حرية – (15/5/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
أصحاب الرؤى السياسية المثالية متهمون بأنهم لا يستشعرون خطورة التنافس بين واشنطن وبكين، فالأخيرة على حد رأيهم لن تغامر مثل روسيا في أوكرانيا بشن حرب مع تايوان، فهي أذكى اقتصادياً من أن تقدم على خطوة كهذه، الحرب بكل بساطة غير منطقية، ويجب أن يعزز كل طرف فهمه للآخر. على النقيض من ذلك، يقول معارضو هذه الرؤية، إن الحرب ممكنة، وعلى أميركا الاستعداد لصراع محتمل مع الصين.
بالنسبة لمعتنقي الواقعية، ربما يبدأ التنافس بين القوى العظمى بحرب باردة أو سلسلة من التصعيدات تنتهي بحرب عالمية. يتساءل المؤرخ الاسكتلندي نيل فيرغسون في مقالة تشخص وضع العالم المترقب لتداعيات الحرب الأوكرانية والتنافس الصيني – الأميركي: “هل يمكن للمرء أن يتخيل البيت الأبيض في المستقبل يتحول إلى قصر دوكالي (مقر حكم جمهورية البندقية البائدة)، ومبنى الكابيتول إلى الكابيتول الروماني، حيث سيجلس مؤرخ في الخراب ويتأمل؟” ويرد بالإيجاب “بكل سهولة، إذا واصلنا الحرب الباردة الثانية إلى حد الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة”.
وبعيداً من اتخاذ المواقف، يمكن توظيف التاريخ لتقديم حجج متنوعة، منها ما تدعم أقاويل أكثر المحللين تشاؤماً، وتظهر على نحو مخيف خطورة التنافس بين القوى العظمى وآثاره المدمرة، وتجعلنا ننظر بحذر إلى حرب الرقائق بين أميركا والصين، والصراع الدائر بينهما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والمناوشات التي لا تنتهي في شأن تايوان.
في طليعة هذه الحجج التي تثبت إلى أي مدى يمكن أن تذهب القوى العظمى في تنافسها هي خطة إلقاء قنبلة نووية فوق سطح القمر التي فكرت أميركا بها في أعقاب إطلاق الاتحاد السوفياتي أول قمر اصطناعي في التاريخ عام 1958.
كانت واشنطن عالقة في ذلك المشهد الذي بدت فيه الريادة في سباق الفضاء لخصمها اللدود، فاتجهت إلى التفكير بخطوات من شأنها تذكير العالم من هي قوته الأولى، ومن الخيارات المطروحة ما كان بوسعها استبدال جملة “اخترنا الذهاب إلى القمر” التي أطلقها الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي مشعلاً التنافس الناعم بين القوتين العظميين، إلى “اخترنا تفجير القمر”.
وبدلاً من هبوط مركبة “أبولو11” الذي جذب أنظار العالم إلى أميركا وأول إنسان يطأ سطح القمر، كان الناس على بعد خطوات أو موافقة عالم من مشاهدة سحابة عملاقة من منازلهم، لو مضت واشنطن في تنفيذ مشروع “A119″، الذي يقترح إلقاء قنبلة نووية على سطح القمر لأغراض بحثية. ومما يظهر جدية الخطة المدفونة وقتها هوية الشخص القائم عليها، وهو ليونارد ريفيل العالم الفيزيائي الراحل الذي شغل منصب نائب مدير برنامج الهبوط على القمر في وكالة ناسا.
دوافع سياسية
حملت الخطة السرية التي أمر سلاح الجو الأميركي من ريفيل تسريع تنفيذها في مايو (أيار) عام 1958 عنوان “دراسة لرحلات الأبحاث القمرية”، وهو عنوان ممل لا يعكس خطورة الإجراء الذي قد تتطلبه هذه الدراسة.
اعتقد البعض أن من بين أهداف التفجير النووي إظهار القوة العسكرية الأميركية، وإخافة الاتحاد السوفياتي، وطمأنة الأميركيين بأن بلادهم في المقدمة. وقال ريفيل نفسه، إن توجيه سلاح الجو أثار ريبته، ودفعه إلى الاعتقاد بوجود دوافع سياسية، موضحاً في حديث صحافي عام 2000، “كان من الواضح أن الهدف الرئيس للتفجير المقترح تمرين العلاقات العامة وإظهار للبراعة، إذ أراد سلاح الجو ترك سحابة نووية ضخمة يمكن رؤيتها من الأرض”.
