حرية – (5/4/2023)
يمثل جامع الحاكم بأمر الله نقطة البداية لواحد من أجمل شوارع القاهرة، وهو شارع المعز لدين الله الفاطمي، فعند الدخول من باب الفتوح وهو أحد أبواب القاهرة العتيقة يجد الزائر جامع الحاكم بأمر الله القائم منذ ما يزيد على 1000 عام بهيبته وجمال معماره على يسار الطريق كبداية مبهرة لرحلته.
ويصف المقريزي في خططه جامع الحاكم بأمر الله فيقول “هذا الجامع خارج باب الفتوح أحد أبواب القاهرة وأول من أسسه أمير المؤمنين العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله، وخط فيه وصلى بالناس الجمعة، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله، فلما وسع أمير الجيوش بدر الجمالي القاهرة وجعل أبوابها حيث هي اليوم، صار جامع الحاكم داخل القاهرة وكان يعرف أولاً بجامع الخطبة ويعرف اليوم بجامع الحاكم ويقال له الجامع الأنور”.
وجامع الحاكم بأمر الله هو ثاني أكبر مساحة في جوامع القاهرة القديمة بعد جامع أحمد بن طولون، والتخطيط الرئيس له يتكون من صحن مكشوف تحيط به من جهاته الأربع أروقة مسقوفة، وتضفي العرائس الحجرية المحيطة بجوانبه حال روحانية فريدة عندما تتخللها أشعة الشمس وتعكس روعة الفلسفة المعمارية التي يمثلها البناء.
عند بداية إنشاء جامع الحاكم بأمر الله كان يقع خارج أسوار القاهرة
وعن جامع الحاكم بأمر الله يقول الباحث في التاريخ الإسلامي سامح الزهار إن “المسجد ينسب إلى الخليفة الفاطمي الثالث الحاكم بأمر الله وهو من أتم بناءه، أما بانيه الأول فهو والده العزيز بالله ابن المعز لدين الله الذي ولد بالمغرب وبقي فيه حتى شبابه الباكر ليشارك أباه بعد ذلك في مسؤوليات الحكم، إذ كان هناك هدف لمد النفوذ الفاطمي إلى الجزيرة العربية وبلاد الشام حتى تحل الدولة الفاطمية محل الدولة العباسية التي أصابها الضعف، ويذكر أن المصريين رحبوا بقدوم المعز لدين الله لمصر حين أملوا في أن يكون تغيير الحكم وسيلة لتحسين أوضاعهم التي ساءت في نهاية زمن العباسيين، خصوصاً أن الفاطميين عهدوا بتأمينهم وتحسين أوضاعهم وحمايتهم”.
ويضيف الزهار لـ “اندبندنت عربية” أن “من التجليات المميزة لعمارة مسجد الحاكم بأمر الله هو مدخله البارز، فهو أول مسجد في القاهرة يكون مدخله بارزاً عن واجهته، وكانت هذه الظاهرة ليس لها نظير سوي في جامع المهدية بتونس الذي يرجع بناؤه لأوائل القرن الرابع الهجري، ثم وجدت بعد ذلك في جامع الظاهر بيبرس البندقداري، وتنتهي واجهة مسجد الحاكم بأمر الله ببرجين يتكون كل منهما من مكعبين يعلو أحدهما الآخر، وقد نقش على المئذنتين زخارف نباتية وهندسية في غاية الدقة زينت بكتابات بالخط الكوفي المزهر”.
مقر لجنود الحملة الفرنسية ودار للآثار
كان جامع الحاكم بأمر الله يقع خارج أسوار القاهرة بداية إنشائه، وفي عهد الخليفة المستنصر تم تجديد سور القاهرة الشمالي لتوسعة مساحة القاهرة وأدخل الجامع داخل الأسوار، وقد شهد عام 702 للهجرة زلزالاً شديداً أدى لتصدع بعض جدران المسجد ليرممها الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وتم تجديد الجامع في زمن الناصر حسن بن محمد بن قلاوون.
وفي عام 1222هـ جدده نقيب الأشراف عمر مكرم ليشهد ترميمات وإصلاحات متتالية في عصور مختلفة كان آخرها ترميم شهده المسجد ليتم إعادة افتتاحه أخيراً ويشهد إقامة الصلوات ومن بينها تراويح رمضان بعد انقطاع لسنوات.
ويشير الزهار إلى أن “الجامع تعرض للإهمال ولحوادث عدة كان لها تأثير كبير على حاله، فإبان الحملة الفرنسية على مصر اتخذ جنودها جامع الحاكم بأمر الله مقراً لهم حيث رابطوا فيه واستخدموا مئذنتيه العاليتين كأبراج لمراقبة القاهرة، ومن بعدها حوله بعض الشوام إلى مكان لصناعة الزجاج ونسج الحرير، ثم قامت مصر باستخدامه كمتحف إسلامي هو الأول من نوعه وأطلق عليه اسم “دار الآثار العربية”، إذ جمعت الآثار والتحف الإسلامية من المباني الأثرية الإسلامية المختلفة للحفاظ عليها من السرقة ومن تجار الآثار الأوروبيين الذين كانوا منتشرين بمصر وقتها حتى تم بناء متحف الفن الإسلامي الواقع بمنطقة باب الخلق ويعتبر أكبر متحف إسلامي في العالم.
