حرية – (25/5/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
تناسى السوريون تباعاً أشياء كانت أقل من البديهيات، بديهيات الضيافة والتسلية التي ارتبطت بطقوس محددة جعلها العرف الاجتماعي عادات متوارثة، كقهوة الصباح مثلاً، لكنّ المشكلة اليوم أنّ سعر الكيلو غرام من البن وصل إلى ما بين 100 ليرة و250 ألفاً بحسب نوعيتها (بين 11 و28 دولاراً أميركياً).
الشاي كذلك تخطى سعر الكيلوغرام منه مئة ألف ليرة سورية، والنسكافيه سجل نوعه المتوسط سعراً بلغ 20 ألف ليرة لكل مئتي غرام، وانضم الخبز السياحي والفواكه، وغيرها الكثير إلى قائمة المحرمات على فئة كبيرة من السوريين الذين صاروا في مأزق ماذا يشربون في يومهم؟ فراحوا يبحثون عن الأشياء الأرخص والأكثر ديمومة كالكمون والزهورات.
“أيّ زمان هذا؟”
بهذه الإجابة تلخص أم فارس (48 عاماً) جوابها عن بدائل المشروبات الاعتيادية في يوميات السوريين، قبل أن تضيف: “زارتني قريبتي قبل أيام في الصباح، وهي زيارات نتبادلها كالمعتاد، ولكنّها حين وصلت شعرت بإحراج شديد ولم أعرف ماذا أقدم لها، لاحظت هي ارتباكي الشديد، فقالت لي: لا عليك، نحن منذ شهر لم نشترِ قهوة، هل لديك زهورات؟”.
وتكمل أم فارس: “هكذا أنقذتني من الإحراج الكبير وهونت عليّ، ولكن هونت في لحظتها فقط، ولأجل موقف واحد، فماذا عن بقية الأيام؟ هل يعقل أن نعجز عن تقديم أساسيات الضيافة ونحن الذين كانت موائد طعامنا تمتد على مساحة الصالون، إلى أين يريدون إيصالنا؟ مرتب زوجي 110 آلاف ليرة (11 دولاراً وبضع)، أي ما يعادل كيلو لبنة وكيلو زعتر وبعض الخضروات، نحن قلصنا وجباتنا اليومية، وهل بعد هذا سنفكر كثيراً بما يحصل؟”.
بدائل القهوة
لا يبدو أنّ المهندسة سلمى زينة (34 عاماً) استطاعت التأقلم مع بدائل القهوة، فهي تحاول مراراً تجريب منتجات أخرى أقل كلفة وأكثر وفرةً لجيبها الذي أثخنته مصاريف الحياة. المهندسة العازبة تدفع جزءاً كبيراً من راتبها للمواصلات، وهي تتقاضى أساساً نحو 120 ألف ليرة كمرتب شهري (12 دولاراً وبضع)، وتؤكد حاجتها الماسة للقهوة دائماً، فالأمر لديها يرتبط بالتركيز ومساعدتها على الاستيقاظ، وما زالت تحت وطأة الظرف الصعب تقاوم وتقنن من دون أن تستغني كلّياً عن القهوة سوى في المنزل.
تقول: “أنا مدمنة قهوة، كنت أستهلك بين كيلو ونصف إلى 2 كيلو قهوة شهرياً، ولكن شيئاً فشيئاً صار سعرها يرتفع حتى تجاوز سعر الكيلو راتبي الشهري، وهنا بدأت عملية التقنين القاسية، والتي دفعت ضريبتها كمدمنة حقيقية، فصرت أعاني مشكلات حقيقية في التركيز”.
وتضيف: “في أحد الأيام شاهدت عبر مقاطع الفيديو على تطبيق فايسبوك طرقاً لصناعة القهوة في المنزل، ثم بحثت عبر يوتيوب بعمق، حتى وصلت إلى طريقة يمكن من خلالها إعداد القهوة منزلياً عن طريق نواة التمر، ونجحت الخلطة معي، صحيح ليست كطعم القهوة تماماً، ولكن كان ذلك حينها أفضل من لا شيء”.
وبسبب جنون أسعار التمور لاحقاً، فقدت سلمى ميزتها تلك في إعداد القهوة منزلياً، ولكن من حسن حظها أنّ الشركة التي تعمل فيها تقدم القهوة مجاناً، وبإمكانها طلبها مرتين يومياً، ورغم ذلك فهي ما زالت بحاجة لشيء تتناوله في المنزل، فما كان أمامها إلّا تجربة المتة التي لم تختبر سابقاً طعمها.
