حرية – (3/7/2023)
اشترك في قناة حرية الاخبارية على التيليكًرام ليصلك كل جديد
زينت جدران صالونات الحلاقة في المشرق العربي منذ أربعينيات القرن الـ 20 صور فوتوغرافية لأبطال الأفلام السينمائية من العرب والأجانب، وكانت الموضة حينها تركز على شارب الرجل بتسريحات مختلفة لكل واحدة منها دلالة معينة، وكان شارب الممثل المصري أنور وجدي أحد أشهر الشوارب السينمائية، ورافقه في البوسترات الممثلان عماد حمدي ورشدي أباظة، وبرزت أيضاً صورة الممثل الأميركي روبرت تايلر الذي كان يعد أيقونة الرجل الوسيم حينها، واشتهر شاربا كلارك غيبل، وشاع بعد فيلم “ذهب مع الريح”.
تمكن الشارب من تحقيق فترات ذهبية عبر مراحل التاريخ مستقلاً عن سطوة شعر الذقن الذي لطالما كان مهيمناً كرمز للرجولة والقوة عبر التاريخ، وتزينت وجوه الرجال في مراحل مختلفة انطلاقاً من الحضارتين الصينية والهندية إلى حضارات أوروبا الشمالية لدى الـ”فايكنغز” والغال، المشهور منها شاربا شخصيتي الكرتون الفرنسيتين الشهيرتين “أستريكيس” و”أوبيليكس”.
وفي العالم اليوم مهرجانات ومؤتمرات لالتقاء أصحاب الشوارب، وتقام مسابقات لأطول شارب في العالم أو لأجمل تصفيفة شارب، يشارك فيها آلاف الجنسيات المختلفة.
البعض يتبارى في العناية بشاربه ولحيته ويتنافس بهما في المهرجانات
أخذ الشارب أشكالاً كثيرة عبر التاريخ، ومنها لا يزال معروفاً حتى الآن بسبب شهرة صاحبه مثل الشارب الهتلري الذي يتوسط الشفة العليا تحت الأنف، على رغم أن تصميمه لا يختص بهتلر وحده، بل اشتهر به تشارلي شابلن وكان موضة خلال ثلاثينيات القرن الـ 20 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتشر أيضاً في العالم العربي واشتهر به عدد من الزعماء العرب في تلك الفترة في العراق وبلاد الشام ومصر، إلا أن وحشية هتلر الفائقة هي التي نسبت هذا الشارب إليه.
شوارب الشرف والكرامة والرجولة
وفي العالم العربي وفي بعض الثقافات الشعبية في بلاد الشام تحديداً فمن يضع يده على شاربه ويقسم على أمر ما، فإن ذلك يعزز صدقه على اعتبار أن الشارب علامة الشرف والكرامة والكبرياء، وكانت شعرة واحدة من شارب أحد مزارعي دودة القز في جبل لبنان إبان القرن الـ 18، بمثابة صكوك في تعاملاتهم مع التجار في دير القمر ومرفأ بيروت، يتركونها لدى التاجر من عام إلى آخر حين يعودون ويسددون قروضهم بعد أن يبيعوا حريرهم، وكذلك كان يفعل مزارعو التبغ في جنوب لبنان وفي البقاع الشمالي مع تجار شركة “ريجي” الفرنسية.
هذه الروايات تؤكدها الأمثال الشعبية المعروفة في بلاد المشرق العربي ومصر والعراق وفي دول المغرب العربي، ففي الأمثال الشعبية المئات التي تتناول الشارب إما للتذكير بعلاقته بالرجولة أو للحط من قيمة صاحبه الذي لا يستحقه.
وفي فترات مختلفة كان الشارب يختص بالفرسان في أوروبا الوسطى، حتى إن رواية “الفرسان الثلاثة” الفرنسية صورت أبطالها بشوارب حادة مثل السيف.
وفي بعض الثقافات كان يعاقب الرجل بقص شاربه في حال خالف القانون العام أو قانون الشرف الذي يعقد بين العائلات النبيلة، وفقط الرجل الذي يتصرف بشرف كان يحق له الاحتفاظ بشاربه منذ أواسط القرن الـ 15 وحتى الحرب العالمية الأولى، وكانت شوارب أبناء العم الثلاثة، إمبراطور روسيا وإمبراطور النمسا وإمبراطور إنجلترا، شواهد على تلك الفترة.
