حرية – (20/8/2023)
هل دخل العالم نقطة تحول جديدة بعد اللقاء الثلاثي الذي جمع قادة الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية في منتجع الرؤساء الأميركيين الشهير “كامب ديفيد” بولاية ماريلاند الأيام القليلة الماضية؟
يبدو أن الرئيس الأميركي جو بايدن على قناعة تامة بأن العالم قد بلغ بالفعل وضعاً متأزماً، الأمر الذي يستدعي نوعاً جديداً من أنواع التعاون الأمني، يتعاون فيه الحلفاء على الصعيد الأمني، ويتشاطرون المعلومات، ويعتمدون نوعاً غير مسبوق من التدريبات المشتركة.
يتساءل المراقبون: هل هذا التحول هو بداية ولادة لحلف جديد، ضمن سياق الأحلاف السياسية الدولية بدأ من عند تحالف “أوكوس” بين أميركا وأستراليا وبريطانيا، ثم تحالف “كواد” الذي يجمع أميركا واليابان وأستراليا والهند؟
ربما يكون الهدف كما يذهب كثير من المراقبين هو بلورة ما يطلق عليه “الناتو الآسيوي”، الذي يستهدف في الحال والاستقبال مواجهة بيونغ يانغ وصواريخها التي تهدد نقاط الارتكاز الغربية حول العالم صباح مساء كل يوم من جهة، ثم حصار الصين، القطب القادم حكماً، ومن غير أن يغفل المرء مجابهة روسيا صاحبة المعركة القائمة مع أوكرانيا.
هل يعني ذلك أن “الناتو” بصورته الحالية في حاجة إلى توسعات جديدة تتسق والمتغيرات الحادثة بسرعة كبيرة حول الكرة الأرضية؟
الجواب يمر بنا أول الأمر من عند أوضاع “الناتو” كما هي في الوقت الراهن، ولو في عجالة، ومن هناك يمكننا تفهم أبعاد مشهد “الناتو الجديد”، الذي يبدو أنه وليد مجموعة مختلفة من التركيبات الغربية والشرقية الآسيوية هذه المرة.
الحلف القديم والتوجهات الجديدة
ربما كانت قمة الحلف الأخيرة في فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، فرصة للتفكير في عالم مع بعد النظام العالمي الجديد، ذاك الذي لم يطل به المقام أكثر من ثلاثة عقود، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ونهاية الحرب الباردة أوائل تسعينيات القرن الماضي.
الجديد الذي يواجه الحلف الذي أنشئ كتحالف عسكري وسياسي لدول أميركا الشمالية وأوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية بهدف منع وقوع أعمال عدائية بين الدول في المستقبل، هو أنه بات يواجه عالماً مغايراً، فيه روسيا تعود من جديد كقوة عسكرية مزعجة للغرب، وقد بدت تجربة أوكرانيا مخيفة للغاية، ذلك أنه على رغم كافة الدعم الغربي لحكومة زيلينسكي، فإنها لم تتمكن من تحقيق أقل انتصار في مواجهة بوتين، إضافة إلى أن هناك تحدياً هائلاً يلوح في الأفق يتمثل في الصين، التي تقترب من مرحلة التجليات العسكرية، بعد أن حققت نجاحاتها الاقتصادية، كما هو الحال في سيرة ومسيرة القوى الكبرى تاريخياً.
ويمكن للمرء أن يجد تحديات مثيرة أخرى، تمثل كوريا الشمالية واحدة منها، فهي على رغم أوضاعها الاقتصادية المتردية، تبقى قوة نووية تقلق أميركا والغرب في النهار، وتؤرقهما في الليل.
يعتبر “الناتو” نفسه ملتزماً بالحلول السلمية للنزاعات، غير أنه وفي حال فشل الجهود الدبلوماسية، فإنه يراهن على القوة العسكرية اللازمة للقيام بالعلميات الخاصة بإدارة الأزمات.
الجديد في فكرة “الناتو الآسيوي” أنه يفتح الباب أمام دول آسيوية للعضوية، فقد كانت ولا تزال المادة العاشرة من اتفاقية الحلف تنص على أن العضوية فيه متاحة لأي “دولة أوروبية في وضع يمكنها من تعزيز مبادئ هذه المعاهدة والمساهمة في أمن منطقة شمال الأطلسي”.
