حرية ـ (27/5/2025)
نيرمين علي
تفتح عينيك صباحاً وتنظر إلى أقرب ساعة متاحة حولك، وخلال أجزاء من الثانية وبناء على مكان تموضع عقربي الساعة تحدد الفعل الأول الذي ستقفز من السرير لتتهيأ له. الحقيقة أن الساعة أصبحت تملي علينا اليوم الكيفية التي نستجيب بها، وتتولى عملية اتخاذ قراراتنا بدءاً من لحظة الاستيقاظ الأولى وصولاً إلى ساعة النوم، تتقدم طوال الوقت وهي تحثنا على الإسراع متنقلين هنا وهناك لاهثين للحاق بالمهل الزمنية الموضوعة لنا، آملين بالوصول إلى معيار الكفاءة المزعوم، والتحلي بفضيلة العمل بكد، تقودنا عبارات على شاكلة “الوقت من ذهب” و”الوقت كالسيف” و”الوقت أثمن ما نملك”.
في عصر قائم على ثقافة الاستهلاك، المال هو الهدف الأول، وللحصول عليه يطلب منك أن تقدم وقتاً، ” فالمال مقابل الساعة”، يدفعنا هذا الواقع إلى البقاء على أهبة الاستعداد 24 ساعة في اليوم، هل من خروج محتمل من الدائرة المجنونة تلك؟
مرض الوقت
يصيبنا في العصر الحالي ما يعرف بـ”مرض الوقت”، وهو اسم اصطلح على تسميته الطبيب الأميركي لاري دوسي، والحقيقة أن أغلبنا مصاب بلوثة الاستعجال أو ما يسمى الـ”كرونوفوبيا”، التي تشخص كنوع من اضطراب القلق الذي يتجلى عبر الخوف من الوقت، وتتمثل الأعراض الأكثر شيوعاً لهذا الرهاب في الشعور بضيق الوقت بصورة عامة، الذي غالباً ما يرتبط بالخوف وصعوبة إنجاز المهام في موعدها المحدد، إضافة إلى التسويف وسوء التخطيط ليوم العمل، والتشتت ومحاولة إنجاز أشياء كثيرة في وقت واحد.
في الواقع تبدو علاقتنا مع الوقت سامة ومشحونة ومختلة في بعض الأحيان، كما تبدو بالنسبة إلى كثير من المفكرين كما لو أنها تجردنا من إنسانيتنا، لنقرأ معاً كيف قالها صراحة مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب “إننا ننتقل من عالم يأكل الكبير فيه الصغير، إلى عالم يأكل السريع فيه البطيء”.
والشاهد أننا مهجوسون بالوقت، يدفعنا إيقاع الحياة المتسارع إلى كسب مزيد من الوقت من خلال محاولة تسريع إيقاعنا، ويجادل الكاتب الكندي كارل أونوريه، بأن مرض الوقت ربما يكون عرضاً من أعراض الإصابة بوعكة وجودية أعمق، مستشهداً باعتقاد كونديرا حول أن السرعة تساعدنا في حجب رعب العالم المعاصر وعقمه، إن “زمننا مهجوس بالرغبة في النسيان، وما الاندفاع إلى شيطان السرعة إلا أملاً بتلبية هذه الرغبة”، ويعبر آخرون عن أن التوق إلى السرعة هو أحد استراتيجيات تشتيت الانتباه، كذلك فإنه تعبير عن رغبة الإنسان في التجاوز والتسامي.
الإنجاز لا مدته
في حين يجب أن يتركز السعي وراء جودة العمل خلال ساعات عمل حرة ومرنة، بدل تكبيد النفس على مقصلة الوقت، وأن يراعى تقييم المرء وفقاً لإنجازه لا مدة الإنجاز، وفي هذا إعلاء للروح المعنوية وللتفكير الإبداعي، فالتحكم الذاتي في الوقت يجعل الناس أقل عجلة وأقل توتراً، ومن ثم أكثر إبداعاً.
