حرية – (1/6/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
يعتبر هنري لاندرو (Henri Landru) أشرس قاتل متسلسل في تاريخ فرنسا الحديث، وهو المعروف بلقب “اللحية الزرقاء” الذي اتخذ من أرامل باريس هدفاً لجرائمه، مستغلاً وحدتهن وحزنهن عقب خسارة أزواجهن في الحرب العالمية الأولى.
ورغم الاشتباه باستدراجه لـ283 أرملة، وارتباطه باختفاء نسبة كبيرة منهن، إلا أن هنري لاندرو أُدين بـ11 جريمة قتل فقط. فقد عجزت الشرطة عن العثور على جثث ضحاياه، واقتصرت الأدلة الجنائية على بقايا عظام دُفنت تحت ورق الشجر، وقماش محروق.
بقي لاندرو مصراً على براءته حتى لحظة إعدامه، ساخراً من القاضي وأهالي الضحايا داخل قاعة المحاكمة، قائلاً: “أسفي الوحيد أني أملك رأساً واحداً لأقدّمه”.
فمن هو هنري لاندرو؟
وُلد هنري ديزيري لاندرو يوم 12 أبريل/نيسان 1869 في العاصمة الفرنسية باريس. وقد عاش طفولة سعيدة، وسط عائلة مكوّنة من: والده الذي كان يعمل سائقاً، ووالدته الخياطة، وشقيقته الكبرى.
وخلال فترة تعليمه الابتدائي، كان لاندرو ذلك التلميذ النجيب، خصوصاً حين برزت موهبته في مادتَي الرسم والرياضيات.
منذ صغره، أبدى لاندرو ميلاً نحو التدين بعدما أمضى فترةً طويلة في خدمة مذبح كنيسة “سان لويس أون نيل”بنهر السين-باريس، حيث استقرت عائلته. كما كان يعمل في بعض الأحيان شماساً ثانوياً، ففكر والداه بإدخاله إلى المدرسة اللاهوتية.
لم يدخل هنري لاندرو المدرسة اللاهوتية، بل واصل تعليمه الثانوي بشكلٍ عادي، لكنه فشل في إكمال دراسته العليا بكلية الهندسة المعمارية. وعند دخوله سوق العمل سنة 1889، اكتفى بشغل منصب رسامٍ معماري لدى مكاتب الهندسة في باريس.
في العام نفسه، تعرّف هنري ديزيري لاندرو على ماري كاترين ريمي التي أجّل الزواج منها حتى نهاية خدمته العسكرية، بعد 3 سنوات، قضاها ضمن صفوف الكتيبة 87 لقوات المشاة في شمال فرنسا، حيث تخرّج منها برتبة رقيب.
وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول 1893، تزوج رسمياً؛ وتنقل لغاية العام 1900 بين مهن مختلفة، مثل: محاسب، وموظف تجاري، ورسّام خرائط، وغيرها. فقد غيّر مكان عمله حوالي 15 مرة.
خلال تلك الفترة كَبُرت عائلته الصغيرة، وصار لديه 4 أولاد؛ صبيان وفتاتان؛ وبدلاً من تحسين ظروف عمله، لتغطية مصاريف العائلة، لجأ هنري لاندرو إلى الربح السريع من خلال التحايل على الناس.
من عمليات احتيالية صغيرة إلى قاتل متسلسل؟
كان بحاجةٍ إلى الربح السريع، ففكر بتأسيس ورشة وهمية لصناعة دراجات تعمل على البترول. ولهذا الغرض، نظم حملة إعلانية كبيرة تشترط أن يكون الطلب مصحوباً بمبلغٍ مالي يمثل ثلث السعر المُحدد للدراجة.
تدفقت عليه الطلبات من كلّ أرجاء فرنسا، وذلك من دون أن يصنع دراجة واحدة، ثم جمع الأموال التي حصل عليها من الناس وتوارى عن الأنظار.
تلك العملية كانت بداية سلسلة طويلة من الأعمال الاحتيالية، استعمل خلالها هنري لاندرو أسماء مستعارة مختلفة، ولكنها كلّفته السجن لمدة سنتين من 1904 إلى 1906، ثم لـ13 شهراً بداية من 1906.
