حرية – (29/3/2023)
قبل آلاف السنين، كانت الخيول ترعى بحرية تامة في السهول الواسعة في سهوب بونتيك-قزوين، شمال القوقاز، جنوب روسيا، قبل أن يشرع “اليمنايا”، وهم شعب من الرعاة الرحل، في تدجين الخيل للمرة الأولى في التاريخ، بحسب ما يفترض العلماء.
وعلى مدار عقدين، نُشر عدد من الأوراق البحثية بشأن تاريخ المنطقة وعلاقة الخيول بشعب اليمنايا، منها دراسة دولية نشرت في مجلة “nature” في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2021، افترضت أنّ الخيول دُجنت للمرة الأولى قبل حوالي 5 آلاف سنة، في سهول أوراسيا الغربية.
في هذه الدراسة فحص 162 عالماً في الوراثة والآثار واللغويات عظام أكثر من 270 حصاناً، حتى خلصوا إلى تلك النتيجة، وقدموا فرضية أكثر وضوحاً عن الحقبة الزمنية والمنطقة الجغرافية التي شهدت تدجين الخيول للمرة الأولى.
هذا عن عملية التدجين، وما تضمنته من السيطرة على تكاثر الخيول، وإنتاجها بأعداد كبيرة، لكن ماذا عن امتطاء الخيول والتنقل بها لمسافات بعيدة، وما علاقة شعب اليمنايا بالأمر؟
عرف الإنسان تدجين الخيول منذ نحو 5 آلاف عام
ركوب الخيل
شكل استخدام الحيوانات في التنقل، ولا سيّما الحصان، نقطة تحول كبرى في تاريخ البشرية. وترتبت آثار عميقة على التنقل لمسافات بعيدة عبر امتطاء الخيل، إذ توسع الاستثمار البشري في الأراضي والتجارة، كما اشتعل لهيب الحروب بوتيرة متسارعة.
وتحت تأثير تدجين الخيول، يعتقد العلماء أنّ شعب اليمنايا انخرط في هجرات واسعة، في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، ومطلع الألفية الثالثة قبل الميلاد، حيث توسع بسرعة في جنوب شرق أوروبا، وإلى أقصى الغرب نحو نهر تيسا (يمر في أوكرانيا، ورومانيا، وهنغاريا، وسلوفاكيا، وصربيا)، وأيضاً تحرك اليمنايا في اتجاه الشرق إلى جبال ألتاي ومنغوليا، ما نسميه حضارة أفانسيفو (جنوب سيبيريا).
وفي دراسة حديثة نشرت مطلع آذار (مارس) في مجلة “ساينس أدفانسس” (Science Advances) قال العلماء إنّه “على ما يبدو أنّ ركوب الخيل قد تطور بعد فترة وجيزة من التدجين المفترض للخيول في سهول أوراسيا الغربية، والذي كان معروفاً بين أبناء حضارة اليمنايا بين 3000 و2500 قبل الميلاد”.
يُعتقد أن أصل تدجين الخيول قد بدأ في سهوب بونتيك- قزوين
بيانكا إيلينا، عضوة الفريق البحثي في الدراسة الجديدة، وأستاذة علم الآثار في جامعة هلسنكي، تقول لـ”النهار العربي”: “تقدم دراستنا أدلة على ركوب الخيل بناءً على مجموعة من التغييرات والأمراض التي ترتبط عادةً بهذا النشاط، ما يسمى “متلازمة الفروسية”، ويعدّ هذا أقدم دليل تم تحديده حتى الآن، ويعود تاريخه إلى ما يقرب من 5000 عام”.
اعتاد اليمنايا دفن موتاهم في تلال جنائزية تعرف باسم “كورغان”، وهو مصطلح في علم الآثار للإشارة إلى الجثوة، وفي “كورغان اليمنايا” عثر على رفاتهم في عدد قليل من المستوطنات المعروفة، كما وفرت هذه القبور أدلة على أنّ منتجات حليب الحصان كانت جزءاً من النظام الغذائي لبعض الأفراد، على ما تقول إيلينا.
وتضيف: “هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تناول الموضوع من خلال تحليل رفات أفراد اليمنايا، فيما درس الباحثون من قبل عظام الخيول فقط، إذ إن ركوب الخيل هو تفاعل مكوّن من عنصرين، الخيل والفارس. وإذا تم القيام بهذا النشاط البدني تكراراً، يسبب تغيرات في العظام يمكن تحديدها وتوثيقها”.
