حرية – (2/4/2023)
صادقَ الغزو الروسيّ لأوكرانيا على تحذيرات بولندا، ومعها دول أوروبا الشرقيّة، من مهادنة برلين وباريس للكرملين. أصرّت فرنسا وألمانيا على استيراد الطاقة من روسيا بصفته فكرة مرسّخة للسلام. “كيف لروسيا أن تهدّد الاستقرار الأوروبّيّ طالما أنّها بحاجة للأموال التي يدرّها بيع مواردها الطبيعيّة؟” بشكل أو بآخر كان هذا السؤال ركيزة دفاع الألمان والفرنسيّين عن العلاقات التجاريّة مع روسيا. منطق بولندا وحلفائها كان معكوساً.
استجرار الطاقة الروسيّة بالرغم من حرب موسكو في جورجيا وأوكرانيا وضمّ القرم يعني توجيه إشارات لامبالاة بأمن أوروبا الشرقيّة. تبيّن أنّ تحذير بولندا كان في محلّه. لكنّ أهمّيّة بولندا الاستراتيجيّة لا تستند إلى صحّة توقّعاتها وحسب. يعترف ديبلوماسيّ بولنديّ لرئيس مكتب وارسو في “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” بيوتر بوراس بأنّه لا يكفي أن يكون المرء على حقّ كي يقود الاتّحاد الأوروبي.
بناء عسكريّ متسارع
كانت بولندا من الدول الأطلسيّة القليلة التي احترمت إلى حدّ كبير تعهّداتها بإنفاق 2 في المئة من ناتجها القوميّ على قطاعها الدفاعيّ بدءاً من 2015. وقرّرت رفع هذا الإنفاق في 2023 إلى 4 في المئة الأمر الذي قد يعكس أعلى نسبة من الإنفاق الدفاعيّ بين الحلفاء.
على مستوى دعم كييف في الدفاع عن نفسها، تبرز بولندا على يمين “الصقور” في أوروبا. بالرغم من المساعدات الكبيرة التي منحتها باريس وبرلين لكييف بعد الغزو، كان دعمهما متدرّجاً وبطيئاً. حضر الخوف من “استفزاز” موسكو حين كانت الدولتان تدرسان نوعيّة المساعدات التي يجب إرسالها إلى كييف. بولندا المتحرّرة من حسابات كهذه ذهبت مباشرة إلى دعم أوكرانيا بالمقاتلات. كانت أوّل دولة أطلسيّة تتعهّد بإرسال طائرات “ميغ-29” (نحو 12 مقاتلة) إلى أوكرانيا. حتى الولايات المتحدة لن ترسل مقاتلات “أف-16” إلى كييف بحسب الإشارات الأخيرة الصادرة من واشنطن.
منذ نحو ستة أشهر، كانت بولندا قد أرسلت نحو 250 دبابة إلى أوكرانيا بحسب مسؤولين بولنديين. وتعهّدت مؤخّراً بإرسال 60 دبابة جديدة من بينها 14 دبابة “ليوبارد-2”. تعود قدرة بولندا على إرسال هذا العدد من الدبّابات إلى توقيعها عقداً لشراء نحو ألف دبابة من كوريا الجنوبيّة، 180 منها بشكل مباشر من الدولة المصنّعة والباقي عبر التصنيع في بولندا نفسها. وبدأت وارسو باستلام جزء من مشترياتها في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. كذلك، وقّعت بولندا عقوداً أيضاً لشراء أكثر من 350 دبابة “أبرامز” الأميركيّة، و500 قاذفة “هيمارس” إضافة إلى مقاتلات ومنظومات دفاعيّة وهجوميّة أخرى.
رسائل إلى أوروبا الغربية
أحد أبرز أسباب البناء العسكريّ الجديد لبولندا هو اعتقاد الأخيرة بأنّ أوروبا الغربيّة غير قادرة أو مهتمّة بالدفاع عنها. والتركيز على الأسلحة الأميركيّة يخدم في جزء منه نظرة بولنديّة تراهن على واشنطن لا على بروكسل في الدفاع عن أمن أوروبا الشرقيّة. والإصرار الفرنسيّ على إدخال روسيا في المنظومة الأمنيّة لأوروبا بعد الحرب ربّما دفع وارسو أكثر نحو التقرّب من الأميركيّين والبريطانيين من جهة، وتعزيز جيشها من جهة أخرى. كذلك، إنّ شراء بولندا أسلحة من كوريا الجنوبيّة لا من أوروبا الغربيّة هو في طبيعته رسالة إلى ماكرون و”الاستقلاليّة الاستراتيجيّة” التي يبحث عنها، إلى جانب سرعة التصنيع في سيول وانخفاض كلفته.