رغم أنه كان متزوجاً ومحكوماً عليه غيابياً بـ3 سنوات سجن نافذة، احتفل هنري لاندرو عام 1909 بخطوبته من امرأة تُدعى جان إيزوري، تعرّف إليها من خلال إعلان عرض زواج، ثم أقنعها بالتخلي عن أملاكها لصالحه قبل أن يختفي من دون أثر.
حُكم عليه غيابياً في هذه القضية، بالسجن 4 أعوام مع ترحيله إلى غويانا، إحدى المستعمرات الفرنسية في أمريكا الجنوبية، حيث كانت ظروف الحبس فيها مُروعة.
كان ذلك في العام 1914، وما كان على لاندرو سوى الاختفاء تماماً وتغيير شكله بصورةٍ واضحة، تاركاً شاربه ولحيته ينموان بشكلٍ كثيف، في محاولةٍ لإخفاء تقاسيم وجهه الحقيقية.
ولكي يضمن استمرار الحصول على مداخيل مالية، واصل عملياته الاحتيالية، ولكن هذه المرة بأسلوبٍ أكثر عنفاً وفظاعة. فقد تظاهر بأنه أرملٌ وغني ويعيش وحيداً، وعمل على إغراء الأرامل اللواتي يملكن بعض المدخرات، ويعشن حياةً شبه معزولة عن محيطهن.
وقد ساهمت الحرب العالمية الأولى بتعزيز حظوظ هنري لاندرو في “اصطياد فرائسه”، مع ازدياد عدد الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن. فكان يستعمل الخطة نفسها: يعدهن بالزواج أولاً، ثم يدعوهن إلى الإقامة معه في فيلا شبه معزولة يستأجرها لتنفيذ خطته.
ووفقاً لصحيفة Sud Ouest، فإن أولى جرائم هنري لاندرو حدثت في ديسمبر/كانون الأول 1914، عندما قتل الأرملة جان كوشيت (39 سنة) وابنها الصغير، بعد أن تعرّف إليها في حديقة “لوكسوبورغ” الباريسية.
وتوالت الجرائم التي ارتكبها فيما بعد والتي حوّلته إلى قاتل متسلسل يصطاد الأرامل حصراً، فقتل على التوالي كلّاً من: الأرملة تيريزي لابورد لين (46 سنة)، وديزيري غولين (52 سنة).
وبفضل فصاحته وقدرته الكبيرة في الإقناع، فقد نجح لاندرو بالحصول على توكيلات حصرية باسمه من أجل التصرف بحساباتهن المصرفية، قبل أن يقتلهن ويتخلص من جثثهن، عبر حرقها بالفرن الذي يملكه في الفيلا المستأجرة.
ضحايا هنري لاندرو الأخريات تعرّف إليهن من خلال إعلانات طلب الزواج المنشورة في الجرائد اليومية. ووسط كل ذلك، كان يعود من وقتٍ لآخر إلى زوجته وأطفاله الذين كانوا يعتقدون أنه يعمل كتاجرٍ متنقل.
رسالتان متشابهتان أثارتا شكوك العُمدة
بعد 4 سنوات من التخفي والاحتيال، تم رصد أثار هنري لاندرو مع نهاية العام 1918، حين تلقى عمدة بلدة “غامبيس” الباريسية رسالة من سيدة تُدعى “بيلات”، تطلب فيها منه أخباراً عن صديقتها آنا كولومب؛ وهي أرملة (44 عاماً) مخطوبة للسيد دوبون وتعيش معه في غامبيس.
وبعد مرور بعض الوقت، تلقى العمدة رسالة أخرى من سيدة تُدعى “لاكوست”، طلبت فيها منه أخباراً عن شقيقتها سيليستين بويسون؛ وهي أرملة (44 عاماً) استقرت أيضاً في غامبيس، رفقة السيد فريميت.
التشابه الكبير في مضمون الرسالتين أثار شكوك العمدة، الذي وضع العائلتين على اتصالٍ مشترك، فأدركتا أن دوبونت وفريميت قد يكونان الشخص نفسه، خصوصاً أن المختفى أثرهما استجابتا لإعلاني زواج نُشرا في العام 1915 بجريدتين مختلفتين.
ما جعل الأسرتين تتعاونان على تقديم شكوى ضدّ مجهول، إلى مكتب المدعي العام لمقاطعة “السين”. وقد توصل التحقيق الذي أجراه المفتش جول بيلين إلى إثبات أن الفيلا ملك السيد تريك، الذي أجّرها إلى السيد فريميت، المقيم في مدينة روان.
