حرية – (27/8/2023)
تعتبر سرقة بنك شارع بيكر واحدة من أكثر عمليات سرقات البنوك جرأة وإثارة للجدل في تاريخ بريطانيا، حتى بعد مرور أكثر من 50 عاماً على حدوثها، ليس فقط بسبب الخطة العبقرية التي اقتبسها اللصوص من إحدى قصص المحقق الأكثر شهرة في العالم “شيرلوك هولمز”.
بعد قيام مجموعة من اللصوص باستئجار متجر قريب من البنك وحفرهم نفقاً سرياً إلى قبو البنك الذي يحتوي على صناديق الأمانات. ونجحوا في سرقة ملايين الجنيهات من المال والمجوهرات والأوراق الثمينة دون أن يلاحظهم أحد.
لكن هذه لم تكُن نهاية القصة. فحتى يومنا هذا لا تزال تحوم العديد من الشائعات حول تورط شخصيات بارزة، مثل أميرة من العائلة الملكية البريطانية والمخابرات البريطانية. وقيل إن هذه الشخصيات كانت تحاول استعادة صور فضائحية أو مستندات سرية كانت مخبأة في صناديق الأمانات. قيل أيضاً إن الشرطة تعمّدت تضليل التحقيق لحماية المشاركين في المؤامرة.
ليس هذا فحسب، فمعظم نقاش أفراد العصابة على أجهزة اللاسلكي أثناء سرقة بنك بيكر كانت الشرطة تستمع له مباشرة، بل إن أفراد الشرطة دخلوا نفس البنك في اللحظة التي كانت تجري فيها السرقة ولم ينتبهوا لوجود اللصوص داخل الخزنة.
خطة سرقة بنك شارع بيكر من قصص شيرلوك هولمز
كان أنتوني “توني” جافين مصوراً فوتوغرافياً معروفاً يتنقل في مناطق شمال لندن. إلا أن شغفه لم يكن مقتصراً على التصوير فحسب. في الأوقات التي لم يكن يلتقط فيها الصور كان “جافين” يحاول حل الألغاز ومطاردة التشويق في القصص البوليسية.
كان الشاب ذو الـ38 عاماً يمتلك اهتماماً خاصاً بشيرلوك هولمز، وكأنه كان مفتوناً به. بحلول العام 1971، كان توني يقرأ قصة من قصص شيرلوك هولمز بعنوان “رابطة ذوي الرأس الأحمر”. وهي قصة قصيرة كتبها آرثر كونان دويل عام 1891.
في القصة تقوم العصابة بسرقة بنك عن طريق حفر نفق من مبنى مجاور والمرور أسفل البنك، ثم الخروج في داخل الخزنة.. وهي القصة التي ستقوده لتنفيذ واحدة من أشهر عمليات السرقة في بريطانيا.
كان على توني جافين أن يختار شركاء لمساعدته في تنفيذ خطته المختلفة. ولم تكن هذه المهمة سهلة. توني كان لديه شخصية قوية، كما عرف عنه “ميل نحو التهديد البدني”. بالتالي، استخدم توني طرقاً متنوعة، بما في ذلك الإغراء والضغط، لاختيار الشركاء المثاليين لتنفيذ خطته.
وبسرعة، انضم صديقه القديم “ريج تاكر” بائع السيارات المستعملة، الذي ليس لديه سجل إجرامي إلى الخطة. وعلى الرغم من أن كليهما كانا مجرمين مبتدئين، إلا أنهما كانا ملمّين تماماً بالتفاصيل والإجراءات.
كانت هناك عوامل عديدة يجب مراعاتها بدقة قبل تنفيذ السرقة، تلك العوامل ستؤثر على نجاح خطتهم أو فشلها. فكان عليهم اختيار البنك الذي سيقومون بسرقته بعناية، وكان عليهم التفكير في كيفية تجاوز أنظمة الأمان للبنوك، وعليهم العثور على مكان ملاصق للبنك، وأن يكون معروضاً للإيجار حتى يتمكنوا من حفر النفق دون أن يُكتشف أمرهم.
وكانت الخطة أن تحدث السرقة ليلاً في فترة عطلة نهاية الأسبوع، وبدلاً من سرقة الخزنة والأموال النقدية التي يمكن للشرطة تعقبها بواسطة الأرقام التسلسلية المطبوعة عليها، قررت العصابة سرقة صناديق الودائع، وهي صناديق موجودة في البنك في غرفة محصنة.
يمكنك كزبون للبنك أن تحصل على صندوق خاص بك، وتضع في ذلك الصندوق ما يحلو لك دون معرفة موظفي البنك بمحتويات الصندوق، ولأنه لا يوجد أي سجلات لمحتويات الصناديق ولا يمكن تعقبها بأي شكل من الأشكال، ولذلك فهي الهدف المثالي للعصابة.
كانت الصدفة البحتة أو الحظ هو ما قاد جافين وتاكر لاختيار “بنك لويدز” في شارع بيكر. فبينما كانا يبحثان عن الهدف المثالي لخطتهما عثرا على عقار مهجور معروض للإيجار، وكان العقار يحتوي على محل أحذية سابق على بعد بابين فقط من بنك لويدز.
