حرية – (2/4/2023)
على مدى سنوات طويلة حرصت الثقافة الغربية الحديثة منها والمعاصرة على جعل النقد أداة منهجية ناجعة لتحليل الأعمال الفنية ومعاينة الألبومات الموسيقية، وذلك من خلال التشجيع على كتابة جملة من المونوغرافيات النقدية الخاصة بمختلف أشكال التعبيرات الفنية من موسيقى وتشكيل وسينما.
لهذا يعد النقد داخل هذه المنظومة أمراً حيوياً يسهم في تنشيط الأعمال الفنية ويقرأ تاريخها الجمالي ومساراتها الفنية، بما يجعله وسيطاً بين الفنان المبدع والمتلقي. فالنقد ليس مجرد بذخ فني بالنسبة إلى الثقافة الغربية كونه يعمل بشكل دائم على مقارعة الأعمال الفنية والأفلام السينمائية والألبومات الغنائية، باعتباره خطاباً فكرياً مرافقاً لتشكل العمل الفني.
ويستحيل فصل الممارسات النقدية عن العملية الإبداعية، فهما يكملان بعضهما بعضاً، كون النقد يرسم ملامح مغايرة للعمل الفني، ويجعله ينسج علاقات خفية ساحرة مع المتلقي، هذا الأخير، يسعى عبر الجهاز المفاهيمي النقدي إلى إنتاج تأويل مضاد ومختلف يولد الرغبات ويعطي الانطباع في كون العمل الفني يبقى مفتوحاً ومشرعاً في وجه مختلف التأويلات والاختلافات.
بهجة النقد الموسيقي
النقد الموسيقي أشبه بكتابة شعرية تخترق الجسد وترج مسامه وتتوغل إلى الداخل لتبحث عن فرح أو غيمة شجية تائهة. ويعتبر بعض الموسيقيين أنه بقدر ما تسهم العلوم الإنسانية والاجتماعية في تطوير النقد الموسيقي، انطلاقاً مما تمنحه من عمق على مستوى التحليل، فإنها من جهة أخرى تبقيه عاماً وجافاً وبعيداً من حميمية القطعة الموسيقية وألبومها الغنائي. فالناقد الذكي في نظرهم يمزج بين أصالة التفكير الفلسفي وحميمية اللغة النقدية، لا بوصفها خطاباً فكرياً، ولكن يغدو فعل الكتابة قطعة موسيقية جادة.
عمل فني لكريستيان ماركلي
وهذا الأمر غير موجود في العالم العربي، إذ ثمة تجارب مهمة لكنها لا تتعامل مع الموسيقى، إلا كخطاب فني تتمازج فيه المكونات الفنية بنظيرتها الجمالية والأبعاد السياسية بأخرى أيديولوجية.
تقول الكاتبة شيرين عبده “بالنسبة إلى الموسيقى فإن النقد يتطلب معرفة ودراية، ثم تحليل القطعة موسيقياً، وهو ما يقتضي المعرفة العلمية الكافية في سياق التاريخ المرتبط بها وبسابقاتها من الأعمال، وأيضاً في السياق المجتمعي الذي ظهرت فيه، وهذا بدوره يتطلب اطلاعاً عاماً وتحديثاً مستمراً لمعلومات الناقد، الذي يقوم بتكوين رأيه بناءً على كل ما سبق من دون تنحية ذاتيته أو رأيه الشخصي وذوقه، وهذا أمر طبيعي للغاية، ويكذب من يدعي الحياد التام في النقد”.
النقد ضرورة حيوية
ومهما اختلف الباحثون والموسيقيون وتضاربت آراؤهم حول الممارسة النقدية الغربية فإنهم يتفقون في كون النقد بات من العادات والتقاليد التي تميز هذه الثقافة وفنونها، مما جعل النقد يغدو مفهوماً مؤسساً لهذه الثقافة التي لا تقبل المدح. نقد لا تمليه الرغبات الفردية وهواجسها الجمالية فقط، بل المنطلقات المؤسساتية التي تراهن على مكانة النقد (والناقد أيضاً) وتسعى جاهدة إلى تكريسه، بوصفه مدخلاً حقيقياً صوب الحداثة.
