حرية – (3/4/2023)
في سبتمبر 2023 تهافت الأمريكيون على دور السينما، لمشاهدة فيلم “The Woman King”، لمخرجته السمراء جينا برينس بيتيوود، التي أنتجته بخمسين مليون دولار. ومرد التهافت سببان على الأقل، فبطلة الفيلم الجنرال نانيسكا هي الممثلة الزنجية الأوسكارية البارعة فيولا ديفيس، والأهم من ذلك فرادة القصة التي تروي تاريخاً آخر للسود لا يبدأ من عصر الرق كما تقول مخرجته، بل بعصر حافل للنساء الإفريقيات، يكاد يطابق القصص السحرية والأساطير الإغريقية، بدأت أطواره الحقيقية في مملكة الداهومي، بنين حالياً، غرب القارة السمراء.
ولأن الرواية حقيقية فقد ذهل المشاهدون في أمريكا وأوروبا، وهم يكتشفون أن إفريقيا البدائية شهدت تأسيس أول جيش نسائي منظم خلال العصر الحديث، تكفل بحماية الملك والدفاع عن المملكة ضد الممالك المجاورة في نيجيريا وتوجو، المتناحرة حول ريع سوق الرقيق، ثم مقارعة الغزو الفرنسي لغرب إفريقيا في 1892 ميلادية.
أما المثقفون فقد كانوا أشد ذهولاً، وهم يعاينون أن تلك الأفكار العصرانية التي تطالب بها الحركات النسوية تحت لواء الفيمينيزم، الدائرة في فلك المساواة المطلقة بين النساء والرجال، كانت واقعاً إفريقياً معاشاً وسائداً قبل قرنين من الزمن، حتى أن ذلك الشعار التحقيري الذي يشنه الفكر الذكوري ضد المرأة: “مكانك في المطبخ”، كان مسبوقاً بجواب فصيح، لدى أولئك المحاربات المنتميات لسلالة الأغوجي بتواطؤ ظريف مع لغة الفون المحلية، التي تشير إلى أن لفظة اغوجي تعني “أفسح لي المكان” أو “تنح عن طريقي”، وحقاً فقد اخترن مكانة أخرى، لا في فراش الزوجية والمطبخ والحضانة، بل في جبهات القتال، في الخطوط الأولى للموت.
في واقع الحال لم يتساوين مع الرجال فحسب، بل تفوقن على ذكور الممالك والقبائل المناوشة، في عدة معارك طاحنة، جراء التأهيل العسكري القاسي الذي كن يخضعن له منذ سن المراهقة الأولى، ليصرن في عنفوان الشباب فهود سود ضارية، كما لقبن، كيف لا والضباط الفرنسيون والبريطانيون يشهدون في مذكراتهم بأنهن كن لا يكتفين بقتل الغزاة بل بفصل رؤوسهم عن أجسادهم، وحملها في عروض أمام الأشهاد، وهن يرقصن على وقع ترانيم إفريقية لا تخلو من تعاويذ مستلهمة من معتقد الفودو، مرددات شعارهن الأبدي “النصر أو الموت”، فما هي القصة يا ترى.
1/الفهود السود: 6000 مقاتلة في الحريم العسكري للملك
تشير دراسات عدة أن أولى طلائع جيش النساء نشأت في عهد الملك آهو غوببادجا، حاكم مملكة الداهومي بين أعوام 1645 و1685، ففي الوقت الذي كانت فيه شعوب غربية وشرقية تعتقد أن النساء جواري وأخوات الشياطين، كان هو يجيز رغم الطابع الأبوي وتعدد الزوجات للمملكة القبلية، للإناث التدرب على رمي الحراب والضرب بالسيوف واستعمال الرماح المسمومة في نوبات الصيد، قبل أن يؤسس فرقة حرس إمبراطورية تولت بسبب بسالتهن حمايته الشخصية وتأمين قصره.
وتلك النواة ستكبر لاحقاً عندما ارتقت سدة العرش ملكة تسمى طاسين هانجبي كأول امرأة في تاريخ مملكة الداهومي، ولم يكن متاحاً لها أن تحكم ما بين 1708 و1711، سوى بشق الأنفس حيث لقيت معارضة المجتمع الأبوي، بعد وفاة شقيقها التوأم، فرضخ لها قومها لاعتقادهم في ناموس أسطوري، ينص على أن “روحاً واحدة تسري في جسدي التوائم” فلا مناص إذن أن يستمر حكم روح شقيقها الراحل عبر جسد هذه المرأة الجديرة التي اضطرتها الأعراف الأبوية لاخفاء هويتها الأنثوية عن شعبها ردحاً من الزمن.
