حرية – (4/9/2023)
إنها العلامة التجارية الاستهلاكية الأكثر شهرة في هذا العصر، “أبل” الشركة العملاقة المتخصصة في الإلكترونيات ذات القوة الماحقة التي أعطت هواتفها وكمبيوتراتها تعريفاً جديداً لهذه الفئات وسحقت الجهات المنافسة. بيد أن هذا النجاح غير المسبوق على مستوى العالم كان مدعوماً في جزء منه بشركة بعيدة من الأضواء إنما حاضرة على نحو مدهش، وتضطلع بدور رئيس في صعود شريكتها.
باعت “أبل” العام الماضي نحو 300 مليون هاتف “آيفون” وجهاز لوحي (آيباد). ويشتغل كل واحد من هذه الأجهزة بواسطة معالجات قائمة على تصميمات من ابتكار “آرم” Arm، شركة بريطانية متخصصة بصناعة الشرائح الإلكترونية. وعلى نحو مثير للدهشة، حصلت على رُخص لتصاميمها 30 مليار مرة، ليس لمنتجات “أبل” فحسب بل أيضاً تراخيص خاصة بحواسيب محمولة، وأجهزة استشعار صناعية، وسيارات، وخوادم كمبيوتر.
في السنوات الأخيرة، وإذ أخذت تزداد أعداد الأجهزة الذكية التي تتطلب المزيد والمزيد من الشرائح الإلكترونية الصغيرة، ازدهرت أعمال “آرم”، وتضاعف حجمها في السوق خلال ست سنوات.
في خريف العام الحالي، ربما تنال “آرم” قدراً من الاهتمام يتجاوز لوقت قصير الاهتمام الذي تحظى به “أبل” في “وول ستريت”، إذ ترمي الشركة اليابانية المالكة “سوفت بنك” إلى جمع ما يصل حتى 10 مليارات دولار عبر إدراج في سوق الأسهم من شأنه، إذا سار بشكل جيد، أن ينعش نهوض إصدارات جديدة. وفي عملية تأمل منها “آرم” تقييماً بقيمة 70 مليار دولار، ربما تعود “أبل” مستثمراً أساسياً فيها، تماماً كما فعلت في بداية علاقتهما عندما تأسست “آرم” قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت.
بدأت “أبل” في التحول إلى شركة متخصصة في تصميم أشباه موصلات متكاملة
الخلطة السرية لدى “آرم” مجلد توجيهات، والمعروف أيضاً باسم “بنية مجموعة التعليمات” (اختصاراً ISA). يشتمل كتاب “الوصايا العشر” هذا الآتي من عصر الرقمنة على عدة آلاف من التعليمات في المستطاع تنسيقها في أربعة مليارات ترميز محتمل. وتحدد سبل التحكم في وحدة المعالجة المركزية للشريجة الإلكترونية الدقيقة (CPU)، أي “أدمغة” الجهاز، بواسطة البرنامج الحاسوبي.
ولما كانت صناعة أشباه الموصلات أو الناقلات قد أصبحت شديدة التعقيد، فقد اختارت الجهات المصنعة للشرائح الإلكترونية شراء الأفكار بدلاً من تصميم كل شيء بنفسها. تماماً كما بناء ناطحة سحاب، فإن تعبئة مليارات الترانزستورات [عناصر إلكترونية تشكل المكونات الأساسية للشرائح الحاسوبية] على شريحة من السيليكون، طبقة متكررة فوق طبقة، يتطلب تصميماً أساسياً. هكذا، باتت تصميمات “آرم”، التي تبيعها مقابل بضعة سنتات في المرة الواحدة، منتجاً لا غنى عنه.
القدرة على وضع التوقعات لدى “بنية مجموعة التعليمات” تساعد مطوري البرمجيات على كتابة تعليمات برمجية أكثر كفاءة. ونظراً إلى البساطة التي يتسم بها، يعمل نظام المعالجة عند مستوى منخفض من الطاقة، وهي سمة بالغة الأهمية في عالم الإلكترونيات الذي يستنزف الطاقة، حيث الطلب على الأداء والميزات الأكثر والأفضل لا ينفك يزداد.