ماذا عن الجيوش المكونة للحلف وعن ترتيباتها العسكرية؟
أكبر جيش لـ”الناتو” هو الجيش الأميركي، الذي يبلغ قوام جنوده نحو 1.35 مليون جندي، وفقاً لآخر الإحصائيات، فيما تركيا يبلغ عدد جيشها نحو 447 ألف فرد.
بايدن قال في افتتاح أعمال القمة: “بلداننا ستعمل كقوة خير في منطقة المحيط الهادئ”
تحتل فرنسا المركز الثالث في قائمة دول “الناتو” ذات الجيوش الأكثر عدداً 207 آلاف جندي، ثم ألمانيا 188 ألفاً، فإيطاليا 174 ألفاً، وأخيراً المملكة المتحدة 156 ألفاً، مما يعني أن العدد الإجمالي لجيوش “الناتو” تبلغ نحو 3.5 مليون للعسكريين والقوات المدنية الذين يمكن الاعتماد عليهم، وتسهم كل دولة عضو بكل ما في وسعها في التحالف، ولكل منها وزن استراتيجي، وتأثير إقليمي مختلف من أجل تعزيز أمن قارة أوروبا بنحو خاص.
هل المسألة العددية هي الداعي لأن يوسع “الناتو” من عديد قواته؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك، إذا أخذنا في عين الاعتبار أن عدد أعضاء الجيش الصيني العامل نحو 2.3 مليون جندي وهناك 2.2 في قوات الاحتياط، بينما عدد قوات جيش كوريا الشمالية نحو 1.2 مليون جندي و4.5 مليون في الاحتياط.
والثابت أنه على رغم أهمية الأسلحة الصاروخية والبحرية والطيران يظل دور قوات المشاة فاعلاً وناجزاً في كافة المعارك الأممية حال حدوثها، ومن هنا يمكن فهم ما قاله الرئيس بايدن عن أهمية التعاون الثلاثي الجديد.
تحالف سياسي أم أبعد من ذلك؟
الذين تابعوا لقاء كامب ديفيد، الجمعة الماضية، تساءلوا “هل نحن أمام تحالف سياسي أم تكتل عسكري له أهداف ما ورائية تتجاوز فكرة التنسيق السياسي والتعاون في عالم متغير بتسارع مستمر؟”.
الرئيس بايدن وفي افتتاح أعمال القمة قال “بلداننا ستعمل كقوة خير في منطقة المحيط الهادئ”.
قبل انطلاق القمة كان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان قد سبقه بالقول إن “قمة اليوم انطلاقة لعهد جديد بين أميركا واليابان وكوريا الجنوبية”، مشيراً إلى العمليات الأمنية للدول الثلاث باعتبارها ستشهد زخماً جديداً سيمتد لسنوات طويلة، بحسب قوله.
حاول سوليفان، وهو القوة السياسية الضاربة في إدارة بايدن، صرف الأنظار عن القول إن الأمر تجمع له أهداف عسكرية أو موجه ضد أحد بعينه، ولهذا قطع بأن “الشراكة بين أميركا واليابان وكوريا الجنوبية ليست موجهة ضد أحد، وأنه ليس هناك (ناتو) جديد في المحيط الهادئ”.
هل هذا الحديث صادق بدرجة مطلقة؟
المؤكد أنه ولوقت قريب لم يكن بالإمكان تصور مثل هذه القمة، وسط خلافات منذ عقود بين حلفي واشنطن المرتبطين بمعاهدة، ويشكلان قاعدة لنحو 84.500 ألف جندي أميركي، تتعلق بالاحتلال الياباني لشبه الجزيرة لكورية في الفترة ما بين 1910 – 1945.
اليوم تغيرت الأوضاع وتبدلت الطباع، وها هو الرئيس الكوري الجنوبي بون سوك بول، يصرح بأن هناك حاجة لتعزيز أسس التعاون بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، وأننا اتفقنا على وضع قناة لتنسيق ردنا على أي أزمة تطرأ في المنطقة.
من جانب اليابان، بدا واضحاً كذلك أن التطورات، ويمكن القول التهديدات المتنامية من جانب الصين لليابان، وكذا الخلافات الروسية – اليابانية، قد دفعت طوكيو للدخول في علاقة قوية مع بيونغ يانغ عبر واشنطن.
اعتبر رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا أن هذه القمة الثلاثية هي الأولى من نوعها في التاريخ. وقال إن النظام العالمي يشهد اهتزازاً بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا وبسبب أنشطة الصين وكوريا الشمالية”.