لم تتأخر طاسين عن تعزيز فكرة جيش النساء بأن رفعت عددهن وكلفتهن بمهام جديدة، حتى إذا ما جاء عصر الملكين غيزو وبيهانزين، صار ذاك الجيش الأنثوي جيشاً محترفاً، يقدم الولاء المطلق للملك ويتولى حماية البلاد من كل خطر محدق، فتعددت اختصاصاته بين فرق الكشافات، والسيافات والراميات، والجاسوسات والمكلفات بجمع المؤن والإمدادات، فبلغ عدده وفقاً لتقديرات متواترة ما بين أربعة آلاف وستة آلاف محاربة، بينهن ضابطات وضابطات صف، وجنديات، يحملن في الغالب البنادق طويلة المواسير، “الموسكوتون” والسيوف ذوات الشفرات الحادة بطول 45 سم، والرماح المصقولة، والمناجل الاستوائية المنحنية التي لا يقل وزنها عن 10 كيلوغرامات، فشكلن بذلك جيشاً مستقلاً بذاته بلغ ثلث جيش المملكة المزدهرة بتجارة الرقيق والعبيد.
أما سبب تكوين هذا الجيش فلا يبتعد كثيراً عن ظروف واكبت نشأة مملكة الداهومي التي ظلت في نزاع مع ممالك مجاورة مثل مملكة الأويو في نيجيريا الحالية، حول السيطرة على هضبة إقليم الأبومي والتحكم في تجارة العبيد، الذين كانوا يباعون للفرنسيين والبرتغاليين والبريطانيين مقابل القماش والتبغ والسلاح والقهوة، ضمن ما صار يُعرف بالتجارة الثلاثية، التي تطلبت احتلال ميناءي ويدا وبورتو نوفو، الشريانين الحيويين لاستمرار تجارة العبيد، التي ذهب ضحيتها الملايين من الزنوج المرحلين للعمل كخدم مزارع وعمال مناجم وفلاحين في مزارع القطن والكاكاو والقهوة في القارة الأمريكية.
ولندرة ما في الرجال بسبب الحروب المستمرة وجراء تحول الذكور لمغنم في يد الملوك، كان اللجوء للنساء الخيار الوحيد إزاء اختلال التوازن الديمغرافي، وضمانة أخيرة لتفادي فناء الملك.
2/ ممنوعات من الحب والإنجاب والموت عقاب لعشاقهن
تشكل جيش النساء أول وهلة من سبايا القبائل العدوة، والمهمشات والمجرمات، قبل أن يصبح انتقاء التجنيد طقساً يعقد كل ثلاث سنوات ثم خفض إلى عام، يعرض فيه الناس بناتهن للانضمام للحرس الملكي الخاص، مثل القرابين طمعاً في المزايا، أما الرافضون فكانوا يخفون بناتهم عندما يحين يوم التجنيد، تجنيد يطال فتيات تتراوح أعمارهم بين 12 و15 سنة، ويشترط أن تكون المرشحة قوية البنية سليمة الجسم كي تتحمل تدريبات غير مسبوقة، مثل العدو القاسي، واستعمال الأسلحة، وتقوية العضلات بمصارعة الثيران، وامتطاء الأفيال والقتال المتلاحم، وتحمل الألم بطقوس تجمع بين التربية البدنية والروحية الشبيهة بعشق الألم حتى يفقد تأثيره على الحواس، مستعينين بطقوس الفودو الشبيهة بالعيساوة المنتشرة في بعض الدول الإسلامية، كما كن يلجأن إلى قص الشعر بشكل شبه كامل، وتدقيق أظافر اليدين على شكل آلة حادة، ورشها ببول البقر تحقيقاً للصلابة، كل ذلك من أجل اكتساب أدوات شرسة تكون عوناً لهن على الفتك بالخصوم.
ويحرم على المنتسبات الزواج والإنجاب والارتباط العاطفي والجنسي مع الرجال، ولذلك سن النظام شرائع نافذة تقضي بقتل كل رجل عشيق يثبت في حقه الاتصال بهن، وانتهاك النواميس الخاصة بالحريم العسكري، المملوك للملكية والملك. ساهم هذا الإعداد العسكري ذو الطابع الكاثوليكي في أن يطلق عليهم السكان لقباً شريفاً مقدساً هو المينو، وتعني “أمهاتنا”، اللواتي كان الأهالي ينحنون لهن لحظة مروروهن في القرى والطرقات.