تكمل سلمى: “لم أتقبلها بادئ الأمر، كان طعمها غريباً وغير شهي، ولكن شيئاً فشيئاً تقبلتها ولكن ضمن حدود، وبالمناسبة فإنّ المتة حتى، المشروب المغرق بالشعبية، سعر 200 غرام منه هو 9 آلاف ليرة (دولاراً وبضع)”.
الزهورات في كل وقت
في عائلة الموظف ماجد حيلاني (52 عاماً) اتجه الجميع لتناول الزهورات بديلاً من كلّ ما كان سابقاً يؤنس جلساتهم خلال النهار، “كنا نشرب الزهورات فقط حين نمرض، الآن نشرب صباحاً الكمون مثلاً، أو الزعتر البري، أو البابونج، وغيرها، وفي الظهيرة نتناول زهورات شامية، وفي المساء يانسونَ أو نعنعاً، وكل تلك الأعشاب رخيصة الثمن، وأحياناً نخلط بعضاً منها في كأس صغيرة ونضع فيه مصاصة مع ماء ساخن كمثل تناول المتة ونشرب، أليس هذا التطور أفضل لصحتنا؟ لولا قلق مسؤولينا على صحتنا لما دفعونا بالغصب للاستعاضة بالزهورات عن كل شيء، تخيل أنّك تشرب زوفا في الصباح مع الإفطار بدلاً من الشاي؟!”.
حتى المياه مشكلة
تقارب أم زياد (57 عاماً) وهي ربّة منزل تقطن في مدينة جرمانا في ريف دمشق الموضوع من زاوية أكثر خصوصية، فسكان ريف دمشق مضطرون لشراء مياه الشرب باعتبار أنّ المياه التي تصل إلى مدنهم وبلداتهم غير صالحة للشرب، فيشترون تقديرياً كل 20 ليتر مياه بألف ليرة سورية، ويكاد الرقم لا يعني شيئاً في سياق المصروفات الحياتية، ولكنّ مجموعه يبدو مؤرقاً، فأم زياد وعائلتها تحتاجان عبوة مياه 20 ليتراً كل يومين، أي 15 ألف ليرة (أقل من دولارين بقليل) شهرياً ثمناً للمياه، وهو ما يشكل خمس راتب الموظف تقريباً، يزيد أو ينقص قليلاً.
تقول أم زياد: “هل تصدق أنّ راتب زوجي ينتهي تماماً في اليوم الذي يقبضه، ولولا عمل ولدي راتب وجميل أيضاً لكان وضعنا أسوأ بألف مرة، وكل ذلك بالكاد يكفي المصاريف الأساسية مع التقنين الأقسى في استخدام كل شيء، فبعد ذلك هل تريد أن أخبرك لماذا ليس في منزلنا المشروبات الأساسية؟ ليس ذلك فحسب، فنحن آخر مرة شربنا مشروبات غازية كانت قبل عامين ربما”.
“لا نعيش لنأكل”
ضرب الغلاء العلاقات الاجتماعية في صميمها، وخسرت طاولات السوريين يوماً بعد آخر صنفاً جديداً ما كانت أسوأ السيناريوات تتوقع خسارته.
فحين نقول إن سعر كيلو القهوة يعادل راتب موظف شهرياً، فهذا يعني أن ثمة خللاً بنيوياً ضرب المجتمع من جذوره، وأحال معه عادات اليوم والضيافة إلى أشياء تثقل الكاهل في مدن ما كان أحد ينام فيها جائعاً يوم كان الخير يفيض من عتبات منازلها.
والقصة هنا ليست بالبخل، ولكن بالواقع الذي جعل السوري في رحلة بحث لا تنتهي عن مصادر رزق تؤمن له استمراره في الحياة، ورغم أن أمر فقدان المشروبات من المنازل قد يبدو عادياً، إلا أنه يحمل في نفوس الناس غصة تسأل عن فرج يتمنون تماشيه مع ما يحصل من تطورات إقليمية ودولية.
ثمة مقولةٌ للطبيب اليوناني أبقراط الذي عاش قبل الميلاد يقول فيها: “إنما نأكل لنعيش، لا نعيش لنأكل”، اقتنع السوريون تمام القناعة بهذه المقولة، ولكنّ تنفيذها يصبح أصعب مع مرور الوقت، الوقت الذي ينحت في أجسادهم، ولكن يبقى لدى كثر أمل يتطلع نحو أيام تجيء لتمحو معها سنواتهم الصعبة تلك.