جاء البيان الثلاثي في نهاية أعمال القمة ليفتح الباب واسعاً أمام ما ورائيات تتجاوز التنسيق السياسي، إذ يقول “نتعهد التشاور فيما بيننا للتنسيق في شأن الرد على التحديات والاستفزازات والتهديدات التي تمس مصالحنا وأمننا الجماعي في المنطقة”. ويضيف أن “الشراكة الثلاثية بين واشنطن وطوكيو وسيول تعزز الأمن والازدهار لشعوب الدول الثلاث وللمنطقة والعالم”.
لكن البيان يفتح المستقبل أمام ما هو أبعد من التنسيق السياسي، إذ يقول ما نصه “نتعهد نزع سلاح كوريا الشمالية بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن ونحث بيونغ يانغ على التخلي عن برنامج صواريخها الباليستية”.
هل يتضح هنا الوجه العسكري للتعاون بين العواصم الثلاث في مواجهة كوريا الشمالية والصين بنوع خاص روسيا بصفة عامة؟
الجانب العسكري في التحالف الجديد
على رغم التبريرات السياسية المتعددة التي قدمتها الأطراف الثلاثة في لقاء كامب ديفيد، فإن ذلك لم يبعد حقيقة التعاون العسكري المؤكد، وهو قائم بالفعل في الحال، ومستمر حكماً في المستقبل.
خلال التحضيرات التي سبقت أعمال القمة بدا واضحاً أن هناك من موسكو وبكين من يضع المشهد تحت أعينه. واعتبر الأمر تخطيطاً مسبقاً بدأ مع قيام قمة “كواس” بالفعل.
قبل قمة كامب ديفيد بثلاثة أيام، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقول إن “الغرب يخطط لدمج حلف الناتو الذي تنضوي تحت مظلته نحو 31 دولة غربية، مع تكتل “أوكوس”، لبناء وتحديث القدرات العسكرية لدول “الناتو” وإعادة صياغة نظام التفاعل بين الدول، ذاك الذي تطور في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
هل بوتين وحده من يستشعر القلق أم شي جينبينغ بقدر كيم جونغ أون؟
المؤكد أن حديث القدرات العسكرية للعواصم الثلاث، واشنطن وطوكيو وسيول، يقلق المنطقة الآسيوية، لا سيما حال التنسيق بين الجيش رقم واحد في العالم، أي جيش الولايات المتحدة الأميركية، والجيش رقم 5 على مستوى التراتبية الدولية، وهو جيش اليابان، بينما يحتل جيش كوريا الجنوبية رقم 6 عالمياً.
تبدو الترسانة الأميركية، المهيمنة باقتدار، سواء كانت التقليدية وفيها أكثر من 13 ألف طائرة حربية وستة آلاف دبابة وعشرات آلاف المدرعات، إضافة لأسطول بحري يصنف الثالث عالمياً من حيث عدد القطع، لكن حكماً الأول عالمياً من حيث القدرات والكفاءة وقوة النيران والاتصال بالأقمار الاصطناعية.
خلال التحضيرات التي سبقت أعمال القمة بدا واضحاً أن هناك من موسكو وبكين من يضع المشهد تحت أعينه
أما عن الترسانة النووية، فهذا حديث آخر، إذ تتجاوز الخمسة آلاف رأس نووية، ويفضل جل المتخصصين العسكريين تهميش المقاربة لانتفاء النية لاستخدامها إلا في حالة القارعة التي يتجنبها الجميع.
اليابان جيش كبير وفاعل ووريث إمبراطورية عسكرية لعبت دوراً مؤثراً خلال الحرب العالمية الثانية، وحال فك أغلالها العسكرية، وهذا غالب الأمر قريب جداً، سيستيقظ العالم على مارد عسكري، ولن تعوزها الأسلحة النووية، إذ لديها الخبرة العلمية، وقادرة على حيازة القنبلة النووية في ستة أشهر حال رغبت.
تقليدياً لدى اليابان جيش قوامه 309 آلاف جندي، بينهم قوات عاملة وأخرى احتياط، ولديها قوات جوية قوية، وأسطولها يحتل المرتبة الـ19 عالمياً.
ما الذي يميز جيش كوريا الجنوبية؟
مؤكد التعداد الكبير جداً لجنودها الذي يبلغ نحو مليون و130 ألف جندي، والسبب هو التوتر الدائم مع نظام كوريا الشمالية، وتمتلك قوات جوية ومدفعية ومدرعات وراجمات صواريخ لها حضورها العسكري عالمياً، أما أسطولها فيسبق أسطول اليابان في الترتيب، إذ يجيء في المرتبة الـ13 عالمياً.