قبر لشخص يعتقد أنه أحد أوائل من امتطوا الحصان
بحوث معمقة
ركّزت البحوث السابقة في الغالب على بقايا عظام الخيول نفسها، رغم توافر الرفات البشرية بأعداد أكبر، وفي حالة أكثر اكتمالاً من هياكل الخيول القديمة، ما يسهل من مهمة الباحثين.
فحص العلماء رفات أكثر من 217 شخصاً
درس الباحثون أكثر من 217 هيكلاً عظمياً من 39 موقعاً، عثر على حوالي 150 منها في تلال الدفن التي تعود إلى شعب اليمنايا. تجلت علامات ركوب الخيل في الهياكل العظمية البشرية بصورة لا لبس فيها، حيث قرر الباحثون استخدام ستة معايير تشخيصية كمؤشرات إلى نشاط ركوب الخيل ما يسمى بـ”متلازمة الفروسية”، وهي:
1- مواضع التعلق العضلي في الحوض وعظم الفخذ.
2- التغييرات في مآخذ الورك.
3- علامات بصمة ناتجة من ضغط حافة الحُق (الشبيه بالكأس) على عنق عظم الفخذ.
4- قطر عظم الفخذ وشكله.
5- تقوس العمود الفقري الناجم عن التأثير العمودي المتكرر.
6- الصدمات التي يمكن أن تحدث عادة بسبب السقوط أو الركل أو العض من الخيول.
خلصت النتائج إلى أنه يمكن تصنيف 24 شخصاً على الأقل (15.4 بالمئة) على أنهم “راكبون محتملون” للخيل، فيما خمسة من اليمنايا ربما كانوا مؤهلين كـ”فرسان محتملين” بدرجة أكبر.
في البحث الجديد، حاول الباحثون تقديم صورة أكثر دقة لتفاعلات المهاجرين مع المجتمعات المحلية، إذ وصف العلماء – في السابق – هجرات اليمنايا بأنها أقرب إلى الغزو العنيف، لذا كان ثمة اعتقاد يتوقع وجود آثار عنف على الرفات البشرية، لكن العلماء لم يجدوا، حتى الآن، أدلة تبرهن على وجود العنف الجسدي، كما كان متوقعاً.
وفي هذا الصدد، يعكف الباحثون حالياً على فهم عمليات التبادل المعقدة في الثقافة المادية، وعادات الدفن بين الوافدين الجدد والسكان المحليين في 200 عام بعد اتصالهم الأول.
دقة النتائج
وعن دقة نتائج الدراسة الحالية، توضح بيانكا إيلينا أنّ “التحقق من وجود سمات تشخيصية متزامنة عدة، إلى جانب أنّ نظام التسجيل المطبق في الدراسة يجعل هذا البحث دقيقاً قدر الإمكان، وإذا أخذنا في الاعتبار أيضاً أن بعض بقايا الهياكل العظمية غير محفوظة جيداً”.
عثر على الرفات البشرية محل البحث في 39 موقعاً أثرياً
وتقول إيلينا مختتمة حديثها: “رغم أن الورقة البحثية تقدم أقدم دليل على ركوب الخيل حتى الآن، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن اليمنايا كانوا أول من امتطوا الخيول. نأمل أن تؤدي هذه الدراسة إلى مزيد من البحث من جانب علماء الآثار الزملاء وعلماء الأنثروبولوجيا الحيوية، ما سيجعل أسئلتنا المتعلقة ببدايات ركوب الخيل أقرب إلى الإجابة”.
يشار إلى أن الورقة البحثية الأخيرة حظيت بتفاعل واسع في الأوساط العلمية، إذ أعربت بيرجيت بوهلر، عالمة الآثار في جامعة فيينا، والتي لم تشارك في الدراسة، عن إعجابها الشديد بها، لكنها عبرت أيضاً عن قلقها بشأن قدرة الباحثين على قياس التغييرات في تجاويف الورك نظراً لضعف حالة الحفاظ على العديد من العظام.
من جهته، يقول ويليام تايلو، عالم الآثار في جامعة كولورادو بولدر، الذي لم يشارك في الدراسة: “قد تكون هذه الأمراض مرتبطة تماماً بالتنقل من خلال الحيوانات، لكني لا أرى دليلاً حقيقياً هنا لربطها فعلياً بالخيول”.
ويعتبر تايلو أنّ العلماء لا يعرفون الفرق بين أمراض العظام التي قد يتركها ركوب الخيل وركوب أنواع أخرى من الحيوانات على الهيكل العظمي للإنسان، وهي فجوة يأمل أن يشرع الباحثون في معالجتها، إلا أنّ العلماء يبرهنون على ارتباط الأمراض بامتطاء الخيول بوجود بقايا عظام الخيول بكثافة في مدافن اليمنايا.