حرية – (10/9/2023)
عندما تأكل طعاماً بيدك في المرة المقبلة، تمهل قليلاً ولاحظ ملمس الطعام على أطراف أصابعك قبل أن تقضمه. إن كنت تتناول شطيرة برغر، فهل الخبز ناعم الملمس أم مغطى برشة من حبات السمسم؟ عندما تضغط عليه بأصابعك، هل تعصر الخبز الطري أم تشعر بأنه يتفتت بين أصابعك؟ وعندما تقضمه في النهاية، لاحظ مدى المتعة التي تستمدها من غرز أسنانك بطبقاته، بدءاً من الخبز الطري إلى الخس أو البصل المقرمش فالجبن السائل وأخيراً اللحم بعصارته. فكر الآن في مدى اختلاف تجربتك لو تناولت طعامك بالشوكة والسكين.
إن تناول الطعام باليدين تجربة ممتعة للغاية. وفيما تنحصر هذه التجربة في الغرب بالأطعمة الملفوفة بالخبز أو بالمعجنات، فإن الحضارات الهندية والأفريقية وبعض الثقافات الآسيوية أكثر مهارة في استخدام أصابعها لتناول أطعمة قد تبدو “فوضوية” أو “دبقة” جداً في هذا الطرف من العالم. أحد أطباقي المفضلة هو الرز بورق الموز بمكوناته الأساسية من رز وخضار وكاري. أخلط كل واحد من مكونات في هذا الطبق وأستخدم حركة الضم بأصابعي الخمسة كي أشكل اللقمة المثالية، قبل أن أرفعها بسرعة إلى فمي وآكلها. أجد أن ذلك يرغمني على التفكير في كل لقمة، من نكهتها إلى الملمس الذي أرغب به فيها، وصولاً إلى الكمية التي يمكنني تحملها.
حتى قبل أشهر عدة، لم أفكر يوماً حقاً في عدد المرات التي أتناول بها الأكل بيدي. مثل كثيرين، ربطت هذه العادة بالوجبات الهندية ولطالما اعتقدت بأن الثقافة الغربية مهووسة بالمجتمع الراقي لدرجة تمنعها من الغوص في الأكل باليدين. وما يزال هذا الموضوع يصح إلى درجة ما- فعديد من الجنوب آسيويين الذين نشأوا على الأكل باستخدام أيديهم يقولون إن الآخرين نظروا إليهم بصدمة ورعب عندما حاولوا ممارسة هذه العادة في العلن هنا. لكن بعدما لاحظت قيام زوجي البريطاني الأبيض جداً بالغوص بسعادة في رز ورق الموز في بداية فترة المواعدة، وبعد نقاشات خضتها مع الأصدقاء في هذا الموضوع، أدركت بأن تناول الطعام باستخدام اليدين فعل معمم وعالمي أكثر مما اعتقدت بكثير.
فشطائر البرغر والبيتزا والهوت دوغ ورقائق البطاطا مثلاً كلها أطعمة تؤكل باليد – ما لم تتناول إحدى شطائر البرغر العملاقة تلك التي يحتاج حجمها الكبير للتفكيك. ثم لديك أطعمة مثل الدجاج المقلي أو ثمار البحر التي يسهل بكل ببساطة التقاطها باليد وفصلها وفتحها باستخدام الأصابع. أما الأطعمة المكسيكية مثل البوريتو أو التاكو أو اليابانية مثل السوشي فغالباً ما تلتقط باليد وتلتهم. يستلذ بعض الأشخاص بتناول السلطات باليد، إذ يجدون سهولة أكبر في التقاط أوراق الخس المليئة بالصلصة ومكونات أخرى مثل الملاعق القابلة للأكل. ومن المفاجئ أن إحدى مناصرات هذه الممارسة كانت سيلفيا بلاث التي كتبت في الفصل الثالث من روايتها الناقوس الزجاجي الصادرة في عام 1963 (The Bell Jar) كيف راقبت شاعراً يأكل سلطة “بأصابعه، ورقة تلو الأخرى” فجعل ذلك “يبدو الفعل الأكثر طبيعية ومنطقية”.
