفوس”، ليس مجرد تبحر علمي، بقدر ما هو تذكير بتوتر مثمر بين العالم والإنسان الصالح الساعي وراء الحكمة. فالحكمة ليست تملكاً، بل طريق وسعي. ليست قمة، بل حالة من البحث والسير والتوجه الداخلي، الذي يتطلب العناية بالنفس والعيش بحسبها.
تذكرنا بريجيت بودون كذلك أن هذه الفلسفات القديمة ليست منسية على رفوف المكتبات المغبرة، بل تسكن تفاصيل حياتنا اليومية، تعود أفكارها وتعاليمها للظهور في لحظات التأزم، أو حين ينهار شيء، أو في الصمت العميق. فالرواقية ضرورية في صخب الحاضر، لأننا بواسطة نصوصها نستعيد قوة غير متوقعة. أما سقراط، فلا يكف عن استفزازنا بأسئلته التي تعيدنا دوماً لضرورة مراجعة معارفنا ومساءلة السلطة والابتعاد من الدوغمائية في جمالية عارية جعلت من حياته عملاً فلسفياً كاملاً، والأفلاطونية المتفردة في نوعها وحيويتها وعمقها والراغبة في تقريب الكتابة من الكلام، وتمييزها بين الحقيقة والمظاهر، ما زالت مرجعنا في كل حين، مما حدا بالفيلسوف البريطاني ألفريد نورث وايتهيد إلى القول إن “الفلسفة الغربية لا تعدو أن تكون سلسلة هوامش على محاورات أفلاطون”.
لا تتردد بريجيت بودون عن الحديث عن المدينة اليونانية، أي عن المجال السياسي الذي حمل عند اليونان بعداً كونياً، أو في الأقل عاماً. فتقول لنا إن الأخلاق والدين ومسائل التعليم لم تكن ممكنة خارج المدينة التي شملت كل الأنشطة التي تتعلق بالخير العام، لذا كانت ممارسة السياسة والمشاركة في الحياة العامة عند اليونان القدماء النشاط الأكثر نبلاً. وتتساءل لماذا كان الفلاسفة اليونانيون يعظمون السياسة؟ يأتي جوابها بمثابة تذكير لنا بأن فكرة النجاح الشخصي أو الخاص لم تكن موجودة في الحضارة اليونانية القديمة، وأن الإنسان الناجح هو من يعترف بنجاحه علناً وأمام الجميع، وهو ما يعجب به أيضاً من الناحية الأخلاقية أو الجمالية. هذا يعني أن كل ما هو جميل يجب أن يكون خيراً وحقيقياً، ولذلك يجب على المواطن أن يتحلى بجميع الصفات الأخلاقية كالعدالة والتقوى والإحساس بالشرف وروح التضحية، بمعنى أن السياسة هي ما يتيح للإنسان تحقيق ذاته، والتعبير الفعلي عما يحمله في داخله من خير، فلا يوجد إذاً تحقيق للفرد خارج إطار المدينة.
على طريقة الفلاسفة القدماء، يتخذ الكتاب شكل حوار حي، لا سيما في قسمه الثاني حيث مجموعة من الأسئلة والأجوبة تعيد إحياء روح التساؤل السقراطي، هذا الأسلوب، على رغم بساطته الظاهرة، هو في عمقه مسار تمهيدي. يعيدنا للنبع، كالمتدرب الذي يكتشف أن الحكمة لا تكمن في الأجوبة، بل في نوعية الأسئلة.
ليس كتاب بريجيت بودو “قوة الفلاسفة، العصور القديمة” كتاباً آخراً عن الفلسفة اليونانية، بل هو يد ممدودة ودعوة إلى السير من جديد نحو نور البدايات والتفكير في الوجود في كليته. هو ومضة حلوة تستعيد حقبة مضيئة من تاريخ الفكر البشري، مشددة على ضرورة استلهامها والتفكير من خلالها، بغية فهم ما يحدث في عصرنا. إن قراءته عودة للينابيع التي ما زالت تغذي حياتنا.