حرية – (29/8/2023)
بدايتها الحقيقية جاءت مع انتشار الطباعة على الورق آلياً فسميت “ألعاب الورق” نسبة إلى المادة التي صنعت منها، ولأنها جاءت في مرحلة تاريخية حلت فيها العملة الورقية مكان النقود السلعية الثقيلة، أي النقود المصنوعة من الذهب والفضة، فقد واجه التجار في زمن عائلة “تانغ” الصينية الحاكمة الشهيرة (618-907) مشكلة نقل النقود المعدنية الثقيلة من بلد إلى آخر بسبب تعرضهم للسرقة، ومع صياغة العملة الورقية طبعت أوراق اللعب على غرار تلك العملة الحديثة.
“الآس” و”الملكة” و”الملك” و”الأمير جاك” أهم الشخصيات حتى ظهر “الجوكر”
وليس مؤكداً أنها طبعت في الصين لكنها تطورت خلال تلك الحقبة، إذ حمل أحد وجهي الورقة صوراً لملوك وآلهة وأبطال حربيين ذاع صيتهم في تلك الأزمنة الغابرة، كما أنه ليس معروفاً أين نشأت بالتحديد، لكن المؤكد وفق مراجع وموسوعات ووثائق علمية ومقالات عبر الإنترنت تحوي شهادات لمتخصصين في هذه اللعبة وسيرد ذكر بعض منها لاحقاً، أن هذه اللعبة بدأت بعد لعبة الشطرنج بقرنين من الزمن، أي في القرن التاسع الميلادي، ولذلك كانت في بدايتها ذات طابع حربي بحت، إذ كانت الورقتان الوحيدتان المصورتان فيها حكراً على الشخصيتين الأهم عسكرياً وهما الملك والوزير.
لعبة الحرب
ومع مرور الوقت ووصولها إلى أوروبا وأميركا دمجت رموزها وطلاسمها لتصبح أقرب ما يمكن للصيغة التي هي عليها الآن، فيما كان أهم حدثين تعرضت لهما اللعبة من حيث الشكل والمضمون على مدى ما يقارب 2000 عام هو انتقالها من كنف الحضارات الروحية القديمة ذات الطابع الحربي البسيط التي كانت تؤمن بالسحر والخرافة مثل الصينية والهندية والفرعونية، إلى كنف الحضارة الأوروبية وتحديداً الألمانية والفرنسية، ثم وصولها إلى الولايات المتحدة الأميركية لتأخذ صيغتها الحديثة.
أما الحدث الثاني المهم من حياة اللعبة الشعبية فهو إضافة الحضارات الناشئة علمياً وعسكرياً وأهمها أوروبا والولايات المتحدة الأميركية إلى اللعبة مزيداً من القواعد ذات الطابع السياسي الأكثر تعقيداً، إذ توجت بإضافة ورقة “الجوكر” لإعطائها بعداً مادياً جديداً لم يكن معروفاً من قبل.
نحو السياسة
وحتى العصور الوسطى، أي من القرن الخامس وحتى الـ 15 الميلادي، وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية كانت لعبة الورق أبسط بكثير مما هي عليه الآن، لأنها كانت لعبة حربية ذكورية بحتة، فالملك والوزير ورقتان مصورتان ثابتتان، فيما الأوراق من 1 إلى 10 تمثل عامة الشعب وطبقات المجتمع الرئيسة الأربعة قبل زمن الثورة الصناعية الحديثة، أي الزراعة والكنيسة وطبقة الجيش والنبلاء إضافة إلى التجار.
وشكلت تلك الأوراق حينها ضمن نسق وقواعد اللعبة الأساس أول “لوغاريتم” بدائي مكون من رمز وصورة ورقم، ومثّل هذا الـ “لوغاريتم” تطوراً ملحوظاً للعلوم في زمن الحضارات الدينية والروحية حينها، لتنتقل اللعبة مع تطور العلوم من مرحلة التعبير الصوتي البسيط والرسم اليدوي إلى مرحلة اللغة البصرية البدائية، أي من عام 800 وحتى 1100 ميلادية، وكان ذلك التطور بمثابة تمهيد لنقل هذه اللعبة إلى اتجاهات معرفية جديدة لتحمل بعدها الطابع السياسي تزامناً مع انتقالها من الشرق إلى الغرب.
قواعدها لا تخلو من التعقيد أحياناً ويمكن إعطاء الأهمية لرمز أو رقم أو صورة
وصلت لعبة الورق إلى أوروبا وفق الموسوعة العلمية الأوروبية في القرن الـ 14 الميلادي، ويقول كاتب مدونة متخصصة في هذه اللعبة وهي مدونة “طرنيب VIP”، “بداية استخدامها كانت في العرافة والدجل، واستخدمت لقراءة الكف والطالع في مصر والصين قديماً ولأغراض دينية، فيما كانت أول لعبة تستخدم الأرقام والرموز عام 1294، وكانت الأوراق قبلها على شكل عملة وتستخدم للمراهنات”.