كلما فكرت في الموضوع أكثر، أدركت أن يدي هما أداتي المفضلة. لا أحد يلتقط رقائق البطاطا بعناية بعصي الطعام أو يحمل حبة بطاطا مقلية بالشوكة. كل أنواع الخبز المفرود- من الباراتا والنان إلى خبز الأنجيرا- تدعوك كي تمزقها باليد وتستخدمها لمسح العدس الهندي أو الكاري. لن يخطر لي أبداً أن أتناول سندويشاً بالشوكة والسكين، كما لن أفكر بذلك بالنسبة إلى سندويش بخبز الباو التايواني. فالأمر يبدو خطأ ببساطة.
في هذا الجزء من العالم، ظلت أدوات المائدة هي المسيطرة حتى وقت قريب جداً. عمل الإنسان البدائي على نحت أدوات كالسكين والملعقة طوال قرون فيما من المفاجئ أن الشوكة اختراع حديث. وفقاً لمجلة سميثسونيان، كانت أميرة بيزنطية هي أول من أدخلت شوكة ذهبية خلال عرسها في البندقية في عام 1006، واشمئز السكان المحليون من هذا الاختراع وأكلوا باستخدام أصابعهم والسكاكين. ويبدو أن أحد سكان البندقية شجب استخدام هكذا أداة وقال “إن الحكمة الإلهية وفرت للإنسان شوكاً طبيعية هي أصابعه. وبالتالي فإن استبدالها خلال الأكل بالشوك المعدنية الاصطناعية إهانة له”.
على رغم هذا الرفض الأولي، أصبحت للشوكة من الأساسيات في أوروبا بعد عام 1533 حين أحضرت كاثرين دو ميديسي، زوجة هنري الثاني، مجموعة شوك فضية من إيطاليا إلى فرنسا في عام 1533. بعد 300 عام على ذلك التاريخ، أدمجت مجموعة أدوات المائدة الفضية كما نعرفها الآن نفسها في الحياة اليومية في أوروبا. واخترعت مختلف قواعد الآداب وحسن السلوك بشأنها خلال العصر الفكتوري، بدءاً بطريقة الإمساك بالشوكة ووصولاً إلى صناعة أدوات بمختلف الأحجام لكل منها استخدام خاص – مثل سكين السمك وملاعق الحلوى. وأصبحت هذه الأدوات علامة فارقة تميز الطبقات الاجتماعية الراقية التي تستخدم أدوات فاخرة من الطبقات الأدنى التي تجهد في العمل ولا يهمها أية ملعقة تستخدم مع أي شيء.
لكن ساد الاتفاق على أن تناول الطعام باليدين أمر غير مهذب وسوقي في كل الحالات المتعلقة بالطعام. واستمر ذلك حتى عقد مضى، حين أعلنت دي بريتس، الهيئة البريطانية المعنية بآداب السلوك واللياقة في دليلها لعام 2012 أن “آداب المائدة ما عادت مرتبطة بالالتزام بقواعد سلوك صارمة عفا عليها الزمن”. وسمى الخبراء أطعمة مثل البيتزا والكالزوني باعتبارها أطعمة “من المقبول” تناولها باستخدام اليدين. كما نصحوا المغامرين المقبلين على هذه الأطعمة أن يخلفوا “أقل قدر ممكن من الفوضى” ويستقيموا في الجلوس ويحرصوا على “عدم وضع المرفق على الطاولة أبداً” مما يثبت أن العادات القديمة صعبة التغيير.
يقول صاحب المطاعم المستقر في بريستول، راشينذا رودريغو، وهو أحد المؤسسين الخمسة لمجموعة المطاعم السريلانكية ذا كوكونت تري إنه يأكل كل الأطعمة تقريباً بيديه – حتى طبق اللحوم المشوية على العشاء. ويضحك إذ يقول “أبدأ باستخدام الشوكة والسكين لكنني أجد نفسي دائماً ألتقط قطعاً من الدجاج أو البطاطا بأصابعي من صحني قرابة نهاية الوجبة”. نشأ هو الآخر في سريلانكا على أكل الرز والكاري بيديه لكنه شعر بالخجل من الاستمرار بهذه العادة بعد انتقاله إلى بريطانيا. لكنه يجد في هذا السلوك حرية هذه الأيام. ويقول رودريغو “أصبحت عادة مقبولة أكثر خلال السنوات الخمس أو الست الماضية ويزداد عدد الأشخاص الذين يساورهم الفضول في شأنها”.
