حرية – (26/3/2023)
لا يمكن نكران حالة الاكتئاب الطاغية التي تلف يوميات المجتمع السوري، وصار نافلاً شرح أسبابها وتبيان تفاصيلها، فالمجتمع السوري يكاد يكون بأسره اليوم يعاني ظروفاً خاصةً عنوانها القسوة المرتبطة بالمطحنة الاقتصادية التي دخلتها البلاد في السنوات الماضية.
سوريا التي لتوّها طوت 12 عاماً من حربها، عاشت خلالها شتى أصناف الظروف المختلفة ومعاركها المباشرة داخل المدن والأحياء، وربطاً بها المعارك السياسية على الصعد الداخلية والخارجية، وأخيراً الأزمة الاقتصادية التي ما زالت تتنامى يوماً بعد آخر.
كل ذلك قاد الجموع إلى حالات أطلق عليها الفلاسفة وعلماء النفس أوصافاً شتى، كالعبثية، العدمية، اللااكتراثية، اللامبالاة… ورغم كل ذلك لا بد لعجلة الحياة من أن تستمر في الدوارن، ولكنّه دوران يسير بشدة على أحلام الناس البسطاء، الناس الذين لا تتعدى أحلامهم هذه الأيام بديهيات الحياة.. أمن غذائي وسكني…
الظّاهرة المتنامية
ولمواجهة هذه الحال وجد الكثير من الأشخاص سبلاً تساعدهم في تخطيه، أحد تلك السبل كان تربية الحيوانات الأليفة التي أخذت تتنامى وتنتشر بوضوح أكثر بمرات عما كانت عليه في أوقات سابقة.
وصار من الملاحظ في السنوات الماضية، وفي الأشهر الأخيرة على وجه التحديد، كثرة انتشار الحيوانات المنزلية الأليفة، وصار يلحظ وجودها في الشوارع بوفرة على الأقل لم تكن مسبوقة في سنوات خلت لأسباب تتعلق بعدم اعتياد المجتمع حينذاك على هذا النوع من التأقلم.
ولم يقتصر الأمر على تربية الحيوانات كالكلاب والقطط، بل تخطاها إلى الطيور والأسماك حتى، يقول مربو تلك الحيوانات إنها أسهمت في إخراجهم من حالة العزلة وتخطيهم بعض جوانب الاكتئاب عبر إيجاد صديق ودود يمكن تمضية اليوم معه بأقل أضرار نفسية ممكنة كانت تنعكس عليهم في علاقاتهم الاجتماعية اليومية.
مفارقة سورياليّة للسّوريين
وقد يبدو الأمر بحد ذاته مفارقة سوريالية غير مفهومة، فكيف لمجتمع مبتلٍ بالفقر والحاجة أن يتكبد عناء تحمل مصاريف تربية حيوانات أليفة أحياناً، يتطلب أمر اقتنائها مصاريف كبيرة نسبية، بين أدوية وطبابة وغذاء، ولكن ماذا لو قلنا هنا إن مربي الحيوانات تلك يقدمونها على أنفسهم في الاهتمام؟ هذا حقيقي للغاية. “النهار العربي” لمس نوعاً من الطبيعة الوجدانية الممعنة في الغرابة في علاقة أشخاص التقاهم بحيواناتهم، تلك العلاقة جعلت ذاك الأليف بمثابة جزءاً رئيسياً من العائلة.
ومع التذكير بأنّ تربية هذه الحيوانات كانت جزءاً رئيسياً في العلاج النفسي للكثير من الأشخاص (بدراية أو عن غير دراية) إلا أنّ حتى نوع العلاج هذا ارتبط بمن يستطيع مجاراته، وفي الإطار تبرز لدينا قصص عن سوريين يعملون ويخصصون دخلهم لحيواناتهم، وبعضهم تمادى أكثر من ذلك كحالة بيداء نصّور التي تعامل “روكي” وهو كلبها من نوع بيشون على أنّه ولدها.
ولدي وليس كلبي
“روكي؟ لا روكي ليس كلباً عادياً، أصلاً هو ليس كلباً، هو ابن قلبي، هو كل حياتي، تبنيته كان عمره شهرين وأنا كان عمري 35 عاماً، ومنذ ذاك الوقت لم يمر يوم لم يصبح جزءاً من كياني، لا أتخيل حياتي من دونه، هو كل حياتي”. تقول بيداء العازبة التي بلغت عامها الحادي والأربعين قبل أشهر لـ”النهار العربي”.
وتضيف: “حين دخل روكي منزلي للمرة الأولى في باب توما في دمشق كانت الحرب مشتعلة بجوارنا، قصف وقذائف، كنت دائماً متوترة وخائفة، ولكن سبحان الله، كيف استطاع هذا المخلوق أن يمنحني كل الدفء والحنان والأمان، والأمومة حتى، لا تستغرب! هذه روح وليست قطعة بلاستيك”.