بل إن هذه المؤسسات الفنية أصبحت تعين داخل هياكلها ناقداً فنياً يتتبع مسار وسير العمل الفني داخل المجتمع، بعد أن لم تعد وظيفته اليوم تكتفي بالتنظيم وكتابة التقارير، بل اختيار أجود الألبومات الموسيقية والدفع بها إلى دخول مرحلة الإنتاج والسهر على تتبع أطوارها ومدى تأثيرها داخل المنظومة الفنية التي تنتمي إليها.
وحول دور الناقد، يقول الموسيقي مارسيل خليفة “أؤمن بالناقد الموسيقي الذي يحاول أن يعيش الموسيقى، أن يتعاطف مع وجدانيتها. لا الذي ينظر إليها بينما يضعها على مائدة التشريح ويقطع أوصالها. الناقد الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتقمص الموسيقي، أو أن يكون موسيقياً آخر. النقد أن يوجه، أن يعلم. لا أظلم النقد، ولكن حركة الإبداع سابقة كثيراً النقد”.
الصحافة جسر للموسيقى
كل ذلك في وقت لا تتوفر فيه المؤسسات الموسيقية العربية، حتى على الخدمات الإعلامية التي تعمل على مرافقة الألبومات الغنائية والمقاطع الموسيقية لحظة صدورها، الأمر الذي يظهر الصورة الحقيقية المرتبكة التي تعيشها وسائط النقد الموسيقي والفني عموماً.
فهو مجرد خطاب فصلي أو موسمي لا يعمل على تتبع الأعمال الفنية وجمالياتها، إلا حين تخلق جدلاً دينياً أو أيديولوجياً أو سياسياً وتحقق بعض الأغاني استقبالاً حاراً من لدن الجمهور، كما هو الحال بالنسبة إلى العمل الغنائي الأخير “الألبوم الذهبي” للمطربة اللبنانية كارول سماحة الذي انتشر بقوة داخل العالم العربي.
لا تعنينا كارول سماحة وجدلها المتشنج مع “مؤسسة محمود درويش” إلا بوصف ألبومها قد خلق جدلاً دفع بكثير من الكتاب والصحافيين يتفاعلون معه. وإن كان هذا الاشتباك “النقدي” قد ظل حكراً على موضوع الجدل عينه الذي رافق الألبوم، ولم يتعرض بالفحص والنقد للأغاني، وذلك بما يجعل فعل الكتابة عملية نقدية فنية، تهدف إلى إبراز العناصر الفنية والمكونات الجمالية التي تجعل هذا الألبوم مميزاً من عدمه.
ويعتبر عدد من الباحثين أن الإعلامي بتكوينه التقني البسيط غير قادر على تأمل العمل الفني، بعيداً من لغة الوصف والمدح، لأنها عبارة عن انطباعات أضحت متجاوزة في نظر النقاد لكونها لا تخدم الألبومات ولا تسهم في تثمينها، ولا حتى تسليط الضوء عليها، باعتبارها صنعة ومتعة.
فؤاد الظاهري الذي ألّفت عنه كتب مصرية عدّة
وفي سياق متصل، يقول الناقد العراقي فاروق يوسف إن “علاقة بعض الفنانين العرب بالنقد على قدر كبير من الغرابة، يكذب أولئك الفنانون حين يتحدثون عن الحاجة إلى النقد، إنهم لا يرغبون إلا في من يمدحهم ويثني عليهم ويروج لأعمالهم. الناقد بالنسبة إليهم سلم يستعملونه للوصول إلى القاعات ومن خلالها إلى المقتنين، إنهم يفخرون أن فلاناً كتب عن تجاربهم في لحظة بعينها، غير أنهم ما إن يجتازون عتبة تلك اللحظة حتى ينظروا بعين الإشفاق إلى ذلك المسكين الذي كان يستجدي على موائدهم، كما يقولون”.
يذكر أن مؤسسة “يونيفرسال ميوزك مينا” لديها إعلامية ومستشارة هي إليان الحاج التي ترافق دوماً سيرة الألبومات الغنائية وتتبع أخبار الفنانين ومحاورتهم والتعريف بألبومات المؤسسة، وفق عمل مذهل ومجهود كبير يكرس اسمها داخل مجال الوساطة الفنية، باعتبارها من رواد هذا التوجه الإعلامي النوعي الذي بدأ ينتشر في العالم العربي ويطرح أسئلة حقيقية حول عمل الصحافي ومهنته وضرورة انفتاحه على التجارب الغنائية والتيارات الموسيقية ومدارسها وقوالبها، بما يجعل يؤسس مشروعاً نقدياً شاملاً يقرأ به تغيرات الأغنية العربية وتحولات تجاربها.
