حرية – (21/11/2023)
تعتبر مدينة أريحا في فلسطين التي يواصل الاحتلال الإسرائيلي عمليات اقتحامها واحدة من أولى المدن التي بناها البشر على الإطلاق أثناء انتقالهم من مجتمعات الصيد وجمع الثمار إلى الحضارات المستقرة، فكانت أول مدينة مسوَّرة في التاريخ، وقد عُثر فيها على الكثير من الاكتشافات التي أذهلت العالم.
تاريخ مدينة أريحا في فلسطين
بدأت الحياة في مدينة أريحا باعتبارها منطقة تخييم للصيادين وجامعي الثمار من الثقافة النطوفية التي يعود تاريخها إلى 10000 قبل الميلاد.
ولكن هذا الوضع لم يبدأ حتى انتهاء البرد والجفاف الناجم عن العصر الجليدي الأخير أو كما يطلق عليه علمياً “درياس الأصغر” حوالي عام 9600 قبل الميلاد.
حينها بدأ الناس النطوفيون في المنطقة يبحثون عن طريقة آمنة للحياة، وهي الانتقال إلى مستوطنات دائمة تقيهم الظروف الجوية السيئة.
أول منطقة تم اختيارها لتكون مستوطنة كانت “تل السلطان” التي تبعد مسافة 2 كيلومتر عن مدينة أريحا، لتصبح أول مستوطنة دائمة في عصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، وهي منطقة تقع على نبع عين السلطان الذي يمدها بالمياه، وفقاً لما أكده موقع World History Encyclopedia.
وبحلول عام 9400 قبل الميلاد تقريباً، نمت المستوطنة لتشمل أكثر من 70 منزلاً، ويبلغ قطر هذه المساكن الدائرية 5 أمتار تم بناؤها بالطين والقش.
أريحا أول مدينة مسوَّرة بالتاريخ
تكشف الأدلة الأثرية أنه بحلول عام 8000 قبل الميلاد، نما الموقع إلى 40 ألف متر مربع، وكان محاطاً بجدار حجري يبلغ ارتفاعه 3.6 متر، وعرضه 1.8 متر عند القاعدة، وهو أول سور يبنى حول مستوطنة في التاريخ.
يوجد داخل الجدار برج حجري يبلغ ارتفاعه 8.5 متر وعرضه 9 أمتار عند القاعدة، وكان للبرج درج داخلي مكون من 22 درجة، ويعتقد أن الجدار كان يستخدم لحماية المستوطنة من مياه الفيضانات.
كما يعتقد أيضاً أنه تم استخدام البرج لأغراض احتفالية، ما يشير إلى وجود تنظيم اجتماعي يحدث في المدينة.
ويعتقد بعض العلماء أن البرج كان يستخدم لتحفيز الناس على المشاركة في نمط الحياة المجتمعي.
وتختلف التقديرات حول عدد السكان حيث يتراوح الحد الأدنى من 300 إلى 3000 كحد أقصى.
في هذا الوقت قام السكان بتدجين القمح والشعير والبقوليات، ومن المحتمل جداً أن يكون الري قد تم اختراعه هناك أيضاً لتوفير مساحة كافية من الأرض لزراعة هذه المحاصيل، فيما استكملوا نظامهم الغذائي بصيد الحيوانات البرية.
وبعد بضعة قرون، تم التخلي عن المستوطنة الأولى في حوالي 7000 قبل الميلاد، إذ تم إنشاء مستوطنة ثانية على يد شعب غازي استوعب السكان الأصليين في ثقافتهم، وكانت أيضاً مستوطنة من العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، كما أن هناك أدلة على احتمال تدجين الأغنام في هذا الوقت تقريباً.
في حين كانت المباني عبارة عن هياكل مستقيمة مصنوعة من الطوب اللبن، يتكون كل مبنى من عدة غرف تقع حول فناء مركزي، كانت الغرف ذات أرضيات مصنوعة من الجير وكان للفناء أرضية مصنوعة من الطين.
تشمل التطورات الأخرى الصوان على شكل رؤوس سهام، وشفرات منجل، ومثاقب (تستخدم كأزاميل)، وكاشطات، وفؤوس.
كما تم العثور على أحجار الرحى والمطارق والفؤوس المصنوعة من الحجر الأخضر.
تم نحت الأطباق والأوعية من الحجر الجيري الناعم، وكان أعظم ما يميز هذه الثقافة هو أنهم احتفظوا برؤوس أقاربهم المتوفين عن طريق تجصيص الجماجم ورسم ملامح الشخص عليها، تم حفظ هذه الجماجم في المنزل ودفن باقي الجثث.
