حرية – (3/5/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
يصعب تصور الحياة الحديثة من دون نقود، ومع ذلك يخفى عن عامة الناس تماماً كيف تصنع هذه الأوراق ومن يصنعها وما المواد المستعملة فيها؟ وما التدابير السرية والأمنية التي تحيط بها؟
اخترعت النقود الورقية على أيدي الصينيين وبعدها بألف عام كان المستعمرون الأميركيون أول من استخدمها استخداماً ممنهجاً في العالم الغربي، حتى أنهم مولوا ثورتهم بإصدار كميات هائلة من أوراق الدولار.
الأحبار الأوروبية
ويقول كلاوس بيندر في كتابه صناع النقود، “تهيمن الشركات الأوروبية على سوق طباعة النقد العالمية بما فيها من آلات طباعة خاصة وأحبار مؤمنة، إضافة إلى المعدات المؤتمتة التي تستخدم لفحص أوراق النقد فحصاً دقيقاً أو الفرامات المؤمنة التي تستخدم لإعدام الأوراق النقدية المستعملة”.
وطباعة أوراق النقد الخاصة ذاتها يسيطر عليها بالكامل عدد قليل من الشركات الأوروبية العالية التقنية، وهذا كله يكاد يكون غير معروف للعامة.
وتبرز هذه السرية دوماً باعتبارها من لوازم الأمن المشدد المحيط بإنتاج منتج شديد الخصوصية، وإن كانت هذه السرية أيضاً نتاج هيكل السوق، الهيكل شديد التسييس، التي تعمل فيها البنوك المركزية ومطابع أوراق النقد الحكومية والخاصة. وهو وضع لا يختلف عما هو سائد في صناعة السلاح، لكن هذا الهوس بالسرية غير مناسب في مجتمع مفتوح، بما أن طباعة أوراق النقد تنطوي على استخدام مكثف وتبديد في أغلب الأحيان لأموال دافعي الضرائب.
الدولار الذي يجسد قوة أميركا الاقتصادية ونفوذها العالمي تنتج منه مطابع مجلس الاحتياط الفيدرالي اليوم نحو تسعة مليارات ورقة لتلك العملة سنوياً، حيث تعتبر المطبعتان اللتان يشغلهما مكتب صك وطباعة العملة نموذجين للكفاءة، ولكن مع ذلك فإن نجاحهما يعود إلى تكنولوجيا طباعة أوروبية تحيط بها تدابير أمنية صارمة، بل إن الدولار سيبدو باهتاً من دون أحباره الأوروبية المؤمنة تاميناً قوياً.
أكثر منتج صناعي سري
قد يعرف بعضهم كثيراً عن النقود نظرياً وعملياً ومن يديرها ولماذا ترتفع قوتها الشرائية وسعر صرفها وينخفضان، لكن لا نكاد نعرف شيئاً عمن يصنع أوراق النقد، إذ لا يوجد منتج صناعي آخر في العالم يتعامل معه الجميع بمثل هذه الكثرة وعلى هذا النحو المتكرر، ولا يوجد فرع آخر من فروع الصناعة معزول بمثل هذا الإحكام الشديد عن أعين الناس، ولا يوجد مجال آخر يكتنفه الغموض كطباعة النقد.
ويبذل صناع النقود من القطاعين الحكومي والخاص جهوداً هائلة للحفاظ على أسرار نشاطهم، إذ تشكل طباعة النقد وتصنيع الورق المؤمن المرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، قلب هذا القطاع ذي الإجراءات الأمنية الصارمة من قطاعات الصناعة.
لذلك فإن وصف قطاع طباعة النقود بأنه ذو تدابير أمنية صارمة له ما يبرره، في ما يخص نقل أوراق نقد بالملايين باستخدام وسيلة نقل خاصة مثلاً، فلا بد أن يكون توقيت عمليات التسليم من أية مطبعة نقد سراً يحفظ بصرامة حتى على المستوى الداخلي، كما أن هذه البضاعة الثمينة تكون مصحوبة بفرق حراسة خاصة مدججة بالسلاح.
