حرية – (10/9/2023)
بين أحضان الأراضي الزراعية تردد الشيف سمر الأهازيج الفلسطينية بينما تقطع حبات البصل والباذنجان إلى شرائح وتغسل قطع اللحم وتجهز الرز استعداداً لطهي طبق “المقلوبة” أمام مجموعة من شباب غزة الذين يستعدون للسفر إلى دول أوروبية لتعليمهم أصول إعداد هذه الأكلة الفلسطينية.
تشعل سمر النار بأكوام الحطب، وفي القدر تضع بالتدريج مكونات “المقلوبة”، وتشرح كل خطوة تنفذها أمام الشباب، وتتيح لهم فرصة تجريب إعداد الطعام بأنفسهم ليستطيعوا نقله إلى دول العالم والتعريف به كطبق فلسطيني.
سفراء المطبخ
تحاول سمر تعليم الشباب أصول طهي الأطباق الفلسطينية، بحسب الوصفات التقليدية المتوارثة، وتحرص على أن يتقن الشباب وصفات الطعام بدقة، ولا تدع أحداً يغادر قبل أن تتأكد من أنه يجيد صناعة الوجبة. تقول “من المهم أن يعرف هذا الجيل تفاصيل المطبخ الفلسطيني القديم، بخاصة الشباب الذين يسافرون، ونسعى بذلك إلى أن لا ندع المطبخ الغربي يؤثر عليهم حتى لا تفقد الأجيال المقبلة هويتها الثقافية والتراثية”. وتضيف “هؤلاء الشباب سفراء فلسطين إلى العالم، وعند إقامتهم في الخارج سيدافعون عن أطباق مطبخنا، هناك سيسمعون أن الحمص والفلافل والقدرة والشكشوكة أكلات إسرائيلية، وعليهم توعية العالم بأصناف مطبخنا والدفاع عن أكلاتنا التراثية التي يجب علينا المحافظة عليها”.
تجزم إسرائيل بأن وصفات الطعام المحلية مبتكرة من اليهود ودخلت المطبخ الفلسطيني لاحقاً
بحسب سمر فإن معركة ثقافية تدور بين الفلسطينيين والإسرائيليين خارج حدود الجغرافيا حول أطباق الطعام، وسيواجه المسافرون تحديات في شأن أصول هذه الأكلات وطرق إعدادها، لافتة إلى أنه “يقع على مسؤوليتهم عبء كبير لتوضيح الحقيقة للعالم”.
وتشير إلى أنه بعد أن يتعلم شباب غزة طهي المأكولات التقليدية التي يدور حولها الجدل، فإن من المنوط بهم فور وصولهم إلى دول العالم الشروع في طهيها أمام المارة، وتقديم بطاقة تعريفية بهذه الوجبات تتضمن تاريخها وأوصلها ووصفتها وقيمتها الغذائية، ومعلومات ثقافية عن مطبخ فلسطين. وتؤكد أن “الاحتفاظ بالمأكولات الفلسطينية بحسب وصفتها التقليدية المتوارثة وطهيها في مطابخ دولية يسهم في الحفاظ على حقنا عند نسب هذه الأطباق إلى هويتنا، ويقطع الطريق أمام المحاولات الإسرائيلية لتهويد هذه الوصفات”.
وصفات بالإنجليزية
في الزاوية المقابلة للشيف سمر تنشغل الطاهية تحرير في إعداد طبق “المسخن” المكون من زيت الزيتون والسماق والبصل وقطع لحم الدجاج، وبينما تطهو تصورها زميلتها بهاتفها المحمول وهي وتشرح باللغة الإنجليزية تفاصيل وطريقة إعداد الوصفة التي يتميز بها الفلسطينيون.
لدى تحرير عدد كبير من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي معظمهم من أميركا ودول أوروبية، وتقدم لهم محتوى عن الطعام الفلسطيني بلغتهم، وتشرح وصفات إعداد الأطباق، وتنشر صور المشاركات التي تصل إليها منهم، في محاولة لتشجيع مزيد منهم على إعداد المأكولات الفلسطينية وتذوقها.