أما الأوروبيون الذين اصطدموا معهم في معارك ضارية فقد أطلقوا عليهن لقب “أمازونيات الداهومي” المستوحاة من التراث اليوناني القديم، الذي روى بطولات محاربات الأناضول، وهم لم يخطئوا كثيراً في التوصيف، إذ حقق هذا الجيش انتصارات كبيرة في معارك عديدة، منها، معركة سافي عام 1727، ومعركتا ابيوكوتا سنتي 1851 و1864، ثم معركة كيتو في 1886، قبل انهيار مملكة الداهومي على يد الجيش الفرنسي الذي شن عليها حرباً بمبرر يظهر علناً محاربة تعدد الزوجات وأكل لحوم البشر، ويضمر خفية رغبة لا حد لها في السيطرة على خيرات غرب إفريقيا وتوسيع المستعمرات الاستوائية.
في حرب الداهومي الأخيرة التي انتهت عام 1892 فضلت أغلبية جيش الأمهات الموت على الاستسلام وفاءً لشعارهن الأبدي، بعد أن كبدن الجيش الفرنسي الجرار خسائر كبيرة في بداية الحرب. لقد أصيب الجنود الغزاة بالصدمة من مواجهة عسكر من النساء، ثم بالتردد من إطلاق النار عليهن، وكان ذلك فرصة للأمهات للفتك بهم، قبل أن يستعيد الفرنسيون زمام المبادرة بمعاونة اللفيف الأجنبي والبحرية والمدفعية، فسقط ما يربو على ألفي مقاتلة، لينتهي بذلك حكم الإمبراطور بيهانزين ويموت منبوذاً معدماً بالجزائر العاصمة عام 1906، دون أن يحقق حلمه بالعيش وراء الأطلسي، واللحاق بعشرات الآلاف من العبيد الذين باعهم مقابل ثروات طائلة في أسواق أمريكا.
3/ تمثال كوتونو: رمز يخلد نضال النساء وملحمة مقاومة الاستعمار الأجنبي
يرتفع اليوم في كوتونو العاصمة الاقتصادية لجمهورية بنين تمثال شامخ بطول ثلاثين متراً من البرونز الأصفر البراق، جسد فيه النحات الصيني جيانجونغ مقاتلة من جيش النساء، ترفع البندقية بيد والسيف بأخرى، وقد دشن التمثال الذي يرمز لمقاومة النساء للاستعمار من طرف الرئيس باتريس تالون شهر يوليو الماضي، حيث ترغب الحكومة البينينية استغلال القصة التي بدأت تعرف رواجاً دعائياً عالمياً، في بناء صورة إيجابية باعثة لقطاع السياحة جالبة السياح الأجانب وشركات الاستثمار.
أما منظمة اليونسكو فقد اعترفت في مدونتها بالجيش النسوي كتراث لامادي وجب الحفاظ عليه، والاستلهام منه في نضالات المرأة الإفريقية والعالمية ضد مظاهر التمييز الجنسي والمهني، والحرمان من الحقوق الطبيعية، والغمط في الميراث ومعاداة النساء أو “الميزوجينبا”، والزواج القسري وكل أشكال التحقير والتعنيف. في عام 1978 التقى مؤرخ بنيني غداة إعداده فيلماً وثائقياً عن قرية كينتا، على امرأة تدعى ناوي، التي أكدت له أنها شاركت في حرب النساء ضد الفرنسيين واللفيف الأجنبي، نهايات القرن التاسع عشر، فعدت هذه المرأة التي توفيت في العام التالي، 1979، عن عمر فاق مئة عام آخر جندية في جيش الأمهات.
لكن ذلك الاسم لم يضع في مزاريب التاريخ، حيث اختارت مخرجة فيلم المرأة الملك، أن تمنح اسم ناوي البطلة الثانية إلى جوار نانيسكا، كما لو أنها وريثة أخيرة لتأبيد استمرار جيش الأمهات. أمهات تركن، رغم أنهن كن مساهمات في تجارة العبيد، إرثاً بطولياً لنساء العالم: “إذا ما أرادت المرأة فهي تستطيع، وإذا تستطيع فهي تكون حيث أرادت أن تكون”.