إجراءات أمنية مشددة
لكن متطلبات الأمن والسرية تكون أيضاً استثنائية في ما يتعلق بإنتاج النقد وتخزينه. فالمنشآت الإنتاجية مصممة وفق معايير أمنية خاصة، وأحياناً تشبه حصوناً حقيقية، والالتزام الصارم باللوائح الأمنية يخضع لرقابة دقيقة من دائرة الرقابة والأمن بالمنشأة. ويختار الأفراد الذين يتعاملون مباشرة مع أوراق النقد ولا سيما الأوراق الجاهزة للتسليم بعناية فائقة، ففي ألمانيا يشترط للتوظيف في هذا القطاع امتلاك سجل جنائي نظيف، وكان الروس والهنود ذات يوم يسكنون قوتهم العاملة بأكملها في مناطق سكنية معزولة وهم لا يزالون يفعلون هذا إلى اليوم في بعض الأحيان. وفي كثير من المطابع، يلزم العامل التجرد من ملابسه وارتداء بدلة شغل لا جيوب لها قبل بدء العمل.
أما غرف الطبع فهي منطقة محظورة على الزوار حتى ممثلي البنوك المركزية، والرقابة أمر اعتيادي عند مداخل المطابع وغرف التغليف، إذ يسجل اسم أي شخص يدخل أو يخرج، وإذا كانت هناك مادة ذات خصائص شديدة السرية يجري صنعها أو تجهيزها، فلا يسمح لأحد على الإطلاق بدخول المنطقة المعنية أو مغادرتها.
إن كل حركة داخل غرفة طباعة النقد في يومنا هذا مسجلة بالفيديو، ويحتفظ بالفيلم لفترة أطول تصل أحياناً إلى سنوات، وفي بعض المطابع توجد إجراءات رقابية مفاجئة، فلا يسمح لأحد من الموجودين في غرف الطباعة بالتحرك من مواضع عملهم عند انطلاق إشارة صوتية، ثم يفتشون بمعرفة حراس الأمن.
أما خطوات الإنتاج سواء طبع أم صناعة ورق فتحفظ في سجل خاص، إذ تحسب وتقاس الأوراق البيضاء وصفحات الورق المقصوصة والأخطاء المطبعية، لذلك فكل شيء يوثق بدقة بالغة ويجب تسليم هذا السجل إلى اللجنة المعنية التابعة للعميل أي البنك المركزي عند إتمام طلبية الطبع.
إضافة إلى ذلك يجب تسليم جميع النسخ التي تتضمن أخطاء مطبعية من دون استثناء إلى العميل لتلفها، ولا يجوز تسليم الورق إلا على هيئة ما يسمى رزمة تضم 500 صفحة مكشوفة الحواف، بحيث يتسنى التأكد من عدد صفحات الورق وأن الورق غير الصالح للاستعمال الذي لم يطبع عليه شيء، وهو وحده الذي يجوز إعدامه في الموقع نفسه، وهو إجراء أيضاً موثق. أما إذا لزم إصلاح آلة معطلة، ولا سيما أثناء المراقبة النهائية للنقد التام الصنع أو في منشأة التغليف، يطبق عندها مبدأ “الأعين الأربع” الأمني مع استمرار مراقبة خطوات العمل كافة بكاميرات الفيديو، حيث يقوم موظفان معاً أحدهما من قسم الأمن الداخلي بفتح الآلات بمفتاحين منفصلين.