لطالما كانت “أبل” مشغولة بمشكلات الكفاءة والسعر، وكان هذا الشاغل أساس علاقتها مع “آرم” منذ البداية. بالعودة إلى عام 1990، في السنوات التي تلت مغادرة المؤسس المشارك لـ”أبل” ستيف جوبز، عندما كانت الشركة تتطلع إلى ما هو أبعد من كمبيوتر “ماكنتوش”، صوب أسواق جديدة تحقق نمواً. وقبل سنوات عدة من ابتكار هاتف “آيفون”، كانت “أبل” تبحث عن معالج أفضل لجهاز محمول قيد التطوير. كانت الشرائح الإلكتروينة التي صممتها شركة الاتصالات الأميركية العملاقة “أي تي أند تي” AT&T لما كان يسمى “نيوتن”Newton باهظة الثمن وتفتقر إلى الطاقة.
وبطريقة غير مباشرة، اكتشفت “أبل” مشروعاً قيد التنفيذ عبر المحيط الأطلسي في “أكورن”، الشركة التي تتخذ من كامبريدج مقراً لها والتي كانت ذات يوم جهة منافسة في سوق أجهزة الكمبيوتر المنزلية. للتغلب على مجموعة منافسيها، ابتكر كبار المهندسين لدى “أكورن” معالجاً بسيطاً، أطلقوا عليه الاسم “أكورن ريسك ماشين”Acorn RISC Machine (اختصاراً “أي آر أم” ARM) الذي قدم أداء يفوق بمقدار 25 مرة أداء كمبيوتر “بي بي سي مايكرو” BBC Micro الأكثر مبيعاً، والذي حقق ثروة “أكورن”. والمشكلة أنها لم تكن تملك المال كي يتسنى لها الاستفادة من مزاياه الكامنة.
مقابل مبلغ متواضع قدره 2.5 مليون دولار (ما يساوي 1.5 مليون جنيه استرليني آنذاك)، أبرمت “أبل” اتفاقاً مشتركاً مع “أكورن” متخلية عن المعالجات التي تغيرت تسميتها إلى “أدفانسد ريسك ماشين”. وللحفاظ على التكاليف المنخفضة، أنشأت متجراً في مخزن يعود إلى القرن السابع عشر في قرية على بعد أميال خارج كامبريدج. حصلت الصفقة على موافقة لاري تيسلر، كبير العلماء في “أبل” ومبتكر خاصية “القص” cut و”النسخ” copy و”اللصق” paste، الذي انضم إلى مجلس إدارة “آرم”.
وجدير بالذكر أن “أكورن ريسك ماشين” كان يرمز إلى كمبيوتر مجموعة التعليمات المختزلة، وهو نوع المعالج المعروف بأنه في 80 في المئة من الوقت تستخدم الشريحة 20 في المئة فقط من تعليماتها، لذا يمكن إلغاء بقية التعليمات، وجرى تقسيم المهام إلى حفنة من التعليمات البسيطة بدلاً من ذلك.
بعد مرور ثلاث سنوات، ظهرت تصميمات “آرم” في جهاز المساعد الرقمي الشخصي “نيوتن” من “أبل”، والذي كان يسمى “ماسيج باد” ويتذكره المستخدمون بشكل رئيس بسبب برنامج الكتابة اليدوية غير المتجانس وقلمه البلاستيكي المستخدم لتدوين الملاحظات على الشاشة. ولكن رجوع جوبز إلى “أبل” في عام 1997 كان بمثابة ناقوس الموت بالنسبة إلى “نيوتن”.
كانت “أبل” أبعد ما يكون عن الشركة العملاقة التي هي عليها اليوم. احتاجت إلى المال قبل أن تكون قادرة على الإنفاق ببذخ على أفكار جديدة مهمة. ولحسن الحظ، تستطيع “آرم” المساعدة في هذا القسم أيضاً. وبعد سنوات عدة غير مثمرة، انقلبت حظوظ الشركة إلى الأفضل عندما وجدت تصاميمها موطئاً لها في هواتف “نوكيا” المحمولة، مقلصة مقدار الطاقة المستهلكة إلى حد أصبح معه ممكناً تصغير حجم البطاريات وصارت الهواتف المحمولة بحجم الجيب فعلاً. وفي العام التالي، طرحت “آرم” أسهمها في لندن ونيويورك، وحققت تقييماً بقيمة مليار دولار في باكورة تداولاتها.
كان هذا الوقت مفيداً لـ”أبل”. عندما أخذ جوبز يحكم قبضته مجدداً على الشركة في خريف 1997، تقلصت الاحتياطيات النقدية إلى 1.4 مليار دولار، وكان تصنيفها الائتماني، علماً أنه مؤشر على تكلفة الاقتراض لدى الشركة، عالي الأخطار. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام، خفضت وكالة التصنيف الائتماني “ستاندرد أند بورز” التصنيف الائتماني للشركة مجدداً.
