حرية – (8/4/2023)
تحت عنوان “رمسيس وذهب الفراعنة”، تستضيف العاصمة الفرنسية باريس معرضاً يضم 181 قطعة أثرية فريدة على رأسها تابوت الملك رمسيس الثاني، إضافة إلى عديد من المقتنيات التي تعود لعصور مختلفة من مصر القديمة.
المعرض سيستمر حتى سبتمبر (أيلول) المقبل، وفرنسا هي محطته الثانية بعد الولايات المتحدة، أما المحطة الثالثة والأخيرة فستكون في ملبورن بأستراليا.
قبل الافتتاح الفعلي للمعرض تم بيع 130 ألف تذكرة، وكانت فرنسا استضافت معرضاً مشابهاً عام 2019 لكنوز توت عنخ آمون وحقق نجاحاً باهراً، حيث قام بزيارته أكثر من مليون شخص، إذ لدى الفرنسيين دائماً اهتمام وشغف بالحضارة المصرية القديمة.
عن المعرض وفعالياته وأبرز القطع الأثرية المعروضة فيه يقول مجدي شاكر، كبير الأثريين بوزارة الآثار المصرية، إنه ضم 180 قطعة في مرحلته الأولى بالولايات المتحدة، وتمت إضافة قطعة جديدة في معرض فرنسا وهي تابوت الملك رمسيس الثاني المصنوع من خشب الأرز، كشكل من أشكال التقدير لدور فرنسا واهتمامها بعلم المصريات، وهذه هي المرة الأولي التي يعرض فيها هذا التابوت خارج مصر، وهو من القطع الأثرية المميزة من مقتنيات الملك رمسيس الثاني.
ويضيف شاكر لـ”اندبندنت عربية”، “يضم المعرض قطعاً أثرية متنوعة لرمسيس الثاني، إلى جانب بعض الآثار المكتشفة في منطقة البوباسطيون بسقارة، كما يضم قطعة أثرية فريدة هي قناع الملك (آمون أم أوبت)، من ملوك الأسرة الـ21 واكتشفه عالم الآثار الفرنسي بيير مونتيه عام 1939، وهو قناع ذهبي فريد لكنه لم يأخذ شهرة كبيرة وقتها لتواكب اكتشافه مع بدايات الحرب العالمية الثانية، وإلى جانب المعروضات يتيح المعرض أيضاً لزائريه تجربة اكتشاف معبد أبو سمبل ومقبرة نفرتاري من خلال تقنية الواقع الافتراضي، كما يعرض مجموعة من الفيديوهات التي تحكي تاريخ الملك رمسيس الثاني، وأهم المعارك التي خاضها وعلى رأسها معركة (قادش) الشهيرة”.
رحلة رمسيس الثانية
كانت مومياء الملك رمسيس الثاني أرسلت إلى فرنسا في سبعينيات القرن الماضي لإجراء بعض الفحوص والعلاج من فطريات، وحينها سافر الفرعون المصري بجواز سفر كتب عليه “ملك سابق”، واستقبل في المطار بتشريفة رسمية مثل الملوك، حيث عزفت الموسيقى العسكرية، وأطلقت 21 طلقة من المدافع، واستقبله جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي آنذاك.
ويحظى رمسيس الثاني بمكانة كبيرة بين ملوك مصر القديمة، فهو من أعظم الحكام وشهدت سنوات حكمه الـ70 إنجازات متعددة في مجالات مختلفة سواء من الناحية العسكرية أو من ناحية الإنشاءات العظيمة التي تمت في عهده وعلى رأسها معبد أبو سمبل.
مشروع علمي مثير لإعادة بناء وجه الملك رمسيس الثاني بعد مرور أكثر من ثلاثة آلاف سنة على وفاته أظهر ملامح وجه الملك المصري الذي بدا شبيهاً بالمصريين الذين نراهم في جميع ربوع البلاد بعد آلاف السنوات.
يتيح المعرض لزائريه تجربة اكتشاف معبد أبو سمبل من خلال تقنية الواقع الافتراضي
تم المشروع بالتعاون بين رئيس قسم الأشعة بكلية الطب جامعة القاهرة وخبيرة فحص المومياوات سحر سليم وعالمة الأنثروبولوجي من ليفربول بإنجلترا كارولين ولكنسون، حيث تم استخدام نتيجة فحص الأشعة المقطعية لمومياء الملك رمسيس الثاني في إعادة بناء وجهه، وجرى عمل مجسم ثلاثي الأبعاد للجمجمة ثم تركيب العضلات عليه ومن ثم الاستعانة بنتائج الفحوص التي أظهرت العناصر الشكلية مثل لون البشرة وطول الشعر وشكله وغير ذلك لتظهر الصورة النهائية للوجه.
خضعت مومياء الملك رمسيس الثاني لدراسات علمية عديدة بمصر، وتم فحصها ضمن مشروع فحص المومياوات الملكية التابع لوزارة الآثار المصرية، الذي تبناه عالم المصريات زاهي حواس وتم خلاله فحص 40 مومياء ملكية.
أثبتت الدراسات العلمية بما لا يدع مجالاً للشك أن رمسيس الثاني مات على فراشه عندما تجاوز عمره الـ90 عاماً، وأظهرت الفحوصات الوضع العام للمومياء بما يدحض بشكل كامل الافتراضات التي طرحت سابقاً بأن رمسيس الثاني هو فرعون الخروج.
