حرية – (3/4/2023)
بشير مصطفى
بعيداً في ريف منطقة الضنية شمال لبنان يعيش المواطن خالد دياب لحظات من السلام، محافظاً على طقوس النسك التقليدية التي تعتبر الانتقال على ظهر الحمار من الأمور الوجدانية واللصيقة بالعمل الزراعي، فهو واحد من آخر مربي الدواب مما يعتبر مؤشراً على تراجع القطاع الزراعي.
رحلة بيئية بامتياز
لم تكن سهلة رحلة البحث عن الحمار، ففي قلب الريف اللبناني استغنى كثيرون عن هذه الحيوانات لمصلحة الآلات الزراعية الحديثة ووسائل النقل المتطورة، ويأتي ذلك ليخالف التوقعات التي تتكرر كلما ارتفعت أسعار المحروقات “سنعود إلى زمن الحمير والبغال”.
في بلدة عاصون التي تبعد حوالى 40 كيلومتراً عن طرابلس عثرنا على ضالتنا، وذلك في إحدى الزوايا التي تصلح لعيش حياة النسك والعزلة، ولا يعكر صفو سكونها سوى صوت البلبل وصياح الديوك، إذ لا يزال المواطن خالد دياب محافظاً على تربية حماره الذي يساعده منذ سنوات في المهمات الزراعية الشاقة والصعبة.
تعيش “الزيرة” (أي الدابة) كما يناديها بعض الجيران، في محيط بيئي بامتياز حيث تتكامل المنظومة الطبيعية بوجود الدواجن ورؤوس الماعز والخضراوات والمياه، ويقول خالد إنه خصص لها غرفة في المبنى الذي تعيش فيه العائلة، إذ يقفل الباب عليها جيداً قبل رحيله لئلا تخرج أو تضطر إلى المواجهة فهي اعتادت الخضوع لصاحبها حصراً، ويعلق أحد الأبناء على الرابط العاطفي الذي يبديه والدهم حيالها فهو يهتم بها كأنها واحدة من أبنائه.
مسيرة حياة
برفقة دابته العنيدة الشقراء يغوص في قلب الجبال الخضراء المطلة على القرنة السوداء في شمال لبنان عابراً الطرقات الوعرة، وهو واحد ضمن قلة من المزارعين يجتهدون للحفاظ على ما تبقى من زمن مضى، ويؤكد خالد أن تربية الحمير ليست بالمهمة السهلة ولا بد من معرفة الطباع المختلفة، فالتعامل مع الحصان يختلف عن البغل وكذلك الحمار أو البقرة، وقد ظهر ذلك من خلال رد فعل “الجحشة” عند إخراجها من غرفتها، فقد رفضت الحركة من مكانها ولم تستجب إلا لأوامر صاحبها، وبادرت بالركض قبل أن تمرغ جسدها بالتراب.
المزارع خالد دياب أحد آخر مربي الحمير في شمال لبنان
ويوضح خالد أنه “في الماضي كانت كل عائلة تقتني حماراً، أما الآن فلم يعد أحد مهتماً بها وأصبح وجودها نادراً”، كما يرفض إطلاق وصف “الحمار” على بعض الناس لأن “الحمير حيوانات بريئة وتعيش وفق فطرتها وتؤدي خدمات كبيرة للناس والكائنات العاقلة”.
“زيرة” المهمات الصعبة
في سياق سرده لمزايا الحمير أيضاً يتحدث خالد عن “أدائها المهمات الصعبة، فهي تنجح حيث يعجز الآخرون”، ففي الأماكن الضيقة والوعرة يلجأ إليها عمال البناء إذ شاركت في عدد من مشاريع حفر أقنية الري وجر المياه في المناطق غير المأهولة، كما أنها تصل إلى الأماكن التي لا يمكن للسيارات بلوغها بسبب عدم وجود الطرقات المعبدة، ناهيك عن استخدامها في أعمال البناء والزراعة المختلفة وكذلك جمع الحطب للتدفئة شتاء، ويستذكر مالكها محطات كثيرة في مسيرة “الزيرة”، فقد لجأ إليها في أعمال بناء المسكن لنقل مواد البناء، لا سيما الحديد وألواح الخشب، كما ترافقه في محطات مختلفة من الموسم الزراعي من بدايته حتى جني المحاصيل. ويعتمد في تغذيتها على الرعي من منطلق التوفير.
ويرفض خالد تزويج “زيرته” إذ يعتقد أن الحمل والوضع يجعلانها عرضة للإنهاك والشيخوخة الباكرة، وبالتالي تدخل مرحلة العجز قبل أوانها، ولذلك فهو يرعاها صيفاً شتاء.
صديقة الأطفال
وخلال تجوالها ينظر المارة إليها بكثير من الاستغراب، لأنه خلال العقود الثلاثة الماضية انسحبت الحمير من حياة العامة حتى ظن الناس أنها في طور الانقراض، ويسرع كثيرون لتوثيق اللحظة وتصويرها أو حتى دفع الأطفال للاقتراب منها ومداعبتها.