تفاوض جوبز مع “مايكروسوفت”، العدو القديم لـ”أبل”، على أن تستثمر في الشركة بمبلغ قدره 150 مليون دولار، ولكن من طريق بيع أسهمها في “آرم” تدريجاً حتى عام 2003، حصلت “أبل” على 838 مليون دولار أخرى لتتجاوز بذلك مشكلة السيولة الخانقة. وفي مقابلة أجريت معه قبل وفاته، اعترف تيسلر بأن “الجزء الأكثر نجاحاً في مشروع “نيوتن” كان “آرم”، مضيفاً: “لقد حققنا أموالاً من أسهمنا في “آرم” أكثر مما خسرناه في نيوتن”.
في ذلك الوقت، انطلقت المرحلة الثانية من العلاقة بين “أبل” و”آرم”. بدأت عملية إعادة إطلاق “أبل” في 1998 مع “آي ماك” iMac، وهو حاسوب مستقبلي من عائلة “ماكينتوش” بيضاوي الشكل، والمنتج الأول الذي يحمل بصمة المصمم البريطاني جوني إيف. وبعد ذلك، ظهرت التطلعات نحو جهاز موسيقى يتفوق على مجموعة مشغلات “أم بي 3” MP3 الموجودة أصلاً في السوق.
في منصب قيادة تطوير جهاز الموسيقى المنتظر، عينت “أبل” طوني فاضل، مبرمج كمبيوتر عنيد ومحب لموسيقى “الروك أند رول” نشأ على أعمال فرق “لد زيبلين”، و”رولينغ ستونز”، و”إيروسميث”. وفي غمرة الاندفاع لطرح ما سيصبح جهاز “آي بود” iPod في الأسواق بحلول عيد الميلاد عام 2001، جاء استخدام تكنولوجيا “آرم” مجدداً من قبيل المصادفة البحتة. بحث فاضل عن شركة يوفر عملها قاعدة للجهاز الجديد واستقر على “بورتالبلاير”، شركة ناشئة مقرها سانتا كلارا اعتمدت مجموعة متنوعة من تصميمات “آرم” التي طورت في الأصل من أجل “نوكيا”.
وعلى رغم المبادرات القوية من “إنتل” الأميركية العملاقة لصناعة الشرائح الإلكترونية، والتي بدأت في توريد الشرائح لحاسوب “ماكنتوش” في 2005، فقد تمسكت “أبل” بمنتجات “آرم” لجهاز “آيفون” الذي أطلق في السوق في عام 2007، فضلاً عن جهاز “آي باد” في 2010. وبينما كانت “آرم” تبحث عن شركاء جدد، وتسعى إلى تطوير تطبيقات إلكترونية جديدة لـ”بنية مجموعة التعليمات” الخاصة بها، شكلت ورقة رابحة قوية.
حمل معه عام 2020 أنباء سارة أكثر عندما أعلن تيم كوك، خليفة جوبز، أن عملاق التكنولوجيا سيتخلى عن شرائح “إنتل” Intel من أجهزة “ماك” لمصلحة “أبل سيليكون” Apple silicon، وهي شرائح خاصة بالشركة مصممة استناداً إلى بنية “آرم”، في إشارة إلى المرحلة الثالثة من التعاون بين الشركتين.
وإذ صبت تركيزها على شكل ومضمون منتجاتها، توصلت “أبل” إلى أن الشرائح الإلكترونية الدقيقة قد باتت علامة فارقة كبيرة في أعمالها وأنها تكتسي أهمية أكبر من أن تترك لصناعة الشرائح الدقيقة. أرادت “أبل” أن تصنع شرائحها الإلكترونية بنفسها. وطوال ما يربو على عقد من الزمن، بدأت تصبح شركة متخصصة في تصميم أشباه موصلات متماكلة، وأخذت تنتج شرائحها الإلكترونية الخاصة لاستخدامها في الكاميرات، والذكاء الاصطناعي، والساعات، والتلفزيونات، وسماعات الرأس.
حققت ذلك عبر الاستحواذ والتوظيف وتجميع باقة من آلاف براءات الاختراع الخاصة بالتكنولوجيا اللاسلكية، بدءاً ببروتوكولات المعايير الخلوية وصولاً إلى هندسة “المودم” وتشغيله. ومع تراجع اعتمادها على عمالقة الصناعة “إنتل” و”سامسونغ”، والآن “كوالكوم”، فإن الناس الذين يعرفون “أبل” حق المعرفة يقولون إن العدد التقديري لمهندسي الشرائح الإلكترونية لديها ليس أقل من أربعة آلاف مهندس.
