حرية – (27/4/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
تنتشر في مدينة بغداد أكثر من 2400 دار تراثية تتراوح فترة بنائها بين 70 إلى 100 عام، موزعة ما بين الكاظمية والأعظمية والبتاوين والكرادة وشارع أبو نواس وشارع الرشيد والكرخ والرصافة، إضافة إلى مبان أخرى أثرية يزيد عمرها عن 200 عام.
وتقبع هذه البيوت منتظرة اهتمام المعنيين بسبب تقادم الزمن عليها وهي في تناقص عددي بسبب تجاوز أصحاب العقارات عليها.
ويبين محمد الربيعي المتحدث الرسمي لأمانة بغداد أن “أعداد العقارات التراثية في تناقص مستمر منذ عام 2003 بسبب تجاوزات أصحابها على جنسها التراثي، لأسباب استثمارية خاصة، والتعامل معها بشكل غير قانوني عبر تدمير هذه العقارات أو حرقها للحصول على أمر بتهديمها وبنائها من جديد”.
أما في شأن متابعة أمانة بغداد مع لجنة المنازل التراثية التابعة إلى دائرة التصاميم، ذكر الربيعي أن “هناك هيئة متخصصة بالرقابة والكشف الدوري، وفي حال ثبوت قيام أصحاب الأملاك بأمور غير قانونية للإضرار بتلك البيوتات والتأثير في هويتها، تفرض غرامات كبيرة”.
قانون الآثار والتراث
وعلق حاكم الشمري مدير إعلام الهيئة العامة للآثار والتراث في وزارة الثقافة والسياحة والآثار على هذا الموضوع قائلاً “لدينا فرق في دائرة التراث العامة وهي إحدى تشكيلات الهيئة العامة للآثار والتراث مهمتها الرقابة والمسح المستمر على البيوت التراثية في بغداد وتسجيلها، في حال كانت أملاكاً خاصة، أو بيوتاً تابعة لهيئات، أو جهات رسمية أو شبه رسمية”.
وحدد القانون رقم 55 لسنة 2002 الذي يسمى (قانون الآثار والتراث)، ثلاثة شروط صنفت على أساسها هذه الأبنية A وB وC، وكل من هذه الأصناف له خصوصيته في عملية الصيانة أو الترميم، “فالصنف الأول (A) يمنع المساس بالمبنى أو زخرفاته أو تصميماته ولا يسمح بالعبث بها، عدا أعمال الصيانة، أما الصنف (B) فيمكن عمل تغييرات في الداخل من دون التلاعب بالديكور الخارجي، ويمكن صيانة الصنف (C) من الخارج والداخل وفق المنظور التراثي للمبنى وإعادته إلى ما كان عليه”.
وتابع الشمري “نحن نرعى هذه المباني سواء في بغداد أو المحافظات الأخرى على رغم شراكة أمانة بغداد في كثير من البيوت الثقافية الموجودة بخاصة في مدينة بغداد، ولكن ضمن تنسيق والتزام ما بين أمانة بغداد والهيئة العامة للآثار والتراث، وتحت اشتراطات القانون الصارم المشار إليه بعدم العبث بهذه البيوت والمساس بها، وتندرج ضمن هذه المباني والعقارات، الخانات والجوامع والكنائس وكل ما يتعلق بالتراث وبالذات الشريط التراثي الذي يربط ما بين جسر الجمهورية وجسر باب المعظم وشارع الرشيد وملحقاته وكل ما هو موجود فيه”.
مراكز ثقافية وفنية
وعن تأهيل هذه البيوت التراثية، تحدث الشمري قائلاً “بالنظر لأهمية هذه المباني وللمحافظة عليها، سلمنا عدداً منها إلى مراكز ثقافية مثل الفرقة السيمفونية العراقية، ونقابة الفنانين ومعهد الدراسات الموسيقية، وتحول بيت (النقيب) في شارع حيفا إلى مخزن للسجاد التراثي وآخر تشغله الآن (دار المخطوطات العراقية)، فيما أعطيت بيوت أخرى إلى منظمات ثقافية غير حكومية لغرض إشغالها في إقامة الفعاليات الثقافية”.
أما صيانتها، فتعود مسؤوليها لدائرة الصيانة والحفاظ على الآثار التابعة لهيئة الآثار والتراث، التي تعمل حين تتوفر التخصيصات الكافية.
وتابع “لا يقتصر هذا العمل على بغداد فحسب، بل تعداه إلى بيوت مدينة الموصل بعد تعرضها إلى التدمير من قبل تنظيم (داعش) الإرهابي، ومن بينها بيت (التتنجي) الذي أعيدت له الحياة بالتعاون مع منظمات دولية ترعاها (منظمة اليونسكو) بدعم وتمويل من فرنسا وغيرها من الدول، وكذا الحال في مدينة البصرة حيث أُعيدت صيانة ثلاثة بيوت في مدينة العشار القديمة تسلمتها نقابة الفنانين والاتحاد العام للأدباء والكتاب، وسلم الأخير لإحدى المنظمات الثقافية في مدينة البصرة، بدعم من منظمة اليونسكو”.