استمرت الحياة على هذا الشكل حتى حوالي 6000 قبل الميلاد، إذ ثمة أدلة قليلة على وجود احتلال لمدينة أريحا لمدة 1000 عام على الأقل.
سقوط أريحا في العصر البرونزي
وبعد ذلك، تم إنشاء مستوطنات جديدة في أريحا بشكل دوري، كانت هذه المستوطنات لا تزال من العصر الحجري الحديث، ولكن هناك أدلة على أنها كانت تنتج الفخار.
أصبحت مدينة مسوَّرة مرة أخرى في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، وتشير الأدلة إلى أن الجدران أعيد بناؤها عدة مرات.
تم بناء أكبر هذه المستوطنات في عام 2600 قبل الميلاد على يد الأموريين.
وفي حوالي عام 2300 قبل الميلاد، حدث انقطاع آخر في احتلال الموقع، إذ استولى عليها الكنعانيون في عام 1900 قبل الميلاد ووصلت إلى ذروتها بين عامي 1700 قبل الميلاد و1550 قبل الميلاد.
في العصر الكنعاني عُرفت أريحا باسم “مدينة القمر” نسبة إلى الإله الكنعاني “باريخ”، لتعرف حينها باسم مدينة القمر.
كان هذا بسبب صعود الأرستقراطيين الذين استخدموا عربات تسمى ماريانو في ولاية ميتانيت في الشمال، وقد أدى صعودهم إلى توسع حضري أكبر في المنطقة المحيطة، بما في ذلك أريحا.
بحلول هذا الوقت، كان هناك جداران حول المدينة في سياج مزدوج مصنوع من الطوب اللبن، كان الجدار الخارجي يرتكز على قاعدة حجرية.
وعلى الرغم من حجم السور المثير للإعجاب، فإنه لم يكن مستقراً، إذ سقطت أريحا في العصر البرونزي في القرن السادس عشر حوالي عام 1573 قبل الميلاد عندما دمرها زلزال عنيف.
يشير الخشب المتفحم الموجود في الموقع إلى أن بقايا المدينة قد احترقت.
بينما تشير الإمدادات الغذائية المدفونة أيضاً إلى أنه لم يتم الاستيلاء عليها بعد الزلزال وظلت غير مأهولة حتى أواخر القرن العاشر أو أوائل القرن التاسع قبل الميلاد عندما أعيد بناؤها.
بنو إسرائيل ومعركة أريحا
وفقاً لما ذكره موقع TheCollector التاريخي، فإنه قد ذكر في الكتاب اليهودي المقدس سفر يشوع، أن مدينة أريحا كانت أول مدينة يهاجمها بني إسرائيل في حوالي عام 1400 قبل الميلاد، بعد أن عبروا نهر الأردن ودخلوا بلاد كنعان.
ووفقاً للرواية التي ذكرت في سفر يشوع، فإن بني إسرائيل طافوا حول سور مدينة أريحا 7 أيام حاملين تابوت العهد، وفي اليوم السابع أمر يوشع بن نون شعبه أن ينفخوا في أبواق الكباش ويهتفوا حتى سقط سور المدينة.
في حين تكشف الحفريات في الموقع عن شبكة من الجدران المنهارة التي يعود تاريخها إلى أواخر القرن السابع عشر أو أوائل القرن السادس عشر قبل الميلاد، وكان السبب الأرجح للانهيار هو الزلزال.
بينما يعتقد بعض العلماء أن هذه القصة الواردة في سفر يشوع ليست إلا قصة رمزية، وأنه تمت كتابتها في وقت ما بعد عام 722 قبل الميلاد، بعد فترة طويلة من تاريخ الحدث، وتم استخدامها للمطالبة بالأراضي لمملكة إسرائيل.
أريحا.. مدينة مليئة بالأسرار
بين عامَي 1952 و1958، ترأست عالمة الآثار البريطانية كاثلين كينيون العمل في موقع أريحا، وقد أذهلت اكتشافاتها العالم، إذ تم اكتشاف أن أريحا قديمة للغاية، ويعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث، قبل آلاف السنين من اختراع الكتابة.
كما قادت اكتشافاتها الأكاديميين إلى الاعتقاد بأن أريحا كانت أقدم مستوطنة في العالم، حيث يعود تاريخ استيطانها إلى 10000 قبل الميلاد.