وفي العصر الحديث يشتهر شارب قناع قراصنة الإنترنت “أنونيموس” الشبيه بشارب فرسان القرون الوسطى الأوروبيين، وقد بات هذا الشارب جزءاً أساساً من القناع الشهير منذ أواخر القرن الـ 20 حتى اليوم كدليل على الاعتراض على النظام السياسي والاجتماعي العالمي.
وفي العقد الأخير عادت موضة إطلاق الشارب واللحية، وأدت أعوام الإغلاق إبان تفشي فيروس كورونا إلى ظهور مسابقات على شبكة الإنترنت للشارب المثال، واشتهر ممثلون أجانب وأتراك وعرب ولاعبو كرة قدم بشواربهم أو بلحاهم خلال تلك الفترة.
وخلال القرنين الـ 18 والـ 19 كانت القوات الفرنسية تفرض على الجنود تصميماً معيناً للشارب، وكانت قوات النخبة معروفة بالشوارب الكبيرة والمشذبة، وفرض على رجال الدرك الاحتفاظ بشارب حتى عام 1933 في فرنسا، واليوم إذا كنت شرطياً في الهند فستحصل على أجر أعلى إذا كان لديك شارب، لأنه على ما يبدو ينظر إلى الشرطي مع الشارب إلى أنه أكثر شراسة أو رجولة، كما فرض الجيش البريطاني أيضاً الشوارب كجزء من الزي الرسمي منذ عام 1860 وحتى 1916.
شوارب الشرق الأوسط
الرجال العرب والشرق أوسطيون مشهورون بشواربهم السميكة والمنمقة، وخلال العهد العثماني الذي امتد لخمسة قرون باتت الشوارب جزءاً من الوجه، وتختلف تسريحاتها بحسب الألقاب الاجتماعية من الباشا إلى البيك والأفندي وغيرها، وكذلك تختلف بحسب الرتب العسكرية في الجيش العثماني، وانتشر إطلاق الشوارب من دون اللحية طوال الفترة العثمانية.
وفي العراق كان الحديث عن شارب صدام حسين الفحمي اللون والشديد الكثافة مثالاً لشوارب الأمة العراقية الراضية بحكم حزب البعث وقائده الأبدي، وكان جميع أركان الحكم الصدامي والموظفون الحكوميون يتشبهون بالقائد الأول في إطلاق شواربهم وفي تسريحته.
تقام مسابقات لاختيار أطول شارب
قائد الانتفاضة الفلسطينية ياسر عرفات اشتهر بشاربه الكث الذي رافق وجهه بشكل دائم كما الكوفية وإشارة النصر أو السلام التي كان يرفعها بإصبعيه، فالشارب شارة الرجولة والتصميم والإخلاص للقضية، وهو اتباع لتقليد مشرقي في كون الشوارب مصدر لاحترام صاحبها.
وعلى عكس سائر ثوار العالم إبان الحرب الباردة الذين أهملوا لحاهم بفوضوية، فقد قلد أبو عمار كثيراً من مناضلي العالم الثالث، بخاصة من تيار اليسار، في رفع شارته وإطلاق شواربهم الكثة.
ويقول الأستاذ المشارك في الطب النفسي وطب الأسرة في جامعة تورنتو الدكتور آلان بيتركين الذي أصدر كتاباً بعنوان (الشارب: تاريخ ثقافي) في موقع (newrepublic.com)، “لن تفر من أمام الشوارب في أي مكان في الشرق الأوسط، ففي تركيا يشير شاربك وسمكه إلى ميولك السياسية، وهي قاعدة معروفة”.
وفي تركيا تدل الشوارب ذات الجوانب المتدلية على ميل قومي محافظ، ويفضل اليساريون شوارب ستالين بينما يختلف الإسلاميون في تصاميم شواربهم، فمنهم من يمثلهم الرئيس رجب طيب أردوغان وكل الفريق العامل معه بشواربهم الكثة والبارزة في الوجوه، ومنهم من يحفون شواربهم مع ترك ذقونهم كتقليد للسنّة النبوية، وهؤلاء من المتشددين.
وخلال العقود الماضية كان يحظر على الموظفين الأتراك وفي معظم الدول العربية إطلاق لحاهم لأنها قد تعبر عن انتماء سياسي معين، إلا أن دولاً كثيرة باتت تسمح حالياً لموظفيها بترك شواربهم ولحاهم احتراماً للحرية الشخصية.