حرية – (25/11/2023)
في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، بدا وكأن مجمع العقيدة والإيمان في حاضرة الفاتيكان، يتحرك من جديد، وهو الجهة المسؤولة عن بلورة ما يؤمن أو لا يؤمن به أتباعها، من عقائد وأفكار، وما يمكن أن يكون صالحاً للانضمام إليه من هيئات ومؤسسات أممية، أو طالحاً يتوجب الامتناع عنه، ويعد هذا المجمع، أحد أهم الدوائر الفاعلة في قلب المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، ويكفي أن يعرف القارئ أن رئيسه على مدى ربع قرن، كان البابا السابق بندكتوس السادس عشر.
لماذا العودة إلى هذا المجمع والحديث عنه مرة جديدة، وما هو التحرك الذي لفت انتباه العالم إليه؟
أعلن المجمع عبر وثيقة جديدة ممهورة بتوقيعات البابا فرنسيس، ورئيس المجمع الكاردينال فوكس فرنانديز، عدم وجوب انضمام أو مشاركة الكاثوليك في ست قارات الأرض للجماعات الماسونية أو الانضمام إليها.
يقول الإعلان، “على المستوى العقائدي، يجب أن نتذكر أن العضوية النشطة في الماسونية من قبل عضو مؤمن محظورة بسبب عدم التوفيق بين العقيدة الكاثوليكية والماسونية”.
ولذلك “فإن أولئك المسجلين رسمياً وعن علم في المحافل الماسونية واعتنقوا المبادئ الماسونية يخضعون لأحكام الإعلان الصادر في عام 1983″، حين كان الكاردينال راتزينجر هو عميد أو رئيس هذا المجمع، وفيه، “إن الكاثوليك الذين ينضمون إلى المحافل الماسونية يرتكبون خطيئة جسيمة، ولا يمكنهم تلقي الأسرار المقدسة، وبالتحديد سر الإفخارستيا أو القربان المقدس”.
لماذا تجدد الكنيسة الكاثوليكية موقفها من الجمعيات الماسونية؟
من الواضح أن هناك كان طلباً خاصاً من قبل أسقف الفيليبين “جوليتو كورتيس”، الذي أثار مخاوف بشأن الاهتمام المتزايد بالجمعية الماسونية في بلاده، كما طلب كورتيس مقترحات من المجمع لمواجهة هذا الواقع من الناحية الراعوية.
مجمع العقيدة والإيمان أشار إلى أن كثيرين من الفيليبينيين يعتبرون الانتساب إلى الماسونية غير مناهض للإيمان الكاثوليكي، ولهذا ينضم كثيرون منهم إلى هذه الحركة، ومن هنا رأت الكنيسة في الفيليبين أن مواجهة هذه الظاهرة تفترض تدخل مجلس الأساقفة الفيليبينيين المدعو اليوم إلى تفعيل استراتيجية متناسقة بين الأساقفة.
على أن الإعلان الأخير يأخذنا في واقع الأمر إلى عديد من الأسئلة الجوهرية، عن ماهية الماسونية كما تعرفها المراجع المعلوماتية المتخصصة، وما هي مبادئها وأهدافها، ثم كيف تنظر إليها الكنيسة الكاثوليكية في الحال، وكيف تعاطت معها في الماضي، ثم كيف تدافع هذه الحركة عن نفسها، وما الذي كان يقوله المنتسبون إليها من قبل ثم عادوا من جديد إلى الكنيسة الكاثوليكية؟
الدعاية الكاثوليكية النموذجية المناهضة للماسونية في القرن التاسع عشر
رؤية تاريخية للحركة الماسونية
لعلنا لا نتجاوز الواقع إن قلنا إن الحركة الماسونية، هي واحدة من أكثر الحركات أو الجمعيات غموضاً في التاريخ، والصدق يدفعنا للإقرار بأنه من رواية واحدة مؤكدة بشكل مطلق عنها، فهناك من يدعي أنها تعود إلى زمن أبو البشرية آدم عليه السلام، وهناك من يرجعها لحضارات شرقية، وآخرون يزعمون أنها حركة يهودية الأصل تعود إلى زمن سيدنا سليمان، فيما البعض الآخر يعتبرها مجموعات ذات رؤية وأهداف محددة نشأت حديثاً في أوروبا الوسطى، وقد تكون بعض من هذا كله.
بالعودة إلى الطريقة البحثية المنهجية، والتوقف مع دوائر المعارف العالمية، فإننا نجد في دائرة المعارف البريطانية تعريفاً يقول بأنها “أكبر جميعة سرية في العالم، وهي جماعة يشوبها الغموض الشديد، لا يعرف منها إلا الجانب الظاهري فقط، الذي يدعي أنها جمعية خيرية قائمة على شعار “الحرية والمساواة والأخوة”.