التحول الثاني
مثّل التحول الثاني زمن تسييس اللعبة أوروبياً وأميركياً، وأخذت لعبة الورق التي بدأت بسيطة وشعبية منحى فكرياً آخر، إذ جردت من صبغتها الحربية الساذجة وأصبحت قواعدها أكثر شراسة وتعقيداً، لكن رموزها المصورة وصلت مرحلة الاستقرار، وتحديداً بعد استبدال صورة الوزير بصور للملكة الأم (البنت عربياً) والأمير (الولد المسمى جاك)، وهؤلاء على رغم أنهم ينسبون أحياناً إلى عائلات ملكية محددة فهم في الواقع رموز لأفراد من العائلات المالكة في مختلف العصور الحديثة بعد ظهور النظام الملكي في العالم وانقراض زمن الإمبراطوريات. وأخذ الفرنسيون بدورهم تلك الرموز إلى عوالم أكثر وضوحاً، فأصبح الرمح رمزاً للسنك (القوة وشدة البأس والفروسية)، والقلب رمزاً للكبة (الحب والكنيسة وبدايته كانت بصورة الكأس)، والمجرفة أو ورقة الشجر الثلاثية رمزاً للبستوني (الزراعة والتنوع البيئي الطبيعي)، في ما رمز الديناري للألماس (الثروة والنبل)، وظلت هذه الرموز ثابتة حتى يومنا هذا على رغم دخولنا عصر التقنيات واجتيازنا مرحلة الثورة الصناعية، من دون إضافة أي رمز جديد يؤشر إلى هذه الحقبة، مما يعني أن اعتماد تلك اللعبة كمرآة لعكس التغيرات الحضارية للإنسان فكرياً وسياسياً وحربياً قد انتهى فعلياً في زمن الحداثة الراهن مع تحولها إلى لعبة ترفيهية غير رئيسة، مقارنة بألعاب الذكاء الاصطناعي الحديثة.
لا يزال عصرا الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي غير ممثلين فيها حتى الآن
وعلى رغم ذلك تمكنت الحضارة الأميركية بوصفها حضارة حديثة مهيمنة صعدت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية التي انتهت بقصف ذري لهيروشيما وناغازاكي من وضع اللمسة النهائية على اللعبة من خلال إضافة “الجوكر”، وعبرت الثقافة الأميركية الحديثة عن ذلك من خلال إضافة ورقتين مصورتين جديدتين فاقت أهميتهما كل الصور القديمة، الملك والوزير والملكة والأمير، إذ يوصف “الجوكر” حالياً بأنه الورقة التي تهيمن على الأوراق كلها.
“الجوكر” المهيمن
تمثل ورقة “الجوكر” شخصية الشيطان، وقد ظهرت هذه الشخصية في لعبة الورق وفق “ويكيبيديا” عام 1940، وللشيطان وفق الرواية الشعبية الأميركية الحديثة وجهان رئيسان هما “المهرج” (المزاح) و”الشرير” (أمير الجريمة في العالم)، وعبرت الثقافة الأميركية عن هذين المعنيين بإضافة ورقتي “الجوكر” الشهيرتين، فيما أكدت القصص المصورة (كومكس) التي نقلت إلى هوليوود هذا المعنى من خلال الفيلم الشهير “الجوكر” الذي ظهرت شخصيته بداية في أعمال سينمائية قدمت منذ عام 2005 من خلال حكاية “باتمان”.
وفي عام 2008 ظهر فيلم “فارس الظلام” للمخرج كريستوفر نولان الذي عده نقاد سينمائيون بمثابة “إعادة إنتاج لشخصية (الجوكر) حديثاً”، فـ “الجوكر/ الشيطان” يطلي وجهه باللون الأبيض ويتبرج بأحمر الشفاه لإخفاء ندوبه، مما يعني أنه يمثل الجنسين الذكر والأنثى، بل إنه يعبر عن رغبة المهمشين في قلب الأنظمة السياسية المركزية وإشاعة الفوضى لتغيير الثقافات الاستهلاكية السائدة، إضافة إلى رمزيات كثيرة ورد بعضها في كتاب “صناعة الثقافة المضادة” للأميركي ثيودور روستشاك عام 1970.
أخذت لعبة الورق التي بدأت بسيطة وشعبية منحى فكرياً آخر في العصور الحديثة
أما استخدامه في لعبة الورق وفي السياسة فيقول عنه كاتب أردني عبر مقالة نشرتها وكالة “زاد الأردن” على الإنترنت، إن “الجوكر سر اللعبة وله دور كبير في تحديد المنتصر والمنهزم، ولا يمكن التعامل معه كأية ورقة أخرى من أوراق الشدة، فهو الذي يستخدم في اللحظات الحرجة وعندها تنقلب موازين اللعبة بالكامل”.
وقد جسد “الجوكر” في لعبة الورق كل معاني الهيمنة الثقافية، وشخصية “الجوكر” المركبة سينمائياً هي شخصية “السايكوبات” وهو الشخص الذكي جداً ذو الحس الفكاهي السادي، فيما أضاف العرب للعبة الورق تلك المسماة “الباصرة”، وهي لعبة يؤخذ فيها (الولد/ الذكر) دوراً مشابهاً لدور “الجوكر” من حيث قوته وهيمنته.
أما اليهود فكان لهم دور بارز في هذه اللعبة على مر التاريخ، إذ احتلت شخصية راحيل زوجة النبي يعقوب وأم النبي يوسف صورة الملكة، كما ظهرت صورة النبي داوود وصور لبطلات يهوديات من الثقافة الشعبية على بعض أوراق اللعبة، مما دعى إلى تسمية بعض الألعاب باسم خاص مثل لعبة “التركس اليهودي”، في حين تسمى لعبة الورق في بعض مناطق الخليج العربي باسم “بيلوت” وهي تسمية إنجليزية نسبة إلى جيان بيلوت واضع بعض قواعد اللعبة حديثاً، أو “بتة” في قطر والبحرين واليمن، وهي مشتقة من المصطلح الهندي “طاش كي باتي”، وفي الكويت تسمى “جنجفة”، وهي أيضاً “الشدة” أردنياً وفلسطينياً وشامياً، و”إسكامبيل” في تركياً وبعض مناطق سوريا والعراق الحدودية، ومن أشهر أسمائها المتداولة إعلاميا “الكوتشينة” باللهجة المصرية، وهي مأخوذة من المفردة الإيطالية “كورتنشيني”.