تحنيط ملكي متقن
عن المشروع تقول أستاذ الأشعة بجامعة القاهرة سحر سليم، “عمليات التحنيط الملكية المتقنة للملك رمسيس الثاني مكنت من حفظ شكل وقياسات الرأس والوجه، وباستخدام أحدث برامج بناء الصور فقد أظهرت صورة الأشعة المقطعية الصفات التشريحية لعظام وجه الملك رمسيس وأبرزها عظمة الأنف العالية وكذلك خط الفك القوي، وبناء على ذلك تم بناء العضلات على عظام الوجه المحفوظ رقمياً باستخدام برنامج كمبيوتر متخصص في التحقيقات الجنائية وإعادة تركيب وجوه الهياكل العظمية غير المعروفة”.
هكذا يشبه وجهه ملامح أهل مصر الذين نلاقيهم في الشوارع حتى يومنا هذا
وتضيف سليم “من خلال فحص مومياء الملك المحفوظة في متحف الحضارة بالفسطاط تمكنت من التعرف على السمات الشكلية لوجه الملك كما تبدو، مثل لون البشرة البني والشعر المموج المصبوغ بالحناء، الذي يصل طوله إلى ستة سنتيمترات، وتم استخدامها في تصميم إعادة بناء الوجه الرقمي لرمسيس الثاني ليجعله يبدو في عمر 91 عاماً، ثم باستخدام التراجع الزمني لإعادة بناء وجه الملك في الأربعينيات من عمره وقت ذروة مجده العسكري، والملحوظة المهمة والمثيرة للانتباه أن رمسيس الثاني بعد بناء وجهه بالتقنية الحديثة وبهذا الشكل العلمي بات يشبه وجوه أهل مصر الذين نلاقيهم في الشوارع حتى يومنا هذا، فهو يبدو شبيهاً بالمصريين الحاليين بعد مرور آلاف السنين”.
ملك مصري عظيم
رمسيس الثاني هو واحد من أعظم ملوك مصر على مر التاريخ، وتشهد جدران معابده بانتصارات عظيمة سجلها الفنان المصري القديم ووثقت حقبة من أهم فترات التاريخ المصري القديم.
يقول محمد محيي الكاتب والباحث التاريخي “رمسيس الثاني ملك استثنائي، وهو يعود لعصر الرعامسة الذين كان بداية حكمهم لمصر مع تولي رمسيس الأول، الذي كان قائداً للجيش في عهد حور محب، الذي اختاره ليكون خليفته على العرش، ويحكم من بعده ابنه سيتي الأول والد رمسيس الثاني، وكان للابن نشاطات كبيرة وهو أمير قبل توليه العرش، منها قيامه بحملات عسكرية كثيرة واهتمامه بتأمين الجبهة الداخلية، فقد كان يرى أن مصر يمكن أن تكون إمبراطورية مثلما كانت في عهد تحتمس الثالث”.
لم تكن إنجازاته منحصرة فقط في الجانب العسكري بل تشهد إنشاءاته على رخاء وقوة الدولة
عند الحديث عن رمسيس الثاني فإن معركة “قادش” دائماً ما كانت أهم الانتصارات في سجل إنجازاته، وعنها يقول محيي “جرت وقائعها في منطقة بلاد الشام، وانتصرت فيها مصر انتصاراً كبيراً، ويربطها الناس دائماً بتوقيع أول معاهدة سلام في التاريخ، لكن هذه المعاهدة تم توقيعها بعد المعركة بنحو 17 سنة، فبعد الانتصار المصري أخذت السياسة والمفاوضات مجراها، وكان هناك كثير من الأحداث انتهت بتوقيع هذه المعاهدة”.
ويضيف “معركة (قادش) موثقة بشكل كامل على جدران المعابد المصرية، ووجدت مراسلات في شأنها بين المصريين والحيثيين لا تدع مجالاً للشك بأن رمسيس الثاني قد حقق فيها نصراً عظيماً يعد واحداً من أهم إنجازاته خلال فترة حكمة التي زادت على 70 عاماً”.
تطور للفنون
لم تكن إنجازات رمسيس الثاني منحصرة فقط في الجانب العسكري، بل تشهد الإنشاءات التي حدثت في عهده على عظمة ورخاء وقوة الدولة المصرية، فقد عكست جانباً آخر هو قوة وتطور الفنون، يقول محيي “من أهم الإنشاءات التي قام بها رمسيس الثاني معبد (الرومسيوم) الذي عثر في مكتبته على وثائق تدل على أنه كان يضم العقول المدبرة للإمبراطورية المصرية من العلماء المتخصصين في كل المجالات، كما أضاف لإنجازاته معبد الكرنك، ودرة المباني التي أنشئت في عهد رمسيس الثاني هي معبد أبو سمبل الذي تزين واجهته أربعة تماثيل ضخمة للملك يصل طول الواحد منها إلى 20 متراً، وجدير بالذكر أنه على مدار ألف عام بعد رمسيس الثاني لم يشيد أي ملك مصري معبداً في النوبة”.
ويضيف “كان رمسيس الثاني محباً لأسرته ولأبنائه، وانعكس هذا في المباني التي اهتم بإنشائها ومن أبرزها المقبرة العظيمة التي شيدها لأولاده في وادي الملوك، ومقبرة زوجته نفرتاري التي تعد من أجمل المقابر المصرية، كما يعد ابنه (خع أم واست) الذي تولى منصباً كهنوتياً في مدينة منف حتى بات كبير الكهنة هو أول عالم مصريات ومرمم آثار في التاريخ، حيث قام بترميم الهرم الأصغر من أهرامات الجيزة، وأهرامات سقارة”.