لم يتم العثور على السيد فريميت (أو دوبون) في روان، ولكن لوحظ أن بريده كان يُعاد إرساله إلى سيد يُدعى “غيلات” مُقيم بشارع “نيفي” الباريسي، وهو عنوان السيدة سيليستين بويسون المختفية.
كانت الأمور واضحة ولم يتبقَّ سوى العثور على المُشتبه به، وإلقاء القبض عليه. لكن التحقيق كان يسير ببطءٍ إلى أن طرأ أمرٌ هام حرّك القضية من جديد.
ففي يوم 8 أبريل/نيسان 1919، تعرفت إحدى جارات الآنسة لاكوست (شقيقة سيليستين المختفية) على الرجل الغريب الذي شاهدته من قبل مع سيليستين، ولكنه كان هذه المرة رفقة امرأة أخرى خارجاً من متجر لبيع الفخار في أحد شوارع باريس.
وبعد إخطار المفتش جول بيلين بالأمر، تمكن من تحديد مكان المشتبه به واعتقاله داخل منزله يوم 12 أبريل/نيسان.
كان هنري لاندرو يتجول حينها باسم “لوسيان جيليت”، لكن سرعان ما تعرفت الشرطة على هويته الحقيقية، بعدما وجدت في منزله شهادة علمية باسمه الحقيقي، إضافةً إلى دفتر صغير كُتب فيه 11 اسماً؛ بما في ذلك اسمي المفقودتين.
“بريء مثل الحمل الذي وُلد للتو” !
مع مرور الوقت وتقدّم التحقيقات، ظهرت أساليب هنري لاندرو المروعة في التعامل مع ضحاياه، بعدما تأكد المحققون أنه أحرق جثث السيدات حين اكتشفوا أكثر من 4 كلغ من العظام المُتفحمة داخل الفيلا التي كان يستأجرها؛ كما اكتشفوا أيضاً بقايا آثار ضحاياه (من دبابيس، ومشد الملابس، وأزرار محترقة جزئياً).
بدأت محاكمة هنري لاندرو يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1921، في مدينة فرساي؛ وبحسب موقع GEO، فإنّ تلك المحاكمة أثارت اهتمام الفرنسيين بعدما ركزت عليها الصحافة بإسهاب، منذ إلقاء القبض عليه.
استمرت محاكمة لاندرو 3 أسابيع من دون أن يعترف بارتكابه جرائم القتل المُتهم فيها. وفي 1 ديسمبر/كانون الأول 1921، أُدين بقتل 10 نساء وطفل، وحُكم عليه بالإعدام بالمقصلة، وقد نُفّذ الحكم في 25 فبراير/ شباط 1922، بالساحة المقابلة لسجن فرساي.
رغم ذلك؛ لقي هنري لاندرو استحسان بعض الصحف، حتى إن إحدى الجرائد كتبت عنه: “عند سماعه يدافع عن نفسه، يبدو لاندرو بريئاً مثل الحمل الذي وُلد للتو”. وادعت صحف أخرى أن القضية قد تكون من اختراع الحكومة الفرنسية، لإشغال الشعب عن محادثات السلام التي أجرتها عام 1919.
في كتابه Landru’s Secret، يطلعنا الكاتب البريطاني ريتشارد توملينسون عن تفاصيل بقيت طي الكتمان لعقود عدة في قضية هنري لاندرو، ويكشف للمرة الأولى عن إجرام قاتل متسلسل “كاره النساء” بحسب وصفه.
كما يُشير في كتابه -الذي صدر عام 2018- إلى القاضي الذي استهان بخطيبات لاندرو المغدورات، واصفاً إياهن بـ”الساذجات والضعيفات والغبيات”، ويتحدث عن إصرار أهالي الضحايا وصمودهم حتى إرسال القاتل إلى المقصلة.
الكتاب الذي صدر بعد مُضي أكثر من قرن على تنفيذ هنري لاندرو أولى جرائمه، يرصد نظرة المجتمع حينها للنساء، ومحاولته لتحميل الضحايا مسؤولية ما وقع عليهن من عنف وظلم.
وقد اعتمد مؤلف الكتاب على أكثر من 5 آلاف صفحة من وثائق القضية الأصلية، بما فيها إفادات الشهود وتقارير الشرطة والمراسلات الخاصة، ليكشف لأول مرة كيف قتل لاندرو ضحاياه.