وبدورها، تجد سوريخا راغافان مؤسسة بيريوك، الأرشيف الرقمي للوصفات الماليزية التقليدية، أن هذا السلوك يحررها. وتقول “ربما عندما نأكل بأيدينا، نتخلص كذلك من أحد جوانب الخجل. فنحن نتخلص من مفهوم الرسمية و’آداب المائدة’ مع ما فيها من مركزية بريطانية” فتذكرني بملاحظة أخرى كتبتها بلاث في الناقوس الزجاجي. لكن الكاتبة تحررت بطريقة مختلفة بعض الشيء إذ كتبت “اكتشفت بعد كثير من التوجس في شأن أية ملعقة علي استخدامها، أنك لو ارتبكت هفوة على الطاولة وتصرفت ببعض التعجرف… لن يعتقد أحد أنك سيئ السلوك ولا أن تربيتك تشوبها شائبة. بل سيفكرون بأنك مبدع وذكي جداً”.
غالباً ما يقول المدافعون عن الأكل باليد إن هذه الممارسة تزيد من لذة الطعام من دون أن يعرف أحد السبب بالتحديد على ما يبدو. برأي خوسيه بيزارو، المالك والمؤسس الإسباني المشهور لمجموعة بيزارو للمطاعم، فإنها “أفضل طريقة للأكل”. ويقول إنها لذة عميقة يصعب جداً التفوق عليها. فهي تولد رابطاً سحرياً نوعاً ما بينك وبين الطعام. إن لم تأكل يوماً بيدك حبة قريدس كبيرة ومليئة بالعصارة مغطاة بطبقة من الثوم والليمون ثم تمارس طقس نزع أرجلها وقشرتها والتهام دماغها – فلم تعش حياتك بعد!”.
ما سبب اللذة التي يجلبها الإحساس بملمس الطعام؟ يرى بعضهم أن لمس الطعام مفيد إذ يتيح لك فحص حرارته بشكل أفضل بأصابعك، وهذا بالتالي ما يقلل من خطر أن تحرق لسانك. ويزعم آخرون أن الأصابع عليها “بكتيريا مفيدة” تنتقل إلى الجهاز الهضمي عندما يأكل المرء بيديه، مع أنه من الصعب تقدير كميتها. لكن من جانبه، يعتقد تشارلز سبينس، بروفيسور علم النفس التجريبي في جامعة أوكسفورد، أن المتعة تكمن في تصورنا للطعام وليس أية فائدة حسية أخرى.
خلال بحثه في شكل اختلاف تجربة الأكل عندما يتناول الناس طعامهم باستخدام أيديهم بدل الأدوات، وجد سبينس أن التواصل المباشر والحسي مع الطعام “يعزز تجربة” الأكل والشرب على ما يبدو. ويقول “يشمل الموضوع كماً كبير من المدخلات الحسية التي تحصل لنا قبل أن نضع اللقمة في فمنا حتى. فاستخدام باطن الأصابع الحساس يسمح لنا بأن نستشرف اللذة في طعام معين قبل أن يصل إلى لساننا”. وفي تناول الطعام باليد جانب عملي كذلك. إذ يمكننا أن نقدر مدى نضوج الفاكهة عبر الضغط عليها بلطف، أو نعرف إن كان الطعام سيكون طرياً أو مقرمشاً قبل أن يقضموها.
بعض الأطباق بالطبع لا يمكن تناولها باليد. لا شك في أن أكل النودلز والمعكرونة والشوربات يتطلب أدوات، لكن لا شيء يمنعنا من الاستمتاع أكثر بالأطعمة التي يمكننا تناولها بأيدينا. إن لم تحاول يوماً أن تتناول أي شيء غير سندويشاً أو فطيرة، أشجعك تماماً على تجربة شيء جديد. التقط ورقة خس مع السلطة في المرة من كتاب بلاث، أو جرب بعض الرز والكاري. ستحتاج إلى بعض الممارسة لكي تطور مهارة الأكل من دون أن توقع حبات الرز في كل مكان، لكنني أعدك بأن الأمر يستحق.