يصل حجم الأساطيل الحربية للدول الثلاث مجتمعة نحو 557 وحدة بحرية، مما يجعل دورها في مياه المحيط الهادئ أمراً مزعجاً للصينيين، حيث تقع أعين نفوذهم على منطقة الإندو باسفيك بنوع خاص، للروس المتحالفين مع الصين ولو إلى حين.
من هنا تدرك بكين وموسكو وبيونغ يانغ حقيقة “الناتو الآسيوي” القادم، حيث تهدف القوى معاً لخلق توازن عسكري جديد في منطقة المحيط الهادئ، ودمج قدرات القوى الثلاث المجتمعة في كامب ديفيد مع أطراف “أوكوس” وبقية دول “الناتو”، حكماً سيخلق توازناً جيوسياسياً مغايراً في منطقتي المحيط الهادئ والهندي دفعة واحدة.
حرب باردة جديدة مع الصين
كان من الطبيعي أن تظهر سريعاً ردود الفعل الصينية والروسية والكورية الشمالية، على قمة كامب ديفيد. الصين التي تدرك أن ما يجري يستهدفها دعت أول الأمر في تعليق لها على القمة إلى عدم تحويل منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى ساحة منافسة جيوسياسية.
لم يكن الموقف الصيني هذه المرة هو الأول من نوعه، ففي مايو 2022، ورداً على اجتماع وزراء خارجية “كواد” في طوكيو، ضمن إطار الاتفاق الرباعي، اعتبرت الصين أن المشهد يعد من قبيل تشكيل تحالف على غرار منظمات الحرب الباردة، وذلك سعياً لاحتواء الصين وقد شبه وزير الخارجية الصيني وقتها وانغ لي التحالف بـ”زبد المحيط” التي تحدث أمواجاً، لكنها سرعان ما تتبدد.
غير أن واقع الحال يقطع بأن المشهد ليس “زبد محيط” بالمرة، وإنما تعبير عن واقع عبر عنه الأمين العام لـ”الناتو” ينس ستولتنبرغ في نهاية قمة الحلف شهر يونيو (حزيران) الماضي، حين أشار لطموحات الصين المعلنة وسلوكها المتواصل – بحسب تصريحاته – والتي تشكل تحدياً لأسس النظام الدولي، وأن الأمر يمثل تحدياً جدياً لحلف الأطلسي”، ويومها لم يتأخر الرد الصيني أيضاً، ذلك أن بكين سارعت باتهام الحلف الأطلسي بـ”انتهاج عقلية الحرب الباردة وسياسة التكتل”.
أما الرئيس الصيني شي جينبينغ فقد اعتبر سابقاً ولاحقاً أن بكين تشعر بالانزعاج من تلك الجهود الأميركية، ويتذكر الجميع أنه في خطاب له ألقاه في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي اعتبر أن محاولات واشنطن لحشد العالم من حول بلاده إنما يعد مغامرة لإشعال حرب باردة جديدة مع الصين.
تقول صحيفة “ساوث تشاينا مورنينغ بوست” الصينية إن بكين أصبحت في حالة تأهب قصوى قبيل الاجتماع، وإنها تترقب ما سيصدر عن القادة الثلاثة في شأن أزمة تايوان التي تعتبرها بكين جزءاً من أراضيها، بينما تواصل الولايات المتحدة دعمها عسكرياً.
تبدو ردود الفعل الصينية في واقع الأمر ترجمة حقيقية لما جاء في “استراتيجية الأمن القومي الأميركية” التي تعد الأولى في زمن إدارة جو بايدن، وفيها أنه على رغم الحرب الضارية الحالية بين روسيا وأوكرانيا، والأخيرة هي وكيل غربي بامتياز، ومع المخاوف الشديدة التي تثور خوفاً من تحول المواجهة التقليدية إلى حرب نووية، فإن استراتيجية بايدن تعتبر أن الصين هي العدو الأول بالانتباه الشديد والتركيز الكامل، والعدو الاستراتيجي الأول المنتظر من دون أي شك.
يطرح مشهد كامب ديفيد الأخير علامة استفهام واسعة وكبيرة وخطرة: هل يمكن أن يكون هذا اللقاء نقطة تحول عسكرية عالمية وبداية لحرب صاروخية تتهيأ لها كل الأطراف، أي إنها قمة ولدت حرباً صاروخية مفتوحة بقوة حول العالم؟