حرية – (10/4/2023)
يمتلك العراق احتياطات نقدية ضخمة من عائدات النفط تزيد على 115 مليار دولار، ولكنه يعوم فوق بحيرة ضخمة من الديون، ما يثير التساؤلات حول الأسباب التي تحول دون أن يحرر العراق نفسه من أعباء الديون، ولماذا لا يستثمر أمواله لتوفير موارد جديدة.
ويقول خبراء اقتصاديون إنه حتى وإن كانت ديون العراق تقع ضمن النسب الآمنة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، فهناك جانبان يشكلان مصدر التهديد الرئيسي، وهما أن 95 في المئة من الناتج المحلي يأتي من عائدات النفط، وأن الإنفاق الحكومي أعلى من إيراداتها الأمر الذي يجبرها على المزيد من الاقتراض، وليس العكس.
وحيث أن عائدات النفط ترتفع وتنخفض حسب أسعار السوق، فإن الإنفاق الحكومي الحالي يتضمن 47.6 مليار دولار سنويا رواتب لنحو 12 مليون موظف، بينما يستهلك الإنفاق الدفاعي والأمني والخدمات الأساسية على شحتها نحو 60 مليار دولار، وذلك من أجمالي عائد يبلغ نحو 120 مليار دولار سنويا. وهو ما يكاد لا يُبقي شيئا للاستثمار المحلي ولا لتسديد الديون.
ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة نبيل المرسومي في تدوينة إن “الدين العام في العراق نهاية عام 2022 بلغ 94.94 تريليون دينار (63.3 مليار دولار)، منها 70.5 تريليون دينار (47 مليار دولار) ديونا داخلية. وتبلغ “خدمة الدين” الداخلي والخارجي (القسط + الفائدة) في موازنة العام الجاري 18.96 تريليون دينار (12.6 مليار دولار) سنويا”.
ويقول مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي إن هذه الديون “لا تشكل سوى نسبة تتراوح بين 30 و35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهي نسبة آمنة جدا مقارنة بالنسبة المعيارية أو القياسية الدولية البالغة 60 في المئة”.
إلا أن الصورة الحقيقية لا تتوقف عند حجم الديون مقارنة بالناتج المحلي. وإنها ستكون نسبة مخادعة إذا لم تأخذ بعين الاعتبار التضخم المتواصل للديون من ناحية، والعجز عن توفير الموارد للاستثمارات التي يمكن أن تساهم عائداتها في خفض كلفة الديون من ناحية أخرى.
ويقول المرسومي “ربما يكون أخطر ما في الموازنة هو أنها ثلاثية وليست سنوية وهو ما يعني استمرار الصرف في العام القادم ليس على أساس 1/12 من الإنفاق الفعلي وإنما على أساس ما هو مخصص في الموازنة في العام السابق وهذا قد يؤدي إلى إطلاق يد الحكومة في الاقتراض الداخلي والخارجي خاصة مع اختفاء الفائض النقدي الذي سيجري استخدامه في موازنة هذا العام، فضلا عن أنه من الممكن أن تستمر الموازنة بصيغتها الحالية من دون تعديل في العامين القادمين ومن دون أن يمتلك البرلمان الصلاحيات القانونية لرفض ذلك أو تعديلها مما سيغرق البلد في بحر من الديون”.
ويضيف المرسومي “إن تشريع الموازنة الثلاثية سيعطي الحكومة الصلاحيات القانونية الكاملة لاقتراض 41.5 تريليون دينار ليس في عام 2023، وإنما أيضا في عامي 2024 و2025 ما يعني أن الحكومة تستطيع أن تقترض داخلياً وخارجياً من دون الرجوع إلى البرلمان مبلغاً قدره 121.5 تريليون دينار خلال الموازنة الثلاثية وللسنوات الثلاث 2023 و2024 و2025”.