حتى إن العقار كان يحتوي على قبو اعتقدت العصابة أنه يتماشى مع مستوى قبو البنك ويبعد 12 متراً فقط عن البنك. مقابل 10 آلاف جنيه إسترليني لرجل يبلغ من العمر 64 عاماً يُدعى بنجامين وولف، وهو شريك لجافين. حصلت العصابة على عقد الإيجار. ولم يتبقّ الآن سوى التنفيذ واختيار بقية أفراد العصابة.
مظلة لقياس مسافة الهدف للسرقة المثالية
تظاهر تاكر بأنه عضو ثري في المجتمع البريطاني وفتح حساباً في بنك لويدز تحت اسم مستعار، وأودع 500 جنيه إسترليني وأصبح يتردد على البنك ليصبح وجهاً مألوفاً.
وبعد بضعة أشهر، استأجر صندوق ودائع آمناً في الفرع وبدأ في استكشاف القبو من خلال زيارات منتظمة لصندوقه الجديد.
بالعادة يترك الموظفون العملاء على انفراد أثناء زيارة صندوق الودائع. بمجرد أن يصبح تاكر بمفرده، كان يقيس الغرفة باستخدام ذراعيه والمظلة التي أحضرها معه؛ فحصل على قياسات دقيقة من خلال حساب بلاطات الأرضية. لقد رسم خريطة للغرفة، موضحاً مكان الخزانات وموقع الأثاث.تم تجنيد بائع سيارات مستعملة آخر ليس له سجل إجرامي اسمه “توماس ستيفنز”، للحصول على الأدوات اللازمة للاقتحام دون إثارة شكوك الجهات التي سيشتري منها المعدات. تم تعيين بوبي ميلز، ليكون رجل المراقبة. وتم استقدام اثنين آخرين للقيام بمزيد من المهمات.
أحدهما خبير متفجرات. والرجل الآخر صديق لجافين، اسمه “ميكي جيرفايز”، وهو خبير في مجال أجهزة الإنذار ضد السرقة. وبحسب تحقيقات الشرطة، كان هناك عضوان آخران في العصابة ساعدا في السرقة، ولكن لم تتم معرفة هويتهما الحقيقية أو القبض عليهما.
كانت العقبة الأخيرة التي يجب التغلب عليها هي أجهزة الإنذار التي يمكن أن تنطلق بسبب الحفر قبل أن يتمكنوا من دخول خزنة الودائع وتعطيلها، لكن مرة أخرى كان الحظ حليفاً للعصابة.
تسببت أعمال الطرق في المنطقة القريبة من البنك في إطلاق أجهزة الإنذار بشكل خاطئ عدة مرات، وبالتالي تم إيقافها بينما استمرت الأعمال. واغتنمت العصابة الفرصة لتنفيذ خطتهم قبل انتهاء أعمال الطرق وإعادة تشغيل أجهزة الإنذار مرة ثانية.
أجهزة اللاسلكي تفضح اللصوص لكنها لا تتسبب بإلقاء القبض عليهم!
اختارت العصابة الحفر في عطلة نهاية الأسبوع حتى لا يُكتشف أمرهم ولا يشعر بهم أحد من موظفي البنك عند سماع صوت حفر النفق. وفي الأسابيع التي تلت ذلك، عملت العصابة لساعات متأخرة من الليل، وحفروا الجدران الخرسانية.
في وقت متأخر من يوم الجمعة، 10 سبتمبر/أيلول عام 1971، ومع إغلاق البنك في عطلة نهاية الأسبوع، عرفوا أن أمامهم حتى صباح الإثنين للدخول والاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الغنائم.
كان أفراد العصابة في ذلك الوقت قد استخرجوا حوالي 8 أطنان من الأنقاض من تحت الأرض وضعوها في بنايتهم المستأجرة، وأنشأ الفريق نفقاً سيقودهم في النهاية إلى أسفل قبو البنك.
من أجل أن يتأكدوا أن العملية ستجري على ما يرام جعلوا أحد أفراد العصابة يصعد إلى سطح بناية مقابلة للبنك ويراقب وجود أي حركة مريبة ويخبرهم بما يجري عن طريق اللاسلكي وهي الغلطة التي ستؤدي لاحقاً لاكتشاف العصابة وأيضاً إثارة الكثير من الشكوك حول تورط الشرطة وأفراد من المخابرات في التدبير لحدوث السرقة.
على ما يبدو أن حظ العصابة بدأ ينفد، كان شخص اسمه “روبرت رولاندز” من هواة تشغيل الراديو، لكنه وجد نفسه يستمع لمحادثة اللصوص عبر اللاسلكي بالصدفة، لكنه لم يعرف أي بنك كان يسرق بالضبط. فاتصل بالشرطة.
كان رجال الشرطة في سباق مع الزمن لإيقاف المجرمين، ولكن كانت هناك عقبة كبيرة؛ فهم لم يعرفوا أي بنك تتم سرقته، وقرروا تفتيش 750 بنكاً ضمن دائرة نصف قطرها 10 أميال من منزل رولاند.