يستلفت هذا الشعار أي باحث له دالة بصورة أو بأخرى على التاريخ، إذ إنه، كان ولا يزال “شعار الثورة الفرنسية”، تلك التي عرفت بأنها أسوأ ثورة دموية في تاريخ أوروبا، كما أنها الثورة التي عملت جاهدة على إزاحة الكاثوليكية كدين مسيطر على الحياة الفرنسية، إزاحة تامة، رافعة شعار “فصل الدين عن الدولة”.
على أنه بحسب قول المنتسبين إليها، تبقى جمعية هدفها سعادة الإنسان، وأنها بعيدة عن دائرة الأديان، بل تعتبر كل إنسان مستقيم عضواً فيها.
يقول أحد نصوصها كما جاء في الموسوعة البريطانية، “فليُعلم أن الماسونية تعد كل مستقيم السيرة والسرية عضواً فيها ولو لم يأخذ عهدها، وهي لا تقبل في أحضانها إلا من أتاها مختاراً”.
بهذا استطاعت الماسونية أن تجتذب إليها عدداً كبيراً ووافراً من رجالات الأدب والفكر، ومن الزعماء السياسيين والفنانين، ومن كبار رجال المال والأعمال حول الكرة الأرضية.
لكن على رغم كل ذلك يبقى الغموض سيد الموقف في هذه الجماعة، لا سيما في علاقتها مع من تدعي أنه مهندس الكون الأعظم، الذي لا تكشف ماهيته، إلا للقلة القليلة للغاية من أعضائها في أعلى الدرجات.
نقرأ في كتاب “الماسونية” للباحث محمد علي الزعبي، أن هناك نصاً يتلوه كل من يقبل على عضوية هذه الجماعة وفيه، “أقسم بمهندس الكون الأعظم ألا أفشي أسرار الماسونية ولا علاماتها وأقوالها ولا تعاليمها وعاداتها، وأن أصونها مكتومة في صدري إلى الأبد”.
ولا ينتهي القسم والعهد عند هذا الحد، بل يكمل المنتسب الجديد بالقول، “أقسم بمهندس الكون الأعظم ألا أخون عهد الجمعية وأسرارها، لا بالإشارة ولا بالكلام ولا بالحروف، وألا أكتب شيئاً عن ذلك ولا أنشره بالطبع أو بالحفر أو بالتصوير، وأرضى (إن حنثت في قسمي) أن تحرق شفتاي بحديد ملتهب، وأن تقطع يداي ويحز عنقي، وتعلق جثتي في محفل ماسوني ليراها طالب آخر ليتعظ بها، ثم تحرق جثتي ويذر رمادها في الهواء، لئلا يبقى أثر من جنايتي”.
هل نحن أمام حركة تسعى بالفعل لسعادة الناس، أم أنها واحدة من الجماعات السرية الحاكمة للعالم؟
الجواب مبهم، كما أن هناك شكوكاً واسعة حول ما جاء في هذا القسم، ولا يمكن القطع بصحته من عدمها، على رغم أن هناك نصوصاً عديدة مشابهة له وردت في مواقع ومواضع أخرى لكتاب ومؤلفين، ربما منهم الكتاب المتميز “السر المصون في شيعة الفرمسون” ومؤلفه هو الراهب اللبناني اليسوعي “لويس شيخو” في نهايات القرن التاسع عشر، ويمتلئ بالقصص والوقائع المثيرة.
والشاهد أننا هنا لسنا في مقام البحث عن الحركة في ذاتها، بل عن علاقتها بالكنسية الكاثوليكية عبر التاريخ… ماذا عن ذلك؟
أحد محافل الماسونية في الولايات المتحدة الأميركية
من محاربة المسيحية إلى دمار البابوية
تبدو كثير من الكتابات عن الماسونية، مظهرة للعداء القديم جداً بينها وبين المسيحية، وحتى قبل تفرق المسيحيين إلى طوائف بعد ذلك بأربعة عقود.
هناك على سبيل المثال من يرجع الماسونية، إلى رؤساء الكهنة “حنان وقيافا”، اللذين تمت محاكمة المسيح في عهديهما حسب المفهوم المسيحي، وكان ذلك عام 33 ميلادية.
هذا التاريخ يربط البعض بينه وبين عدد الدرجات السرية للماسونية وهي 33.
تقول بعض القصص، إنه بعد أن بدأت المسيحية في الانتشار وعدم مقدرة القائمين على شأن الدولة اليهودية في ذلك الوقت وقف تنامي أتباعها، صمموا على محاربتها سرا من خلال تنظيم لا يعلم سره أحد ومن هنا ولد هذا التنظيم.
يدلل أصحاب هذه النظرية على صدق حديثهم بعديد من الروايات التي قصها بعض من أعضاء الماسونية في لحظاتهم الأخيرة على فراش الموت، ولم يكن هناك مجال لانتقام التنظيم منهم.