وتريد بولندا أن تضاعف جيشها من 150 ألف جنديّ إلى 300 ألف بحلول 2035. يبدو أنّ البلاد قادرة على تحقيق هدفها. للجيش البولندي جاذبيّة كبيرة بالنسبة إلى الشباب. “للبولنديّين موقف أكثر إيجابيّة بكثير تجاه جيشهم (من موقف) ألمانيا لأنّهم قاتلوا لحرّيّتهم” بحسب الضابط النمسويّ السابق والأكاديميّ في الشؤون الأمنيّة ضمن “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجيّة” غوستاف غريسيل. وأضاف في حديث إلى “بوليتيكو” الخريف الماضي: “في الدوائر العسكريّة لا أحد يشكّك في نوعيّة الجيش البولنديّ”.
إحياء الماضي؟
ليست التوقّعات بظهور بولندا كقوّة جديدة في أوروبا، أو أقلّه كمركز ثقل جديد في القارّة العجوز، رائجاً بين مناصري أوكرانيا وحسب. النائبة الفرنسيّة السابقة في البرلمان الأوروبّيّ والأمينة العامة للأكاديميّة الفرنسيّة هيلين كارير دانكوس المقرّبة من روسيا قالت مؤخراً إنّ “بولندا تصبح القوة العظيمة الجديدة في أوروبا”. لكنّها توضح أنّ المقصود ببولندا تحديداً هو “بولندا الكبيرة، المملكة العظيمة لبولندا-ليتوانيا التي هيمنت على كلّ أوروبا. هذه هي بولندا التي تولد من جديد ولا ننتبه”.
قد يحمل هذا الكلام شيئاً من المبالغة. لا أحد يظنّ أنّ ليتوانيا وبولندا وأوكرانيا (ناهيكم عن بيلاروسيا ودول البلطيق الأخرى) ستتوحّد مجدّداً في المدى المنظور. لكنّ الفكرة تلقى تأييداً من الباحث في “معهد المشروع الأميركيّ” داليبور روهاك الذي بالرغم من ذكره عدداً من الصعوبات أمام تطبيقها، يقول إنّ الغزو الروسيّ يولّد الظروف المناسبة لابتداع الحلول غير الأرثوذكسيّة. بصرف النظر عن مدى واقعيّة المقترح، يبقى أنّ صعود قوّة بولندا يعكس النفوذ الإقليميّ الجديد لوارسو بعد الحرب على أوكرانيا. فهي تشكّل أيضاً درعاً أساسيّاً في الدفاع عن دول البلطيق في حال تعرّضت لهجوم روسيّ كما أثبتت نفسها كمركز لوجستيّ أساسيّ للجناح الشرقيّ في حلف شمال الأطلسيّ بعدما أدّت دوراً بارزاً في نقل الإمدادات العسكريّة الغربيّة إلى أوكرانيا.
الطريق غير سهلة
ثمّة عوائق أمام بولندا لدعم دور قياديّ في الاتحاد الأوروبي بحسب بوراس. يتجلّى ذلك في عدم الاهتمام بالاندماج الماليّ مع بروكسل والمعاناة في تبنّي “الاتفاق الأوروبّيّ الأخضر” وتفويت فرصة التعاون العسكريّ مع أوروبا عبر الاستثمار في الصناعات العسكريّة الخارجيّة. وثمّة خطر في أن ينعكس الوعظ الأخلاقيّ البولنديّ سلباً على وارسو إذا ركّزت الأخيرة على انتقاد أوروبا بسبب سياساتها السابقة مع روسيا والدخول في جدالات مع بروكسل كما كانت الحال في السنوات الأخيرة. كذلك، لا تخلو تحليلات من التساؤل عن قدرات بولندا الاقتصاديّة على استدامة قوّتها العسكريّة أو الإقليميّة، مع الاعتراف في الوقت نفسه بأنّ اقتصادها متنوّع ويستفيد من هجرة الشركات من روسيا وقد برهن عن مرونة كبيرة في مواجهة جائحة “كورونا”.
قد يكشف الوقت وحده ما إذا كانت بولندا مهتمّة بالقيادة من داخل الاتّحاد الأوروبّيّ أم أنّها ستكتفي بما أصبحت عليه من مركز جاذبيّة في شرق القارّة مستخدمة إيّاه في مواجهة بروكسل لحلّ القضايا الخلافيّة المتعلّقة باستقلاليّة القضاء وحقوق الإنسان. الأكيد لغاية اليوم أنّ بولندا ستكون في العقد المقبل محطّ اهتمام الكثير من الإعلاميّين والمحلّلين على حدّ سواء.