أثرية وتراثية
وأضاف الشمري “نملك مباني تراثية في جميع أنحاء العراق كالقلاع والآبار والخانات، مثل (خان مرجان) الذي يعود إلى العهد العثماني 760 هجرية و(جامع مرجان) ويعود تاريخ بنائه إلى عام 1356، كما لدينا بوابات وخانات مثل (خان النخيلة أو خان الربع) وغيرها التي يعود بناؤها للعهد العثماني، و(الواقع) في كربلاء و(خان النص) أو ناحية الحيدرية في النجف 1474. هذا إضافة إلى محطة استراحة لزيارة العتبات المقدسة و(قلعة ذرب) 1770 من العهد العثماني، وتقع في ناحية غماس، وغيرها كثير، منها تابع للعصور الإسلامية أو الساسانية أوالفرثية، ولكل من هذه المباني عمر معين، فتلك التي يزيد عمر بنائها على 200 عام تعد مبنى تراثياً، أما أكثر من ذلك فتعد من المباني الأثرية.
وختم “مستمرون في عمليات الصيانة بدعم من المنظمات الدولية لعدم توفير التخصيصات المالية لصيانة هذه المباني، ففي السنوات الماضية لم تقر الموازنة، لذلك لم تكن هناك أعمال صيانة للحفاظ على الممتلكات التراثية بشكل عام”.
أشهر المنازل
ومن أشهر البيوت البغدادية التراثية الموجودة، يذكر المؤرخ العمراني معتصم المفتي على سبيل المثال دار توفيق السويدي وكان رئيساً للوزراء في العهد الملكي، ودار شاكر السويدي وهو من الأطباء العراقيين الرواد 1895، ودار توفيق محمود 1907، ودار القاضي عبد الهادي الظاهر 1898، ودار المحامي عبد الرزاق الظاهر 1907، ودار مارنكوز وكان يسمى (البيت الألماني) لتميز عمارته التي تشبه دور الريف في بافاريا، وتقع هذه الدور جميعها في الكرخ شارع حيفا، ودار المهندس المعماري فهمي دولت وهو من أوائل المهندسين العراقيين في منطقة الشواكة، ويطل دار سعدون عبد المجيد الشاوي على نهر دجلة في محلة الكريمات، ومن جانب الرصافة هناك الكثير، ونذكر منها قصر عبدالرحمن النقيب 1841، رئيس أول حكومة عراقية في العصر الحديث، ويقع في منطقة السِنَك على نهر دجلة ويشغله الآن منتدى المسرح، ودار رئيس الوزراء في العهد الملكي رشيد عالي الكيلاني 1892 ويقع في منطقة الشماسية.
متاحف للزائرين
بدورها تقول أستاذة علم الاجتماع لاهاي عبد الحسين “لا تعود أهمية إعادة تأهيل المباني التراثية للجماعات التي تشغلها من مؤسسات ومنظمات متنوعة، بل هي لعموم المواطنين، لأنها من علامات الاستقرار والأمان النفسي، وهي دالة على حيوية المجتمع وعمقه وثقافته”.
وتابعت “قد يكون من الأفضل الاهتمام بتحويل هذه المباني إلى متاحف ومحطات يتوقف عندها الزوار من العراقيين وغير العراقيين، ولا بأس من أن تستوفي رسوماً مالية رمزية تستخدم أولاً لدعم الخدمات المطلوبة لهذه المباني، وأيضاً لجعل الزائر يهتم بما قدم إليه، وهناك مدى واسع للعمل على تطوير هذا المجال مثل تهيئة المطبوعات التعريفية للمبنى ورواده السابقين أو ساكنيه من الأدباء والفنانين والعلماء والمثقفين، إلى جانب تشغيل الجانب التجاري كالهدايا والأكواب المصورة والقمصان واللوحات كما يجري في كثير من دول العالم، وبالتأكيد يمكن الإفادة من الطاقات الفنية لعمل أفلام وثائقية تسهم في جذب الزوار إلى جانب زيادة معرفتهم واطلاعهم على الموقع أو المتحف أو الدار موضع الاهتمام”.