على الإنسان المعاصر أن يتحرك فوراً لإعادة سيادته على الساعة واستعادة الوقت المسلوب، فنحن لسنا هنا للعمل أو الإلهاء بالعمل طوال الوقت، وهذا يتطلب أيضاً النظر إلى أوقات الراحة على أنها جزء من الاستثمار الأرقى والأهم، فالجميع تنتابه فجأة أثناء العمل مشاعر بأنه في حاجة إلى أن يبطئ ويسترخي ويسمح لذهنه بالسكينة والهدوء.

في عصر الاستهلاك، المال هدف، لذا يطلب منك أن تقدم وقتاً مقابله
والأكيد أن هذا النهج يحتاج إلى تشريعات على مستوى الحكومات والمؤسسات لضمان التطبيق الصحيح وحفظ الحقوق.
تعد هولندا نموذجاً لنهج خفض ساعات العمل في قطاعات اقتصادية عدة، إذ يعمل الهولنديون اليوم ساعات أقل من أي دولة صناعية تقريباً، والأكيد أن لتشريعاتها دوراً حاسماً في تحقيق هذا التغيير وضمان نجاحه، فالتشريعات تضمن حقوق العاملين والموظفين وعدم خروج القرارات الإدارية عن إطارها الصحيح.
هكذا يجمع الهولنديون اليوم بين الرخاء وجودة الحياة، ويجدون مساحة أوسع لاستثمار الوقت في متابعة تفاصيل الحياة الأخرى مثل التواصل الاجتماعي الحي والتطوير الشخصي والعناية بأحبائهم ومتابعته هواياتهم والاهتمام بصحتهم وجسدهم وممارسة الرياضة، إضافة إلى استمتاعهم بأوقات استرخاء واستجمام لا تقدر بثمن.
الراحة مقابل الأجر
وفي حين يدفع نمط الحياة الحالي المصبوغ برغبات الاستهلاك إلى العمل ساعات طوالاً للحصول على مزيد من المال، ومن ثم مزيد من المنتجات الاستهلاكية وتوابعها، فإن الدراسات الحديثة تظهر نتائج مثيرة للاهتمام، فقد وجدت دراسة حديثة في بريطانيا أن عدد الذين يفضلون العمل ساعات أقل يبلغ ضعفي عدد الذين يرغبون بالفوز في اليانصيب، وحين أجريت دراسة مماثلة في الولايات المتحدة اختار ضعف عدد الذين أجريت عليهم الدراسة العطلة مدة أسبوعين على أجر أسبوعين إضافي.
وقد اتضح بصورة غريبة أن الناس الذين يخفضون ساعات عملهم غالباً ما يتضررون مالياً بصورة أقل من المتوقع، إذ إن تلك الساعات كان يرافقها إنفاق أموال على أشياء تعيننا على العمل مثل المواصلات ومواقف السيارات والقهوة والوجبات السريعة والأدوية، إضافة إلى مبالغ سنضطر إلى دفعها لكي يقوم آخرون بالمهام التي كان علينا القيام بها وقت اختيارنا العمل ساعات إضافية.
هذا يعطي مؤشراً إلى صعود الوعي بأهمية إعطاء وقت أكثر لمشاركة لحظاتنا مع المقربين، والحصول على لحظات مكثفة من الراحة، فمزيد ومزيد من الأشخاص باتوا يختارون العمل المستقل أو الحصول على عقود عمل حرة، لتعود إليهم لوحة التحكم بحياتهم والاستماع لأجسادهم، إذ تقول متى يمكن لهم أن يعملوا بجد، ومتى عليهم التوقف فوراً والحصول على قسط وافر من الراحة تجنباً للوصول إلى حافة الانهيار.
فالناس يريدون تقرير ساعات عملهم بأنفسهم، وهذا مطلب حق، وفي هذا يقول كتاب “البطء”، “إننا فقراء ومرضى وقت، بحيث أهملنا أصدقاءنا وعائلاتنا وشركائنا، نحن بالكاد نعرف كيف نتمتع بالأمور التي بين أيدينا لأننا نتطلع دائماً إلى التي تليها”.
