حرية – (28/5/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
قبل مئة عام، رُزقت أسرة يهودية في ألمانيا بطفل، وبمجرد بلوغه سن الخامسة عشر وتحديدًا عام 1938، هربت الأسرة بالكامل إلى الولايات المتحدة خوفا من الممارسات النازية، ليبدأ المراهق فصلًا جديدًا في حياته وصار واحدًا من أهم الدبلوماسيين في الولايات المتحدة.
هنري ألفريد كيسنجر، بات مواطنًا أميركيًا بعد خمس سنوات من وصوله إلى الولايات المتحدة، وبعد عقود من العمل الدبلوماسي، لا يتوقف التاريخ عن مطاردة كيسنجر، بعد دور محوري في رسم السياسة الخارجية الأميركية حول العالم.
كانت حياة كيسنجر مادة خصبة للمؤرخين والمحللين والكتاب والدراسات النفسية، ونال إشادات توجت بجائزة نوبل للسلام عام 1973 بسبب جهوده لوقف إطلاق النار في فيتنام، لكن هناك من يعتبرونه مسؤولا عن إزهاق مئات الآلاف من الأرواح.
الرجل المولود في ألمانيا يوم 27 مايو 1923، باتت كتبه وسياسته مرجعًا للدبلوماسيين في الولايات المتحدة، وترك أثره في أغلب من شغلوا مناصب رسمية في الخارجية الأميركية لسنوات طويلة، سواء بتدريسه في جامعة هارفارد أو عبر أفكاره وسياساته المتجذرة إلى الآن.
عاصر كيسنجر عقودًا من الحروب والتقلبات والتغيرات في الأنظمة وسياسات الدول وخرائطها أيضًا، وربما يكون له دور في أغلب تلك الأزمات سواء بشكل مباشر أم عبر إرثه، الذي رغم الخلاف بشأن الرأي النهائي فيه، إلا أن تأثيره يبقى كبيرًا.
متمسك بقراراته
أجرى كسينجر مؤخرًا حوارًا مع شبكة “سي بي إس” الأميركية، وحينما سأله المذيع عن رد فعله نحو الكثير من التساؤلات من البعض عن “مشروعية” إجراء مثل هذا اللقاء، فرد كيسنجر “يعكس ذلك جهلهم”.
وحينما تطرق إلى قصف كمبوديا إبان حكم الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، قال كيسنجر: “لقد قصفنا بالمسيرات وكل أنواع الأسلحة جميع التنظيمات التي نعارضها وتنتهج نظام حرب العصابات”، في إشارة إلى الإدارات الأميركية التي تلته.
وتابع الدبلوماسي المخضرم: “هذا اللقاء الآن يدور حول أنني سأتم 100 سنة. وتختار موضوعًا يعود إلى 60 عامًا مضت. يجب أن تدرك أنها كانت خطوة ضرورية”.
خدم كيسنجر في الجيش والتحق بجامعة هارفارد، ودرّس هناك، ثم تولى منصب مستشار الحكومة الأميركية للسياسة الخارجية، وفي عام 1969، عيّنه الرئيس نيكسون مستشارًا للأمن القومي، ليخطط حينها لزيارتين لا مثيل لهما إلى الصين والاتحاد السوفيتي عام 1972.
حاولت واشنطن بالزيارتين نزع فتيل التوترات مع الدولتين الشيوعتين. وفي العام التالي، بات كيسنجر أول أميركي وُلد خارج الولايات المتحدة، يتولى منصب وزير الخارجية، واستمر في المنصب حتى بعد استقالة نيكسون، وقدوم جيرالد فورد.
ظل على مدار حياته المهنية يكتب ويحاضر في الشؤون الخارجية، وعلى الرغم من أنه لا يتولى أي منصب حكومي منذ نحو 25 عامًا،فإنه استمر قادرا على إثارة الجدل بكلماته، وآخرها حديثه بشأن أزمة أوكرانيا وضرورة منحها أراض لروسيا من أجل وقف الحرب، قبل أن يتراجع عن حديثه.
إرث كيسنجر
خلّف الدبلوماسي والأكاديمي جدلا لا يتوقف بشأن نجاح أو إخفاق أو حتى الجانب الإخلاقي بشأن إرثه في الدبلوماسية الأميركية.
يقول الباحث في الشؤون الأميركية، محمد المنشاوي، إن كيسنجر شخصية فريدة في التاريخ الأميركي، وقد هيمن على صنع السياسة الخارجية للبلاد لفترة طويلة، مضيفًا أن بلوغه هذا التأثير والمناصب الرسمية والأكاديمية في ظل لكنته الألمانية التي لم يتخلص منها “معجزة بالمعايير الأميركية”.
وأضاف في حديثه لموقع “الحرة” أنه لا يوجد من لم يتأثر به في السياسة الخارجية الأميركية، مضيفًا “لا يوجد أي شخص إلا وتأثر به” في إشارة إلى الرؤساء ووزراء الخارجية على مدار العقود الأخيرة في الولايات المتحدة.
تعد هيلاري كلينتون من أبرز وزراء الخارجية الأميركيين المقربين من كيسنجر، وطالما أكدت على تواصلها معه بشكل مستمر خلال توليها المنصب وأنه كان يزودها بملاحظات بشأن زعماء وقادة العالم.