المنافسة بين المطابع الحكومية والخاصة
تقدر شركة الاستشارات البريطانية “سكيورا موند إنترناشونال” المحدودة والكائنة في كنجزكلير في بيركشاير، أن هناك مجموعة 180 أو 190 مليار وحدة “ورقة نقد مفردة” مطروحة للتداول لسكان العالم البالغ عددهم حالياً ستة مليارات نسمة على الأقل، وتقدر الشركة حجم طباعة النقد بما يتراوح بين 85 و95 مليار واحدة سنوياً، وهناك 45 مليار على الأقل من تلك الوحدات تنتجها أربعة بلدان فقط، وهي تحديداً الولايات المتحدة (مطبعتان حكوميتان) وروسيا (مطبعتان) والهند (أربع مطابع) والصين (ست مطابع).
أما على صعيد الشركات الخاصة فلا يوجد أساساً إلا ثلاث شركات طباعة نقد خاصة ما زالت تقسم السوق العالمية المتاحة وجميعها في أوروبا، “دي لا رو” البريطانية و”جيزيكه أوند ديفرينت” الألمانية و”فرنسوا شارل فيدوسيير” الفرنسية، وهي تستحوذ مجتمعة على حصة سوق تساوي نحو 90 في المئة على رغم وجود فجوات كبيره في ما بينها.
ويجب أن تكون شركات طباعة السندات المالية على أعلى درجة من الأمانة والاستقامة وحسن السمعة، كما ذكرت مجلة سويسرية متخصصة منذ نصف القرن. لكن يبدو في عالم طباعة النقد، أن استعمال كل الحيل مسموح بها لإبعاد المنافسين عن عقد طباعة مغر حتى وإن كان ذلك عن طريق الغدر. فقد استنسخ صانع ورق مؤمن في الولايات المتحدة نسخاً زائفة من الطراز الأولي من الأوراق فئة 100 مارك ألماني في مختبره البحثي، كي يقنع عميلاً تركياً بأنه حتى الورق الألماني المؤمن المستخدم في طبع المارك الألماني بخيطه الأمني الذي يظهر جزء منه من فتحة عند أحد حواف الورقة النقدية، ليس في الحقيقة بمأمن عن التزييف.
وعادة ما يستعر التنافس بين شركات طباعة النقد الخاصة الثلاث المذكورة، لكن في الظروف الصعبة توحد الشركات الثلاثة هذه صفوفها في الميدان ضد المطابع الحكومية.
المواد المستعملة في صناعة النقود
أما مما تصنع الأوراق النقدية؟ تحتوي على 100 في المئة من القطن أو خليط من القطن والكتان بنسبة 25 و75 في المئة على التوالي، فالدولار الأميركي مصنوع من القطن، والأميركيون هم أول من صنعوه من القطن.
وتتكون هذه العملية من ثماني مراحل، وذلك بتحميل 600 رطل من القطن في مرجل ضخم وتطهى بالضغط لمدة ساعتين، بعد ذلك توضع في حوض كبير بحجم حوض السباحة، ثم تنظف وتبيض وتضغط المواد الخام، ومن ثم تعجن في خلاطات ضخمة.
وتعتبر هذه أهم عملية في صناعة ورق النقد الحقيقي للحصول على الملمس الذي قد يصعب تقليده، ولابد أن تصبح العجينة رطبة، عندئذ يقوم اختصاصيون متمرسون بتلوينها بإضافة الألياف اللونية والعلامات المائية الرئيسة. بعدها يتم تجعيد الألياف لتصبح نمطاً سلكياً متشابكاً أثناء عملية التشكيل، ثم يضاف السلاح السري الخاص لوزارة المالية، وهو الميزة التي تميز ورقة النقد ويصعب على أي مزور تقليديها، ألا وهي خيوط الأمانة، وتوجد على كل خيط من هذه الخيوط أرقام مجهرية خاصة بها.
يجفف الورق بعد ذلك باستخدام جهاز تسخين، ثم تتحرك طابعات الورق بدقة لتتخلص من أية رطوبة لتخلق لفائف عرضها ثمانية أقدام ووزن أكثر من أربعة أطنان، وبعد أن تضاف العلامات المائية وخيوط الأمان داخل الورقة، تطبع الصورة النهائية على الورقة النقدية.