العلاج بالداء
الأمر يتطلب أن نكون أكثر ذكاءً أو أن نعود لاستثمار ذكائنا الطبيعي في الأدوات الذكية التي نقتنيها، أي بدلاً من أن يكون استخدامنا هذه الأدوات طريقة لتمديد ساعات العمل، والعمل في كل مكان وفي كل وقت، علينا استخدامها بالصورة الصحيحة كأدوات مسخرة من أجلنا، لذا يجب علينا استخدامها لإعادة ترتيب حياتنا وتنظيم وقتنا ولإرشادنا بصورة ذكية متى نعمل ومتى نتوقف ومتى علينا أن نرتاح تماماً ومتى نستيقظ في الوقت الصحيح، عوضاً عن جعلها أدوات للتنبيه المستمر واستقبال الإشعارات من رسائل وإيميلات تعيدنا إلى العمل، أو تنبيهات ومحادثات تشتتنا عنه، أو دعوات لترك كل شيء والوصول على وجه السرعة إلى مكان ما، لنصبح مطالبين بالاستجابة الفورية أو حتى الطارئة في بعض الأحيان.

نعم كل شيء يمكن أن ينتظر، ولا شيء يستحق كل هذا اللهاث
هنا يجادل أونوريه بأن “التكنولوجيا صديق زائف، فهي عندما توفر لك الوقت، غالباً ما تفسد معروفها بتوليد مجموعة جديدة كاملة من الواجبات والرغبات”، والحقيقة أن الحدود بدأت تتلاشى ما بين الحياة والعمل، وكأننا أصبحنا كائنات مسخرة للعمل فقط بعيداً من قضاء الوقت مع عائلاتنا وأحبائنا وأصدقائنا وممارسة هواياتنا وقضاء جلسات استرخاء بلا أي غاية.
وعلينا أن نتذكر دوماً أن الأشياء الكبيرة والعظيمة كالتطوير الذاتي والعلاقات والفكر الخلاق والتخطيط الاستراتيجي كلها تحتاج إلى بطء وهدوء، للتنظيم خارج إطار الوقت والرغبة المحمومة في مواكبة المهل الزمنية، واليوم علينا أن نختار على أي خط حياة نريد أن نعيش غالب الوقت، هل على الخط السريع الجارف أم الخط البطيء المنجز بذكاء، خط الوقت الأقل وحفظ الطاقة.
فلسفة التوازن
وفي حين أن السرعة قد تكون ممتعة ومنتجة وقوية، إلا أنها لا يمكن أن تكون منهجاً دائماً، نحن نحتاج إلى طريق وسط لتحقيق توازن بين الحياة والعمل والتخفيف من وطأة الضغط وإعادة شحن أنفسنا، نحتاج على وجه السرعة إلى معادلة تزاوج بين سعة العيش ودينامية اقتصاد المعلومة، وأن نؤمن أن فعل الشيء بالطريقة الصحيحة أفضل من فعله بوقت أقل وإيقاع أسرع.
فالحقيقة أنه لا يوجد مقاس محدد للسرعة الصحيحة كي نعممها على الجميع، فلكل شخص إيقاعه كما لكل عمل ووقت ومكان وظرف، وهذا التناوب ما بين السرعات والصعود والهبوط هو الذي يكسب الحياة نبضها الحي، أن نصحح علاقتنا مع الوقت ونعيد لأنفسنا دور قيادته، لأن الشخص وحده هو القادر على ضبط إيقاعه وتنظيمه بين بطء وسرعة تبعاً لأمرين اثنين: الأول مراقبة جسده واستقبال الرسائل التي تحثه على إحداهما، والثاني طبيعة العمل الذي يقوم به.
جميعنا نطلب إنجازاً ترافقه صحة وسكينة ونتيجة مرضية، لا أحد يريد السرعة على حساب صحته وجودة عمله، لذا نحن في حاجة ماسة إلى فلسفة شخصية نبني على أساسها نمط حياة أكثر كفاءة وذكاءً، في عصر الذكاء، وأكثر تكثيفاً للعادات الصحية والجيدة بدلاً من الإنتاج بهدف الإنتاج، فالعادات الجيدة تجعل الوقت حليفك، والعادات السيئة تجعل الوقت عدوك.
نعم كل شيء يمكن أن ينتظر، ولا شيء يستحق كل هذا اللهاث، فـ”لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت”.