حرية – (10/9/2023)
حين نلتقي بآخرين نحاول ترك انطباع جيد لديهم، وتكون الرائحة التي تخرج من ملابسنا وأجسامنا من ضمن الأشياء التي تترك أثراً عنا، فالرائحة جزء من الهوية الشخصية، سواء كانت رائحة الجسم الأصلية أو روائح الصابون التي نغسل به شعرنا وأجسامنا أو رائحة العطر الذي نضعه.
والروائح التي نتعطر بها هي بمثابة امتداد لهويتنا الجسدية والمعنوية، فالعطر يدل على صفات كثيرة كالتعبير عن النفس وإثبات الذات في المجموعة، كما تدل الرائحة أيضاً على أنواع الطعام التي يحبها الشخص وربما الموسيقى التي يختارها طالما أنها تدل على المشاعر التي يريد منحها للآخرين عبر حاسة الشم التي لا تزال من أهم الحواس لدى البشر في تركيب العلاقات الاجتماعية، وفي انجذاب حبيبين كل إلى الآخر، بحسب دراسات كثيرة تتناول تأثير روائحنا في نظرة الآخرين إلينا.
العطور النفسية
والعطر بمثابة امتداد غير مرئي لصفاتنا، وحاسة الشم لدى الآخرين هي العين التي تنظر فيها، بحسب ما يجمله علمي النفس والاجتماع، وتؤكد علوم الروائح في البحوث الاجتماعية أن أكثر العشاق والأزواج ينجذبون إلى رائحة الشريك من بين ما ينجذبون إليه أولاً، لكن هذا الانجذاب غير واع تقريباً وأقرب إلى الغريزة البدائية التي حافظ عليها البشر خلال تطورهم، وأضافوا إليها روائح من الطبيعة كمحاولة لإبراز نظافة الشخص بشكل أساسي مما يساعد في تكوين صورتنا أمام الآخرين.
أذواق الناس في الروائح تختلف اختلافاً شديداً لكن الرائحة الكريهة يعرفها الجميع
في ما يتعلق بالنظافة الشخصية فقد اهتمت بها جميع الثقافات والمجتمعات والديانات على أنواعها، ومن المعروف أنه قبل استخدام العطور كان يجب التأكد من نظافة الجسم وإلا ستكون النتيجة غير مرغوب بها ومعاكسة للهدف من وضع العطور على الجلد أو فوق الملابس ذات الرائحة غير المقبولة عموماً، بخاصة أن أذواق الناس في الروائح تختلف اختلافاً شديداً، لكن الرائحة الكريهة يعرفها الجميع من دون استثناء تقريباً أو بوجود استثناءات لأشخاص يحبون الروائح الكريهة ويفضلونها، لكنها حالات خاصة قد تكون مرضية في كثير من الأحيان.
رواية وفيلم وحياة
كانت رواية “العطر” لباتريك زوسكند اكتسبت شهرتها حول العالم ليتم تحويلها إلى فيلم سينمائي قبل سنوات نال إعجاب النقاد حول الألم، وتعود شهرة هذه الرواية إلى أنها تدفع القارئ إلى شم رائحة كل شيء يحيط به حتى الرائحة المنبعثة من الجدران أو خشب الطاولة أو الروائح البعيدة من غابة أو سهل محصود وغيرها، فكل شيء على هذا الكوكب يمتلك رائحته الخاصة الأشبه ببصمة، والإنسان عرف العطور من الطبيعة وأزهارها وأعشابها ونسائمها. وفي رواية “العطر” التي تحفز حاسة الشم لدى القارئ بخاصة أن معظم أحداثها تدور في مصانع للعطور بمدينة باريس المشهورة بعطورها وأدوات التجميل التي تصدرها إلى معظم أنحاء العالم، أظهرت هذه الرواية أن حاسة الشم يمكن تحفيزها بكل الطرق سواء عبر الذكريات أو بمجرد ذكر اسم شيء ذي رائحة معينة.
تدفع رواية “العطر” القارئ إلى شم رائحة كل شيء يحيط به حتى المنبعثة من الجدران
وطالما كان الشرق مضمخاً بروائح البخور والعطور والطيب والعود والمسك والعنبر، سواء في الكتب والروايات الشرقية القديمة كـ”ألف ليلة وليلة” أو في الصورة التي نقلها المستشرقون عن الشرق الذي زاروه خلال القرون الخمسة الأخيرة، وللدلالة على العلاقة العميقة بين العطور والروائح الجميلة والمشرق عموماً، وفي صورته لدى المستشرقين من الرحالة الأدباء أو الرسامين، فإن لوحة المستشرق النمساوي رودلف أرنست (1854-1932) “بائع العطر” تعد من بين اللوحات الأكثر استنساخاً في العالم، وترصد مرحلة من مراحل صناعة العطر في المغرب العربي، وهي استخلاص الزيت العطري من الورد الجوري بعد قطفه من شجيراته، التي تتم عادة في فصلي الخريف والربيع.
سيرة العطر
عاصف الخالدي يكتب في بحثه حول “العطور في الثقافة العربية والإسلامية” أن عديداً من كتب التاريخ مثل كتاب “البلدان” لليعقوبي و”معجم البلدان” لياقوت الحموي و”نزهة المشتاق” للإدريسي و”المسالك والممالك” لابن خرداذبة ومؤلفات ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما لم تخل من سيرة العطر، كما لم تخل كتب اللغة والبلاغة من أسماء العطور وأنواعها ومعانيها، وكذلك الكتب التي تتناول الجسد وتضم ملاحظات حول علاقة الرائحة بالتواصل الجسدي بين الرجل والمرأة.