وأوضحت إبان ترشحها للانتخابات التي خسرتها ضد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2016، أنها كانت في غاية السعادة حينما أبلغها كيسنجر أنها أفضل وزيرة خارجية شغلت المنصب منذ سنوات طويلة.
أعاد كيسنجر العلاقات مع الصين في السبعينيات بعد زيارة سرية عام 1971 مهدت الطريق لأخرى تاريخية للرئيس نيكسون في العام التالي، وفي حواره مع “سي بي إس”، نفى كيسنجر فكرة أنه كان من الأفضل ألا تتم تلك الخطوة وقال “لا يمكن استبعاد الصين من النظام العالمي”.
لعب دورًا كبيرًا أيضًا في اتفاق الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على إبطاء سباق التسلح النووي والحد من النزاعات وتجنب اندلاع حرب نووية، كما تمكنت واشنطن بسياساته من اتخاذ قرار الخروج من فيتنام التي تكبدت فيها خسائر فادحة، في صراع غير مباشر مع موسكو آنذاك.
لكن المحللة الأميركية، إيرينا تسوكرمان، ترى في حديثها لموقع “الحرة” أن سياسات كيسنجر كانت مدمرة وتسببت في أزمات على المدى البعيد.
وقالت إن دبلوماسية كيسنجر بشأن الصين وروسيا ووضع ثقته في الدولتين، لم تؤد إلى حل النزاعات وإنهاء المخاوف منهما وإقامة دولة قانون وحماية حقوق الإنسان.
وأضافت أن سياسته مع الدولتين كانت “مدمرة أكثر منها بناءة، وتسببت في صعود الصين دون احتواء أو تقليص أيدولوجيتها المهيمنة أو معاملتها التعسفية لمواطنيها.. دبلوماسيته كانت قصيرة المدى ولم تعالج المشكلات، بل أخفتها فقط، وتسببت في المزيد من التوترات التي نراها اليوم”.
كما أوضحت أن ذلك حدث مع روسيا أيضًا، حيث أن التقرب منها واسترضائها لم يأت بنتيجة، حيث تمثل تهديدًا وغزت أوكرانيا العام الماضي.
“لا للمثاليات”
استخدم كيسنجر في سياساته قوة الولايات المتحدة وقدرتها على إحداث ما يعتبره توازن، وتجاوز عن أمور أخرى مثل حقوق الإنسان والمثالية في التعامل مع الأزمات، ما جعل البعض يعتبره مسؤولا عن قائع مثل قصف كمبوديا ودعم أنظمة استبدادية مما أسفر عبر سنوات عن سقوط الآلاف من القتلى.
وبالفعل فقد واجه انتقادات قوية من اليسار التقدمي في الولايات المتحدة، وعلى رأسه بيرني ساندرز.
وكان ساندرز قد انتقد بشدة، فخر هيلاري كلينتون بعلاقتها المقربة مع كيسنجر، وقال إن الأخير “من بين أكثر وزراء الخارجية تدميرا في التاريخ الحديث في هذه الدولة”.
وتابع “فخور لأن هنري كيسنجر ليس صديقي. لن أحصل على نصيحة منه”، مشيرًا إلى تورطه في قصف كمبوديا، الذي يعتبره البعض بمثابة إبادة جماعية.
وقال المنشاوي، إن كيسنجر طالما سعى لتحقيق المصلحة الأميركية، ولكن بأسلوب “الواقعية المتطرفة، وأسس لمدرسة في السياسة الخارجية لا تهتم بالمثاليات”.
كيسنجر جديد؟
ويمكن اعتبار كيسنجر مهندس عملية السلام بين مصر وإسرائيل التي أنهت الحرب بينهما وكانت أول إسكات نهائي لجبهة عربية تحارب الدولة العبرية، وساهم في تحوّل مصر بشكل تام من الأحضان السوفيتية إلى الجانب الأميركي وذلك باتصالاته الواسعة مع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات.
وقال المنشاوي إن كيسنجر “ساهم بشكل كبير فيما نشاهده اليوم وصنع بذرة العلاقات العربية الإسرائيلية، فكان من مهد لزيارة السادات لإسرائيل”.
وأوضح أنه في الوقت الحالي تحتاج الإدارة الأميركية إلى من يشبه كيسنجر لإنهاء عديد من الصراعات الدائرة، “فهم لا يدركون التعقيدات وخطورة ما يحدث وسرعة تطور الأحداث.. من السهل بدء حرب لكن من الصعب إنهاء واحدة”.
بينما وصفت تسوكرمان، إرث كيسنجر بأنه “خاطئ بدرجة كبيرة، وساهم في موجة التوترات الموجودة حاليًا، وتابع نريد دبلوماسيين برؤية مختلفة يمكنهم العمل بطريقة برجماتية، ويدركون التبعات الأمنية والإنسانية والاقتصادية لاسترضاء أو التعامل أو التسامح مع أنظمة شمولية أو انفصالية أو جهات فاعلة لا تنصاع لحكومة بعينها”.
فيما أنهى، المنشاوي، حديثه بالقول إن النجاح الأهم لكيسنجر كان إنهاء حرب فيتنام، فقد أدرك آنذاك “أن أميركا مهزومة ويجب أن تغادر”.