تصل إلى تحرير كثير من التعليقات التي تتساءل إذا كانت وصفات الطعام التي تقدمها فلسطينية أم إسرائيلية، لكنها ترد بالدليل بأن المأكولات مأخوذة من المطبخ الفلسطيني. تقول تحرير “الحفاظ على الأكلات الشعبية يعد أحد أشكال حماية الهوية والتاريخ الفلسطيني، ومن الضروري مخاطبة العالم في هذا المجال، نحن مقصرون في ذلك”.
في الواقع، جاء تعليم شباب غزة طهي المأكولات التقليدية وتصويرها للعالم ضمن مبادرة “زادنا دافي” التي أطلقتها الجمعية الفلسطينية لفنون الطهي، وشارك في الفاعلية 25 طاهياً لديهم خبرة طويلة في إعداد الأكلات الفلسطينية بأساليبها التقليدية، وخلالها طهوا وصفات “المسخن” و”السماقية” و”الرمانية” و”القدرة” و”المفتول” و”خبز الصاج”.
تقول عضو مجلس إدارة الجمعية الفلسطينية لفنون الطهي رولا القيشاوي، إن طهاة غزة محرومون من المشاركة في أي مهرجان دولي لفنون الطهي بسبب عراقيل السفر، وهو ما يعطل نشاط المطبخ الفلسطيني. وتضيف “لقد بات العالم جاهلاً بأية أطباق فلسطينية، لذلك حاولنا مخاطبتهم بطرق مختلفة من أجل زيادة الوعي بمطبخنا ونقل تجاربنا في هذا المجال إلى العالم، مما يعزز الحفاظ على هويتنا الثقافية”.
صراع الأكلات
منذ سنوات طويلة يتصارع الفلسطينيون والإسرائيليون على أصل وصفات الطعام المحلية، ومن بين الوجبات التي يدور حولها الخلاف “الحمص” و”الفلافل” و”الشكشوكة” و”المفتول”.
بسبب عراقيل السفر لا يشارك طهاة غزة في المسابقات الدولية لطهي الطعام
إسرائيل صنفت “الحمص” على أنه أنه الطبق الوطني لها والأكلة الأكثر انتشاراً بين مواطنيها، إضافة إلى تخصيصها أسبوعاً لـ”الشكشوكة” في ديسمبر (كانون الأول) من كل عام، لكن الفلسطينيين يؤكدون أن هذا بمثابة اختراق لمطبخهم. يقول مسؤول الدائرة الثقافية في وزارة الثقافة عاطف عسقول، إن “إسرائيل قامت ببعض الاختراقات في مجال تسويق الأكلات الفلسطينية وقالت إنها من مطبخها، ونسيت أن لنا ممتلكات تراثية وثقافية تمتد لمئات السنين”. ويضيف “للحفاظ على الأكلات الشعبية الخاصة بنا أصدرنا قائمة بالتراث الفلسطيني غير المادي، والطعام واحد منها، وأرسلناها إلى منظمة الـ(يونيسكو) التي بدورها اعترفت بها، وتعد هذه القائمة مرجعية معترفاً بها من دول العالم، وطريقة للحفاظ على حقنا في حماية مطبخنا، ورداً على الرواية الإسرائيلية”.
في المقابل، تقول الباحثة الإسرائيلية في مجال الطهو رحيلا مزراحي، إن بعض الأكلات انتقلت مع اليهود العرب الذين وصلوا إلى إسرائيل من أنحاء العالم العربي، وهذا يعني أنها ليست للفلسطينيين، بل أساسها يهودي. وتضيف “من الطبيعي أن تكثف إسرائيل حملتها في تعريف العالم بمأكولاتها، لأن هذا حق يجب أن ينسب لأصحابه، ولدينا الوصفات التقليدية المتوارثة من الأجداد اليهود، وعلى العالم أن يستوعب ذلك”. وتوضح أنه “بسبب التداخل بين الفلسطينيين والإسرائيليين في طبيعة الحياة، باتوا ينقلون وصفات الطعام ويعدونها في بيوتهم، بالتالي أصبحوا ينسبونها إلى مطبخهم”.