في تحقيق حول الروائح والعطور في الثقافة الإيرانية كتب مهدي كنجي عن “ماء الورد” في أفراح وأتراح الإيرانيين وفي مطبخهم وفي الطب التقليدي، وتحديداً ماء الورد الجوري الذي يدخل في مائدتهم ويتعطرون به ويغسلون به وجوههم، وكان عطر الورد رائحة شرقية إيرانية بامتياز حتى قبل 400 عام إلى أن تم تصدير ماء الورد وأدوات التقطير إلى الإمبراطورية العثمانية وإسبانيا وغيرها من البلدان، وكان موسم تقطير ماء الورد عبارة عن طقوس خاصة كثيرة في معظم المشرق، حيث تقام الاحتفالات وتقرع الطبول وتعقد حلقات الرقص الفلكلوري وتردد الأغاني التراثية، وكثير من التأريخ العربي القديم أو الأرشيف التاريخي الحديث يتناول العادات الاجتماعية في الشرق والطقوس التي تقام لتحضير العطور والمنتجات العطرية المستخرجة من الفواكه والزهور والورود والأعشاب وتستخدم في المطبخ وفي التداوي المنزلي.
مهنة العطارة
في القاهرة لا يسمى بائع العطر عطاراً، فهذا اللقب يطلق على بائع التوابل والبهارات والزيوت، أما مصنع العطر فيطلق عليه اليوم في اللغة الدارجة “برفيومر”، كما كتب حمد عماد في تحقيق حول محال العطور في القاهرة، وقد انطلقت تسمية “برفان” على العطور في مصر خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ومهنة العطارة في العالم العربي يتوارثها الأبناء عن الآباء، فهي تجارة محاطة بالموهبة ومعرفة كل عشبة وكل زهرة وما يستخلص منهما، كما أن بضائع العطارين يستجلبونها من مختلف أقطار العالم، ونجد في العالم العربي وفي مختلف بقاعه عائلات تسمى “العطار” وهو لقب منحتهم إياه مهنة العطارة، كما جاء في تحقيق لمجلة “القافلة”.
برزت العطور في قصص “ألف ليلة” التي يكاد القارئ يشم روائحها من بين السطور
أما أول استخدام مسجل للعود فيعود إلى عام 1400 قبل الميلاد، حين وجد الباحثون كلمة العود مدونة مع وصفات تعود لتلك الفترة، وتنتشر أشجار العود الذي يستخدمه الإيرانيون وأهل الجزيرة العربية اليوم في جنوب شرقي آسيا مثل الهند وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام وكمبوديا والفيليبين، ويسمى عطر العود بالذهب الأسود فهو حامل الرائحة الدخانية الحلوة والحادة، وهو رمز الفخامة وزينة الهواء في الخليج، ومهما ارتفعت أسعاره فهذا الأمر لا يمنع عشاقه من اقتنائه، كما كتب الصحافي محمد إبراهيم، الذي يشير إلى أن المراسلات التاريخية القديمة تقول إن تجار شبه الجزيرة العربية كانوا يجلبون العود من الهند والبخور من بلاد الشرق القديمة، وقد برزت هذه العطور في قصص “ألف ليلة” الشهيرة التي يكاد القارئ يشم روائحها من بين السطور حين يقرأها، وربما انتشر استخدام العطور لدى المسلمين تيمناً بالرسول الذي أشار في مناسبات عدة إلى تقديره الكبير للطيب والعطر، كما رد في كثير من الأحاديث المنسوبة إليه التي تعد المصدر الثاني لفهم الدين الإسلامي. وفي معظم الأديان المشرقية تدخل العطور وزيوتها والبخور في العبادات والقرابين التي تقدم للآلهة القديمة والحديثة.
في النكهة والرائحة
في كتابه “العطور ومعامل العطور في مصر القديمة” يقول الكاتب المصري محمد عبد الحميد شيمي إن “وادي النيل كان منذ قديم العصور أرض الأدهان والعطور، وامتلك أبناؤه ناصية التعامل مع الزهور وأوراق جذور النباتات التي تنمو في تربة أرض الكنانة، وسواء أراد المصريون القدماء أن يعدوا المتوفى للحياة الآخرة أي عالم الخلود، أو أرادوا أن يحموا أنفسهم من أشعة الشمس وينالوا إعجاب الآخرين، أو حتى أن يأخذوا بمجامع قلوبهم، فقد استخدموا جميعاً رجالاً ونساءً الأدهان ومساحيق التجميل والعطور”.
أكثر العشاق والأزواج ينجذبون إلى رائحة الشريك من بين ما ينجذبون إليه أولاً
في هذا العصر يستثمر كثير من الناس في النكهة والرائحة، وتتنافس الشركات في الاستحواذ على صناعة العطور التي تم توليفها من قبل عطارين لصالح دور أزياء شهيرة، أو عطارين كيميائيين ينتمون لهذه الشركات وعددها خمس شركات فقط تسيطر على صناعة العطور والنكهات في العالم، وهي شركتان سويسريتان، وشركة أميركية مقرها نيويورك، وواحدة ألمانية، وأخرى متعددة الجنسيات بين ماليزيا وهونغ كونغ، وتملك معظم هذه الشركات استثمارات في التعليم والبحث والتطوير، ولقد حصل اثنان من كيمائيي إحدى هذه الشركات المسيطرة على جائزة “نوبل” في الكيمياء.