أنا مدينة لقططي
“قطة، قطتان، سبع، هذه قططي بالضبط، هذا عدا ما ملكت أيماني”، تضحك نارين خوري وهي تخبر “النهار العربي” عن قصتها مع قططها، وتكمل: “أقصد هذا عدا القطط التي تتردد على منزلي لأطعمها وأسقيها وتلعب مع قططي”.
نارين تعرضت لصدمة عصبية حين قطع الطريق أمام بيتها مسلحون محليون على طريق حمص – دمشق في العام الثالث للحرب، وكادت تفقد حياتها حين كانت برفقة أهلها لولا أنّهم نجوا بأعجوبة، على ما تقول.
وتشير إلى أنّ الصدمة تلك كانت قاسية، ومرعبة، اضطرتها للعلاج النفسي: “عانيت اضطراب ما بعد الصدمة بحسب ما يسمى بعلم النفس، وأخذت كورسات من الأدوية، وكان ضمن علاجي أن نصحني طبيبي بتربية حيوان أليف، وفعلاً هذا ما حصل، اشتريت (ميلا) قطتي الجميلة، صارت كبيرة الآن، ولديّ من أولادها الآن سبعة”.
وتتابع حديثها: “طبعاً ميلا وبقية القطط أخرجتني حرفياً من الاكتئاب وحالة العزلة، لا أحد يدري كيف يمكن للحيوان أن يمنحك الأمان، مجرد وجوده قربك، فوقك، حولك، تفاصيله، مشاكساته، دلاله، كلّها أشياء تجعلك محاطاً بأسرة جديدة تعطيك حباً غير مشروط”.
بعد الزّلزال
بعد الزلزال الأخير انتابت الطفلة فرح عدوان حالة نفسية سيئة ومرهقة، الطفلة البالغة من العمر تسعة أعوام قد لا تكون فهمت بالشكل العام معنى الزلزال، ولكنّها خبرت اهتزاز الأرض من تحتها، وصرخات أهلها والجوار، وما تناهى إلى سمعها من آهات على وسائل الإعلام التي رصدت تبعات الكارثة.
يقول والد الطفلة: “ما عادت تستطيع أن تنام ليلاً، في هذا العمر ليس من الطبيعي أن يقلق الطفل إلى هذا الحد وتتغير سلوكياته ويصير ممتلئاً بالخوف والريبة والهلع، حقيقةً نفسيتي أنا تعبت من خوفي على وحيدتي، فما كان مني إلا أن عرضتها على طبيب نفسي وهو صديق العائلة وشرحت له حالتها، طبعاً لم أعرضها عليه في سياق العيادة والمواعيد والطبابة وما إلى هنالك، بل فقط لناحية مساعدتنا في تجاوز المحنة، فأخبرني عن بعض الأمور التي عليّ فعلها، ومنها اقتناء حيوان أليف لطفلتي وهذا ما حصل”.
ويكمل شرحه: “يوماً بعد آخر لمسنا الفرق، صارت فرح منشغلةً كل الوقت به، استحمام، طعام، شراب، لعب، ينام في سريرها، تلاشى القلق لديها وعادت حياتها طبيعية تماماً، وهذا بالضبط ما اكتشفناه بأليفنا، وهو الحب غير المشروط، الوفاء، الظرافة، كما أنّه علّم ابنتنا الالتزام بكثير من الأمور المتعلقة بالمسؤولية، فهي الآن تعي تماماً مسؤوليتها عن روح”.
العلاقة الوجدانيّة
“هل آكل أنا وأترك حيواني جائعاً؟ قطعاً لن أفعل!”، يقول مختار رجوب لـ”النهار العربي”، ويتابع: “ما أجنيه من عملي الخاص أشتري به ما يكفيني وأشتري به مستلزمات كلبي، هذا كائن مسكين وأنا مدين له، فهو أوفى من عرفته في سني حياتي، وهو من أخرجني من الاكتئاب”.
وللوقوف على القصة من وجهة نظر علم النفس، تحدث “النهار العربي” مع الأكاديمي نبيل معطي الذي قال: “تطورت سلوكيات الحيوانات مع مرور السنوات لتصير في مرحلة قادرةً على فهم مشاعر الإنسان وتقديرها وإبداء تصرفات متناسبة معها، وهو ما يسمح لهذه العلاقة بالتطور وجدانياً وعاطفياً بين الطرفين”.
وأضاف: “الحيوانات الأليفة باستطاعتها أن تخفف التوتر والقلق وأعراض الاكتئاب، كما تسهم في تحسين أحاسيس رئيسية لدى البشر، كما تسهم في تحسين نمط الحياة وجعلها صحية أكثر، وهي أنجع علاج لتخطي حالة الوحدة التي يشعر بها معظم الناس في ظل هذه الظروف”.