ولكن إلى جانب شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات (TSMC)، المتخصصة في صناعة الشرائح، حافظت “أبل” على علاقتها مع “آرم” بل وعززتها. في 2008، سألت “آرم” الحصول على ترخيص هندسي، يسمح لها بإدخال تغييرات كبيرة على تصميماتها تكون مختلفة عن مخططات “آرم”، بدلاً من الاكتفاء بترخيص البنية الأساسية. شكلت هذه الخطوة ركيزة أساسية في خطة “أبل” لتولي زمام أمورها بصورة أكبر. في تلك المرحلة، لم تمنح “آرم” سوى عدد قليل من هذه التراخيص، وكلها لشركات الشرائح التقليدية. ولكنها ستعطي المزيد لاحقاً.
كان استخدام تكنولوجيا “آرم” أساسياً في الشعبية التي حصدها جهاز “آي بود”
اليوم، أُنفقت مليارات الدولارات على السباق من أجل الاختلاف عبر مختلف فئات كثير من المنتجات. ولكن كل شركة متخصصة بتصميم الشرائح الإلكترونية الدقيقة، سواء كانت لاعبة قديمة في هذا الملعب أو وافدة جديدة إليه نسبياً، بما في ذلك “أبل”، و”أمازون”، و”سامسونغ”، و”كوالكوم”، و”غوغل”، و”هواوي”، و”علي بابا”، و”ميتا”، و”تيسلا”، لديها قاسم مشترك مع “آرم”.
بذلت هذه الشركات الرقمية العملاقة جهوداً كبيرة للتفوق على بعضها البعض، إذ عينت أفضل المصممين واشترت شركات ذات ملكية فكرية رائدة. لكن التخلي عن الجهات الخارجية الموردة لم يمتد حتى الآن إلى التخلي عن “آرم”، على رغم أن “ريسك- فايف” RISC-V، وهو بديل غير خاضع لحقوق الملكية، ينمو بسرعة. في الوقت الحالي، تعتبر بنية “آرم” شديدة التعقيد وذات تكلفة منخفضة نسبة إلى كفاءتها إلى حد يحول دون إعادة اختراعها، وعلى أي حال، استثمرت الصناعة مبالغ باهظة فيها.
هذه الأهمية التي تكتسيها تكنولوجيا “آرم” تبين ما ستكون عليه المرحلة الرابعة من علاقة “آرم” مع “أبل”، وصعوبة بلوغ هذه النقطة. وتحاول مجموعة “سوفت بانك” المثقلة بالديون منذ أربع سنوات بيع جزء أو قسم من “آرم”. حظرت الهيئات التنظيمية الدمج المربح مع شركة “إنفيديا” Nvidia لصناعة الشرائح الإلكترونية الخاصة بالذكاء الاصطناعي بعدما اشتكى عملاؤها الرئيسون الآخرون من أن هذه الخطوة لن تصب في مصلحتهم. وللسبب نفسه، فإن التكهنات التاريخية بأن “أبل” ستستحوذ على “آرم” ذات يوم بدت بعيدة تماماً عن الصواب.
لقد حققت “آرم”، وهي في مقام “سويسرا لأشباه الموصلات”، مكانة لا يُستغنى عنها. ينكب نحو 13 مليون مهندس برمجيات حول العالم على كتابة التعليمات البرمجية المخزنة في شرائحها الإلكترونية، والتي تظهر على أجهزة “آيفون” وغيرها كل يوم. يرغب الجميع في امتلاك جزء من “آرم”، ولكن حتى الآن، لا أحد يعرف كيف يكون ذلك.
دعماً لسعر السهم، تحاول مجموعة “سوفت بانك” جذب بعض أكبر عملائها ليصبحوا مستثمرين مهمين إذ تُدرج “آرم” أسهمها في بورصة “ناسداك” هذا الخريف. عمل كثير منهم مع الشركة طوال سنوات، ولكن أياً منهم لا يملك التاريخ المشترك الذي تملكه “آرم” مع “أبل”.
كتاب جيمس أشتون، “مخطط لكل شيء: تصميم الشرائح الدقيقة الذي غير العالم”، يصدر في الولايات المتحدة في 26 سبتمبر (أيلول). ويمكنك أن تطلبه الآن مسبقاً.