تقول إليان “يجب على المستشار الإعلامي أن يكون قد اختبر كل زوايا الإعلام لسنوات طويلة، كي يصبح ملماً بها ويعرف زواريبها. منذ 29 سنة أمارس عملي هذا، وكل يوم أكتشف الجديد. اطلاعي على عالم الإعلام عن قرب ولد عندي الجرأة كي أخوض مهمتي كمستشارة إعلامية. لقد جمعت من خبراتي في المرئي والمكتوب والمسموع، مهاراتي على مستويات مختلفة. واليوم بت أعرف النصيحة والخطة والصورة التي يجب أن أرسمها للآخر بفضل معرفتي هذه”.
غياب المونوغرافيات
المتتبع للمشهد الإعلامي بالعالم العربي سيكتشف مدى انحسار التأليف الموسيقي في ثلاثة أنواع.
الأول، يتعلق بكتب الحوارات الموسيقية التي ينجزها صحافيون ونقاد مع بعض الموسيقيين والمغنين، بما يجعل الكتاب عبارة عن سيرة حياتية مفتوحة على الموسيقى والغناء. بعد أن يطرح الناقد أسئلة حول المسار الفني الذي يطبع شخصية غنائية. هكذا يأتي الكتاب بضمير المتكلم وبلسانه، بعد أن يتخلص من مفهوم التأويل الذي ينأى بنفسه أحياناً عن خطاب المغني والموسيقي. وهو نمط نقدي صعب يجعل الصحافي يبذل مجهوداً كبيراً في البحث عن المعلومة، فتكون الأسئلة حرجة وحساسة ومنتقدة تضع الفنان أمام مرآة نفسه، وأمام عتبة منجزه الموسيقي طيلة حياته، كما يستغل بعض النقاد والصحافيين الفرصة لطرح أسئلة تتجاوز حدود الموسيقى والغناء، صوب التعبير عن رأيهم تجاه بعض القضايا السياسية التي تشهدها الأوطان العربية. وفي الغالب يحقق هذا المحور جدلاً كبيراً عند عشاق الفنان ويثير ردود فعل مختلفة ومتباينة أكثر مما تثيرها محاور الكتاب الفنية والجمالية.
أما الثاني ففيه نوعان، الأول مرتبط بكتب نقدية تستعرض سيرة الفنانين العرب في علاقتهم بالموسيقى والغناء، كما هو الحال لكتب من قبيل “فؤاد الظاهري: حين تسكننا الموسيقى” للدكتور إيناس جلال الدين وكتاب “فؤاد الظاهري: مصرية الجذور وعالمية الإبداع” لرانيا يحيى وعبدالله الحيمر في “ناس الغيوان: خطاب الاحتفالية الغنائية”. ويأتي شكل الكتابة وفق نفس نقدي تارة وتاريخي تارة أخرى. ويكون عبارة عن احتفاء بسيرة الموسيقى أو المغني وفق أغراض مدحية وتمجيدية بدرجة أولى.
في حين يكون النوع الثاني يناقش قضايا عامة عالقة في الموسيقى العربية مثل كتاب “الفن المغربي جاذباً للاندماج الاجتماعي” لمحمد همام و”مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية” لعبدالعزيز عبدالجليل و”الموسيقى الأندلسية المغربية “للمؤلف نفسه وغيرها. ويتأرجح هذا النمط بين المؤلفات العامة حول الموسيقى في علاقتها بسياقاتها الاجتماعية والسياسية، وبين الطريقة التربوية التي تعلم الموسيقى وتم بيع هذه الكتب بكثرة منذ نهاية الثمانينيات، على رغم اختفائها في السنوات الأخيرة من داخل المكتبات العربية.
أما النمط الثالث فغير موجود داخل المؤلفات العربية، وله علاقة بالكتب النظرية الفلسفية والتاريخية منها، والتي تناقش مفاهيم الموسيقى والصناعة الغنائية في ضوء سياقات تاريخية ونظريات فلسفية. لا سيما وأن المشهد الموسيقي العربي عرف تحولات كبيرة غيرت معها مفهوم الذوق الجمالي للمجتمع، بالتالي فإن النقد الموسيقي غير قادر على متابعة هذه التحولات الجمالية وفهم أصولها والعمل على تقديم سردية فكرية حولها.