حتى إنهم وصلوا بنك شارع بيكر نفسه، ولكن كان يبدو كل شيء هادئاً من الخارج وكان البنك مقفلاً لأنها عطلة، فلم يكلفوا أنفسهم الدخول والاتصال بمدير البنك وفتح الخزنة دون أن يعلموا أن اللصوص كانوا على بعد أمتار فقط تحت الأرض.
استطاعت العصابة إفراغ محتويات 270 صندوقاً بالكامل، وتقدر قيمة ما سرقوه بـ3 ملايين جنيه إسترليني في ذلك الوقت؛ وهو ما يعادل حوالي 52 مليون دولار في وقتنا الحالي، ولأنه لم يكن هناك أي سجلات على محتويات الصناديق لا يمكن معرفة الرقم الصحيح على وجه الدقة.
القبض على أفراد العصابة يغذي نظرية المؤامرة حول سرقة بنك شارع بيكر
في صباح يوم الإثنين وصل موظفو البنك مثل أي يوم عمل عادي، ولكن كانت تنتظرهم مفاجأة كبيرة، وهي الحفرة الكبيرة في الخزنة والصناديق الفارغة المبعثرة، وعند وصول الشرطة تتبعوا النفق للمبنى المجاور، لكنهم لم يجدوا أحداً، فقد كانت العصابة على بعد مئات الأميال من مسرح الجريمة.
لكن الشرطة ألقت القبض على فرد من العصابة بعد عدة أيام وهو “بنجامين وولف” الشخص الذي كان عقد إيجار المبنى المهجور باسمه، ورغم إنكار بنجامين معرفته بما حدث وادعاء أن العصابة اقتحمت المبنى دون علمه وأن المبنى مهجور، لكن بنجامين كان رأس الخيط الذي جعل الشرطة تتتبع بقية أفراد العصابة وتلقي القبض عليهم.
وصلت القضية إلى تطور جديد، حيث تم إحضار 4 مجرمين لارتكاب عملية السرقة الشهيرة: وولف، تاكر، ستيفنز، وبالطبع جافين. وبقيت شخصيتان مجهولتين من أفراد العصابة، حسب ما سمعته الشرطة من أسماء على اللاسلكي، لكن لم يعترف أحد ممن تم القبض عليه عن شركائهم بل إن الشرطة حصلت على ربع المسروقات فقط.
القبض على العصابة أشعل تخمينات المواطنين أكثر بعد أن شغلتهم أخبار السرقة لعدة أيام، وظهرت نظريات مؤامرة وشائعات عن تورط مسؤولين حكوميين وأفراد من العائلة المالكة البريطانية في تلك السرقة وحدوثها بشكل أو بآخر.
منها أن الشخصين المجهولين اللذين لم يتم القبض عليهما ربما يكونان من المخابرات البريطانية، فكرة أن مجموعة من المجرمين عديمي الخبرة يمكن أن تنجح في تنفيذ مثل هذه السرقة، خاصة تلك التي تستهدف بعضاً من أقوى وأكثر الأثرياء في بريطانيا. أشعلت خيال العامة.
وربما الأهم من ذلك: لماذا قامت الشرطة ليلة الجريمة بتفتيش 750 بنكاً في دائرة نصف قطرها 10 أميال، في حين أن راديو الشخص الذي التقط بث العصابة لا يستطيع التقاط الإشارات إلا من دائرة نصف قطرها نصف ميل؟!.
الأمر الذي صب الزيت على النار في الشائعات حدث في 17 سبتمبر/أيلول 1971، بعد أن كانت القضية على الصفحات الأولى للصحف والمجلات عن سرقة شارع بيكر والخطة العبقرية للصوص، فجأة توقف كل شيء. كان الجميع صامتين، وكأن شيئاً لم يحدث أبداً. لكن ذلك الصمت في الواقع لم يكن عشوائياً.
بسبب ازدياد الشائعات والضجة التي سببتها السرقة قررت الحكومة البريطانية إصدار إشعار لوسائل الإعلام بعدم النشر عن القضية.
وبعد فرض رقابة حكومية على الصحافة. انتشرت الشائعات بشكل كبيروتم تداول نظريات حول فساد الشرطة المرتبط بالقضية، وتساءل الناس عما وجدته العصابة بالضبط في صناديق الودائع الآمنة.
وتشير إحدى النظريات إلى أنهم عثروا على صور مسيئة للأميرة مارغريت، أخت الملكة، بالإضافة إلى صور تدين وزيراً في حكومة المحافظين يسيء معاملة الأطفال الصغار.
ومما يزيد الطين بلة حقيقة أن قدراً كبيراً من الوثائق المتعلقة بتحقيقات الشرطة قد تم وضعها تحت الحظر في الأرشيف الوطني ولن يتم إصدارها حتى يناير/كانون الثاني 2071. هل هناك تستر؟ لماذا لا يزال هذا سراً وطنياً؟ فقط الوقت كفيل بإثبات الحقيقة.