تحفة معمارية
ويستذكر الكاتب علي حسين رئيس منتدى المسرح سابقاً “من البيوت التراثية التي ارتبطت بذاكرة الفنانين العراقيين قاعة (منتدى المسرح) سُمي (بيت السنك) وهو يقع في شارع الرشيد، جاءت فكرة استغلاله نتيجة لحاجة الفنانين إلى فسحة من الحرية للاحتفاء بالمسرح، وتقديم العروض بعيداً من الروتين الرسمي والأطر الوظيفية، وشيد بيت السنك عام 1911، وكان مؤجراً في البداية للبعثة البريطانية في أوائل العشرينيات، ثم أقام فيه مالكه، واستضاف فيه الملك فيصل الأول لدى مجيئه إلى العراق”.
يقول حسين “بني البيت على الطراز الشرقي بطابقين، والمثير أن مالكه (تاجر يهودي) وضع مصعداً صغيراً فيه، ويطل البيت على نهر دجلة، وفي التسعينيات أقيمت فيه أمسيات فنية أشرفت عليها إدارة المنتدى، وغنى في حديقة المنتدى فنانون كبار مثل رضا علي، وعباس جميل، ومحمد جواد أموري، كما قدم معظم جيل الشباب في تلك المرحلة أعمالهم المسرحية في قاعة المنتدى التي شهدت التجارب الأولى لهؤلاء الفنانين”.
واستطرد “من خفايا هذا البيت، النفق الذي كان يربطه ببيت قديم على الجهة المقابلة من شارع الرشيد، وكانت تسكنه عائلة يهودية، ويعد هذا البيت تحفة معمارية”.
المكان بالمكين
عن العلاقة الوجدانية التي تربط شريحة الفنانين والمثقفين بالمباني التراثية، تحدث نقيب الفنانين العراقيين جبار جودي قائلاً “كونها مبان تتميز بالأصالة والتراث، نجد هناك علاقة خاصة بين المبنى والمثقف والفنان، و(المكان بالمكين) فمن يتواجد في المبنى يضفي عليه مكانته وحضوته واعتباره، فالدار التراثي العائد لفلان (مجهول الهوية) لن يؤثر بشيء، لكن حين نقول الدار التراثية العائدة للشاعر العراقي بدر شاكر السياب سيختلف الوضع”.
وتشغل نقابة الفنانين العراقيين إحدى هذه الدور، ويتحدث النقيب جودي قائلاً “عملنا على تأهيل المبنى بطريقة حضارية حتى أصبح واجهة مشرفة لكل الفنانين”.
أهمل مبنى الدراسات الموسيقية لسنوات عدة وفقد بعضاً من معالمه بسبب عدم وجود تخصصيات مالية، وبعد مناشدات عدة، أطلقت إحدى المؤسسات قبل بضعة أشهر بالتعاون مع منظمة ” USAID” برنامجاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا المبنى العريق لما له من أهمية وتأثير كبيرين في طلبة وأساتذة المعهد.
دافع جديد للعطاء والاستمرار
وعن فكرة إعادة تأهيل المباني التراثية وإشغالها من الجهات الثقافية والفنية، تحدث أحمد سليم غني مدير معهد الدراسات الموسيقية، الذي يشغل معهده إحدى هذه الدور، قائلاً “يأتي مشروع تأهيل المباني التراثية بمثابة القبس الوضاء الذي ينير عتمة الإهمال ويجدد وجدانية وروح كل فنان يمتلك جذوراً رصينة ويأمل في الحفاظ عليها، والترميم لا يتوقف عند المباني التراثية فقط، بل هو ترميم للفكر الفني من اليأس والاستسلام للواقع الذي نعيشه، ودافع جديد للعطاء والاستمرار بالأعمال الفنية، بالتالي سيعكس مفاهيم تفاؤل جديدة تشارك في إصلاح ثقافة مجتمع بكامله”.
ويمثل التراث بشكل عام مجموع نتاج الحضارات السابقة التي توارثناها، والتي تشكل خلاصة تجارب الإنسان الوجدانية المرتبطة برغباته وأحاسيسه، سواء كانت في ميادين العلم أو الفكر أو اللغة أو الأدب أو الفن، وهو يشمل جميع النواحي المادية والوجدانية للمجتمع الفني. واعتمد الفنانون كلياً على المعطيات الوجدانية المتأثرة بتراثهم ليترجموا فنهم المعاصر الذي يمثل هويتهم ويجسد الشكل الفني لنتاجاتهم.
وانتهى غني قائلاً “من تجربتي في مبنى معهد الدراسات الموسيقية، أشعر أن عبق الماضي يملأ جميع أروقة المكان الذي أعده رفيقي اليومي الذي يذكرني بكل قصص الفن الجميل الذي تعلمته أولاً، فضلاً عن كونه يربطني بجذوري التي من خلالها أتجدد وأنتج وأستمر، ولا يمكن للكلمات أن تصف إحساسي بالمكان، فذلك يمكن تحديده بنسبة الانتماء لهذا المكان”.