وبحسب هذه الوقائع فإن الديون الإضافية سوف تبلغ خلال السنوات الثلاثة المقبلة 81 مليار دولار. وعندما تضاف إلى 63 مليار دولار قائمة الآن، فإن النتيجة سوف تكون 144 مليار دولار، وهو ما يقفز بنسبة الدين مقارنة بالناتج المحلي من 30 – 35 في المئة إلى 110 – 120 في المئة. وهي نسبة كارثية، وفقا لجميع المعايير.
وتستعين حكومة محمد شياع السوداني في التوجه نحو إطلاق بعض المشاريع التنموية، ليس باستثمارات من الاحتياط النقدي القائم، وإنما من خلال تمويلات وقروض تقدمها الشركات الأجنبية التي تقوم بتنفيذ هذه المشاريع.
وهذه التمويلات حتى وإن كانت منخفضة الفوائد، إلا أن عائد الاستثمارات نفسها سيكون منخفضا أيضا، بالنظر إلى أن تلك الشركات تنتظر من استثماراتها أن تحقق أرباحا يمكن أن تستهلك معظم العائدات لما يتراوح بين 15 و25 عاما مقبلة.
وتحاول الحكومة العراقية ومستشاروها التخفيف من أخطار تراكم الديون، لاسيما وأن الدين الخارجي مستحق الدفع لهذا العام لا يتجاوز 3 مليارات دولار، وأن بقية الديون مجدولة على سنوات طويلة ما يجعلها لا تشكل خطرا داهما. إلا أن واقع الإنفاق الحكومي، وأعمال الفساد التي أسهمت في تبديد مئات المليارات منذ غزو العراق حتى الآن، تثبت حقيقة أن تلك المخاطر قائمة الآن، وهي لا تحتاج عدة سنوات من الانتظار لكي تكشف عن نفسها.
ويقول الخبير الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش إن العراق خسر 300 مليار دولار نتيجة الإدارة السيئة لموازنات الدولة. ويشير خبراء اقتصاديون مثل أستاذ الاقتصاد عبدالرحمن المشهداني إلى أن العراق يعد نموذجا لما يُعرف بـ”المرض الهولندي” الذي يعني اعتماد البلاد على الإيرادات النفطية فقط دون وجود أي إيرادات أخرى مؤثرة.
وهو الواقع القائم حاليا، حيث تستهلك الحكومة عائدات النفط، ولا تملك الأموال الكافية لتوفير موارد إضافية، وتضطر إلى تغطية تكاليف الاستيراد حتى بالنسبة إلى الكثير من السلع والخدمات والمواد الغذائية التي يمكن إنتاجها محليا. وهو ما يفسر سبب النزيف اليومي الذي توفره نافذة التصريف التي يفتحها المصرف المركزي لتحويلات الدولار إلى الخارج والتي تبلغ نحو 200 مليون دولار يوميا.
ويقول خبراء اقتصاديون، إن الاحتياطات النقدية للعراق، ما لم يتم استخدامها في تمويل مشاريع تنموية جديدة، فإن وجودها يخدم غرضا واحدا فقط هو توفير السيولة للحكومات المتعاقبة لتمويل الفساد والفشل الإداري.
والأموال المتاحة الآن تدفع حكومة السوداني إلى الشعور بالاطمئنان إلى أنها تستطيع أن تنفقها من دون خشية من احتمال نضوبها. وذلك بينما يمكنها إضافة قروض جديدة، لتغطية العجز التجاري المتفاقم. ولكن لن يمضي وقت طويل قبل أن تكتشف في غضون السنوات الثلاثة المقبلة، أن تلك الأموال تبددت، وظل العجز التجاري قائما، ولم تعد تتوفر الموارد لتغطية الإنفاق الحكومي نفسه لتقف الدولة من جديد على حافة الإفلاس مثلما حدث بين العامين 2019 – 2021. فرغم أن عائدات النفط لم تتوقف، إلا أن الحكومة وجدت نفسها عاجزة عن تمويل بند الرواتب نفسه.