كتب ريفيل في تقريره لعام 1959 أن إنجاز مثل هذا العمل سيصحبه فوائد علمية وعسكرية، إضافة إلى المنافع السياسية الواضحة. أضاف “من الواضح تماماً أن أهدافاً عسكرية معينة سيتم تحقيقها نظراً إلى أن الخطوة ستوفر معلومات متعلقة ببيئة الفضاء واستشعار تجارب الأجهزة النووية في الفضاء وفي شأن قدرات الأسلحة النووية في حرب الفضاء”.
وعلى رغم توصيته اللاحقة بعدم المضي في الخطة، فإن العالم الفيزيائي كان يرى أن تفجير قنبلة نووية على سطح القمر كان ممكناً من ناحية علمية. وأشار إلى أن الضربة كانت تستوجب استخدام صاروخ باليستي عابر للقارات، الذي كانت أميركا اختبرته في 1959.
اقتضت الخطة تفجير قنبلة ذرية بدلاً من هيدروجينية لأنها أخف من الأخيرة، ووضع ثلاثة أجهزة متطابقة على سطح القمر، لقياس النتائج قبل الانفجار وأثنائه وبعده، بهدف مساعدة العلماء على معرفة مزيد عن تكوين القمر وبيئته وكوكب الأرض.
مفاهيم خطأ
عندما خرج المشروع إلى العلن لأول مرة في أواخر التسعينيات، زعمت التقارير الإخبارية أن القنبلة النووية كانت ستفجر القمر، إلا أن ريفيل أوضح في مقابلة مع “سي أن أن” عام 2012 أن التفجير كان سيكون “مجهرياً”، وأن تداعياته ستقتصر على حفرة غير مرئية من الأرض أو حتى باستخدام التلسكوب.
رغم ذلك، كان احتمال تلويث المواد المشعة للبيئة القمرية البكر سبباً أساسياً لعدم تنفيذ الخطة، إذ حذر تقرير ريفيل من أن تلويث القمر سيمثل كارثة علمية لا مثيل لها، وسيقضي على عديد من المقاربات المثمرة لقضايا من قبيل التاريخ المبكر للنظام الشمسي والتركيب الكيماوي للمادة في الماضي البعيد، وأصل الحياة على الأرض، وإمكانية الحياة خارج كوكب الأرض.
وكان هناك ما يكفي من الغموض حول التداعيات الأخرى التي قد تصحب انفجاراً نووياً في القمر على كوكب الأرض والمخاطر المحتملة لانفجار جهاز نووي قبل الأوان داخل الغلاف الجوي للأرض.
وأوضح ريفيل لرؤسائه أن سير الخطة كما ينبغي لن يكون وحده كافياً لجعل الناس يؤمنون بنجاحها. وكتب في تقريره، “من المؤكد أيضاً أنه ما لم يكن مناخ الرأي العالمي معداً مسبقاً بشكل جيد، فقد ينشأ رد سلبي كبير”.
وأخذاً بهذه الاعتبارات، دفن مشروع “A119″، ولحسن الحظ وجدت أميركا فرصة لإبهار العالم بحدث آخر، عندما هبط أرمسترونغ ورفاقه على سطح القمر.
وليومنا هذا، تتكتم واشنطن على وثائق الحرب الباردة التي تتضمن تفاصيل خطة التفجير النووي في القمر، كما جرى التخلص من كثير من التقارير المكتوبة عنها. ويرفض البنتاغون والقوات الجوية والحكومة باستمرار التعليق عن الخطة.
ليست أميركا وحدها
وعلى رغم أن فكرة إلقاء قنبلة نووية فوق القمر تبدو نادرة، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن الوحيدة التي راودتها تلك الفكرة، فالسوفيات كانوا يطبخون خطة مشابهة، إذ كشف بوريس تشيرتوك مهندس الصواريخ الروسي الشهير، في عام 1999، عن خطط سوفياتية لإطلاق صواريخ نووية على القمر في إطار مشروع E-4، الذي كان مقرراً تنفيذه في صيف عام 1959، إلا أنه ألغي لأسباب متعلقة بالسلامة مشابهة لتلك التي حالت دون انطلاق المشروع الأميركي.
لم تر الخطتان النور، إلا أنهما ستبقيان مثالين على مخاطر المنافسة غير المنضبطة بين القوى العظمى، ففي نهاية المطاف، تراجعت واشنطن عن تنفيذ الخطة بعد أن وجدت أن العالم لن يستحسنها كما ظنت، وتراجع السوفيات عندما اكتشفوا أن وميض الانفجار لن يطول بما يكفي لتصويره، مما يجعله من منظور تسويقي بلا معنى.
ولحسن الحظ أن معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وضعت حداً لنشوء أي خطط من هذا القبيل بحظرها نشر الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى في الفضاء.
وفيما تحمي تلك المعاهدة القمر من نزوات القوى العظمى، فإن الأرض ما زالت أكثر عرضة لعواقبها.