ويوضح الزهار أن ” الجامع تحول لاحقاً إلى مدرسة السلحدار الابتدائية، لينتهي به الحال إلى مخازن لتجار المنطقة المحيطة، وبقي الجامع على هذا الوضع حتى قامت لجنة حفظ الآثار العربية ببعض الإصلاحات في بعض أجزائه، لكن لم تكن تقام فيه الشعائر”.
ويضيف، “في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات جاءت طائفة البهرة من الهند لإحياء العمارة الفاطمية وترميم آثارها في مصر، وتقدمت بطلب إلى الحكومة المصرية لترميم الجامع بجهودها الذاتية فكان ذلك، ودعي الرئيس السادات إلى افتتاحه وعادت الصلوات تقام فيه بعد انقطاع طويل وعلى مدى سنوات عمل البهرة على القيام برعايته”.
الحاكم بأمر الله
ربما كانت شخصية الحاكم بأمر الله واحدة من أغرب شخصيات حكام مصر على مر التاريخ، فله أحكام عجيبة فرضها على جموع الناس وله مواقف متناقضة لم تحدد إطاراً واضحاً لشخصيته التي احتار فيها المؤرخون، وحتى يومنا هذا يتندر المصريون على أي شخص يصدر قرارات غريبة وغير منطقية ويتعنت في تنفيذها ويصفونه بأنه “الحاكم بأمر الله”.
ومن بين أغرب النوادر التي تتواتر عن غرائب الأمور التي فرضها على المصريين آنذاك هي منعه أكل الملوخية والجرجير وبيع السمك من دون قشر، وقال بعض المؤرخين إنه ادعى الألوهية لكن آخرين نفوا عنه ذلك، وقال بعض إنه مصاب بجنون العظمة.
فرض الحاكم بأمر الله أموراً غريبة على المصريين صارت موضع تندر حتى الآن
ويجد الناس اختلافات كبيرة ومتناقضات عدة عند الحديث عن سيرة الحاكم بأمر الله وتوصيف شخصيته، لكن الشيء الذي أجمع الناس واتفقوا عليه هو أنه واحد من أغرب الشخصيات التي حكمت مصر، وأن مسجده واحد من أجمل مباني القاهرة التاريخية.
ويشير الزهار إلى أن “شخصية الحاكم بأمر الله شديدة التناقضات، فهو ولد في مصر عكس أبيه الذي جاء لمصر صبياً في أوائل الشباب، فعاش الحاكم بأمر الله حياته كاملة بين المصريين وعرف طباعهم، وتولى تربيته معلمه أبو الفتوح برجوان الذي تنسب له حتى الآن حارة برجوان الشهيرة في القاهرة وتعاظم نفوذه في ذلك الوقت خصوصاً بعد تولي الحاكم بأمر لله الحكم في سن صغير، إذ حكم وعمره 11 سنة، لكن الحاكم بأمر الله قتل معلمه في مؤامرة دبرها له”.
ويضيف، “يشبه الحاكم بأمر الله عند سرد سيرته بما تحمله من أحداث وغرائب وطرائف أبطال الحكايات الشعبية المتداولة، أو ربما حكايات مثل ألف ليلة وليلة، وربما يشبه شخصية مثل شخصية جحا ونوادره، خصوصاً لما عرف عنه من امتطائه الحمار مع شكل وطبيعة الأزياء الفاطمية، فهو شخصية درامية وثرية في كل مراحل حياته، ويمكن القول إن جامعه يشبهه في ذلك بما مر عليه من أحداث “.
مقام لم يدفن فيه صاحبه
يقول علي مبارك في الخطط التوفيقية، “بجوار جامع الحاكم من الجهة الغربية مدفن بناه الحاكم لنفسه ولم يدفن فيه، وعرف في ما بعد بمدفن الساعي، وهو بناء متسع تعلوه قبة ومبخرة مرتفعة، وفيه شواهد على أسماء الموتى المدفونين هناك”.
تعرض المسجد لفترات من الإهمال واستخدم في أغراض غير هدفه الأساس
ومن بين غرائب الحاكم بأمر الله أيضاً قصة موته الغامض ونهاية حياته الدرامية، فقد ورد أنه خرج ليلاً ممتطياً حماره كما اشتهر عنه ولم يعد، وعندما شرع الجند في البحث عنه لم يجدوا سوى عباءته الملطخة بالدماء، ولم يعرف مكان لجثمانه أو أثر لقبره، وقد مات الحاكم بأمر الله في الـ 36 من عمره بعد أن حكم مصر 25 عاماً، وعلى مر العصور بقي سبب مقتله لغزاً وبقي القاتل غير معروف، وقد ذكر بعض المؤرخين أن أخته ست الملك هي التي أوعزت بقتله، ولكن لم يوجد على ذلك دليل قاطع، لتبقي نهاية الحاكم بأمر الله غريبة ومثيرة للجدل مثل صاحبها”.