هذا التمييز بكونها أقدم مستوطنة لا يزال قائماً حتى اليوم، على الرغم من أنها لا تعتبر المدينة الأولى من حيث المتطلبات الأكاديمية لما يشكل مدينة، إذ يذهب البعض لاعتبار حلب في سوريا هي أقدم مدينة في التاريخ، إذ وبحسب منظمة اليونسكو للبحوث التاريخية والأثرية يعود تاريخها إلى 12200 سنة قبل الميلاد.
كما قاد فريق إيطالي فلسطيني مشترك بقيادة لورنزو نيغرو وحمدان طه وجهاد ياسين أعمال التنقيب في الفترة من عام 1997 إلى عام 2015، وأدت هذه الحفريات إلى اكتشافات الأبراج الدفاعية التي تم بناؤها على تل السلطان.
في وقت انهيار العصر البرونزي، ولعدة قرون، كان موقع أريحا خالياً تماماً، ولم تتم إعادة بناء المدينة إلا في القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد، خلال العصر الحديدي، خلال القرن السادس قبل الميلاد، تم تدمير هذا التكرار لأريحا على يد البابليين أثناء غزوهم ليهوذا.
انتهت سبع وأربعون سنة من الحكم البابلي عندما غزا الفرس بابل عام 598 قبل الميلاد.
وبعد ذلك تم تخصيص أريحا لإعادة الإعمار، وظهرت المدينة مرة أخرى من تحت الرماد.
وبعد مئتي عام، تغيرت السيطرة عليها مرة أخرى عندما غزا الإسكندر الأكبر الفرس.
استخدم الإسكندر أريحا كملكية شخصية له في الفترة من 336 قبل الميلاد إلى 323 قبل الميلاد، وبعد ذلك أصبحت جزءاً من الإمبراطورية السلوقية – وهي دولة خليفة لإمبراطورية الإسكندر.
بعد الغزو الروماني، تم منح أريحا إلى كليوباترا من قِبل مارك أنتوني، ولكن بعد انتحارهما المشترك، انتقلت ملكية أريحا إلى الملك هيرودس، الذي حكم يهودا في عهد الرومان.
بنى الملك هيرودس ميدان سباق الخيل وأضاف قنوات إلى أريحا، وذلك لخدمة أحد قصوره الجديدة التي بناها في مكان قريب، لتصبح أريحا مدينة رفيعة المستوى مليئة بالأثرياء.
ومثل بقية الأرض المقدسة، ستنتقل السيطرة عليها عدة مرات بعد العصر القديم، من البيزنطيين إلى الأمويين، والصليبيين، والعثمانيين، وغيرهم الكثير.
استمرت أريحا في الازدهار حتى الفتوحات العربية للمدينة في القرن السابع الميلادي حيث باتت أريحا تابعة للرملة في فلسطين.
أريحا اليوم
اليوم أريحا هي مدينة يبلغ عدد سكانها ما يزيد قليلاً عن 23.000 نسمة، وتقع في الضفة الغربية الفلسطينية، وتقع على بُعد 7 كيلومترات غرب نهر الأردن، و10 كيلومترات شمال البحر الميت، و30 كيلومتراً إلى الشرق من بيت المقدس، وتنخفض إلى مستوى 250 متراً تحت سطح البحر.
كانت أريحا تحت الإدارة الأردنية بين 1948-1967، وبعد ذلك احتلتها إسرائيل، وفي عام 1994 تسلمت السلطة الوطنية الفلسطينية إدارة المدينة، ليمنحها موقعها التاريخي والجغرافي والسياحي لقب “فلسطين الصغيرة”.
في فترات متفاوتة من الزمن، عانت مدينة أريحا من اجتياحات عسكرية إسرائيلية متعددة، وتأثرت ولا تزال متأثرة بالحواجز العسكرية الدائمة والمؤقتة حسب الأوضاع الميدانية.
ووفقاً لما ذكره موقع “الجزيرة نت”، فقد شكلت أريحا البوابة الشرقية لفلسطين، وتضم اليوم “معبر الكرامة” الذي يسهل انتقال المسافرين وحركة التبادل التجاري من فلسطين وإليها، لكن لا يمكن الدخول إليها والخروج منها إلا عبر بوابتين، تحت حراسة جيش الاحتلال، ولذلك تعتبر أريحا هي نقطة العبور الحدودية الوحيدة لدخول الضفة الغربية أو الخروج منها.