غالبية تلك القصص حدثت في الفترة التي شهدت ثورات أوروبية وارتباكات تنظيمية، ففي عام 1865 على سبيل المثال، وفي إيطاليا تحديداً، كان أحد هؤلاء يدنو من الموت، وقد طلب من ابنته أن تحضر له كاهناً للقيام ببعض الصلوات قبل موته، غير أن هذا الأخير لم يباشر عمله الروحي، إلا بعد أن ندم المحتضر على انتمائه للماسونية، وإعطاء الكاهن ورقة سرية للغاية، وهي عبارة عن قسم موقع باسمه بالدم لا بالمداد وفيه، “أعد بإطلاق حرب عدوان ضد الكنيسة والبابوية والملوك، وأضحي في سبيل تلك الغاية بكل غال ونفيس”.
وفي اعتراف لماسوني آخر نقرأ ما يلي، “إن رتبة الفارس هي مسك ختام الماسونية وأقصى غايتها، تظهر فيها روح الماسونية القح وينكشف معنى الرموز السابقة في الدرجات التي دونه، فيعلم الأخ الماسوني أن الغاية التي ترمي إليها عشيرتنا إنما هي دمار البابوية بأي طريقة كانت”.
والشاهد أن إيطاليا تحديداً، وفيها روما عاصمة الكثلكة، قد شهدت حضوراً فاعلاً ونافذاً لتلك الجماعة من خلال الذين قادوا الثورات هناك، مثل “ماتزيني” و”غاريبالدي”، ولهذا يروج ضمن ما يروج أنه في عام 1869، أي وقت اشتداد أوار هذه الثورات، عقد الماسونيون الإيطاليون في نابولي اجتماعاً لـ700 ماسوني أعلنوا فيه ما يلي، “نحن الموقعين نواب أمم العالم نعلن حرية العقل ضد السلطة الدينية، واستقلال الإنسان ضد استبداد الكنيسة والحكومة، ونطالب باستقلال المدرسة الحرة المجردة من تعليم ذوي الكهنوت، ونعلن الإنسان حراً ونقرر ضرورة ملاشاة كل كنيسة رسمية”.
وبالبحث في السياق نفسه، سيجد المرء أن هناك كثيراً من الشعارات التي تظهر الأزمة القديمة بين الماسونية والكاثوليكية، ومن بينها القول، “الكثلكة والماسون عدوان لدودان، لا تنتهي الحرب بينهما إلا بموت أحدهما”.
كتاب ماكس هندل عن الصراع بين الكاثوليكية والماسونية
هل من مخططات ماسونية ماورائية؟
كثيراً جداً ما ترتبط الجماعات السرية حول العالم، بمخططات ماورائية تسعى إلى تنفيذها لتحقيق أهدافها، وفي هذا الإطار يختلط ما هو حق بما هو باطل، وما هو أصيل بما هو منحول.
من هنا يمكن القطع بأن كثيراً من تلك المخططات ظهرت بدورها في عقائد الماسون، ضد أتباع الأديان كافة، وبنوع خاص ضد الكاثوليكية، سيما أنها تمثل الرقم الأكبر للمسيحيين حول العالم.
في يونيو (حزيران) من عام 2009، نشرت مجلة “الإيمان والثقافة” الإيطالية Fede e cultura مقالة كانت مجلة “تيولوجيكا” قد نشرتها، وفيها ما يشبه خريطة طريق للجماعة الماسونية، في محاربتها الشعواء لكل ما هو كاثوليكي… ما الذي تحويه المقالة؟
قطعاً لسنا في صدد نشر المقالة برمتها، ولكن بعض الفقرات منها توضح – حال صحة ما فيها – أي عداوة قائمة بين الجانبين.
في مقدمة الآليات المطلوبة، محاربة الصلاة الليتورجية الأساسية في الكنيسة الكاثوليكية، أي القداس، والمطالبة بزرع الشكوك في نفوس الشباب تجاه ما يجري فيه من صلوات وطقوس وشعائر.
يطالب الماسون بحسب المقال بإزالة تماثيل الملاك ميخائيل كافة من الكنائس والميادين، وهو الملاك الذي تتخذه الكنيسة الكاثوليكية حامياً لها، وإخراجه من كل الصلوات سواء داخل القداس أو خارجه.
ويتطلعون كذلك لإخفاء جميع تماثيل وصور الملائكة، ويعتبر الماسونيون أن الملائكة أعداؤهم، كونهم يعبدون الشيطان، ويطلبون من أعضائهم أن ينشروا فرية أن الملائكة ما هي إلا أساطير، وقصص صغيرة لجعل الأطفال ينامون، ويجب ألا يسمح بالتكلم عن الملائكة.
وفي الوقت عينه تحمل المقالة توجهات تدفع في طريق إلغاء جلسات طرد الأرواح الشريرة من النفوس، والترويج لفكرة أن لا وجود للشيطان نفسه في أي مكان أو زمان.
ومن أجل محاربة أشد للكنيسة الكاثوليكية، فإن المخطط نفسه يدعو لإخفاء كل القديسين من الرزنامات الكنسية، ومنع الكهنة من الوعظ عن القديسين، ما يعني عدم وجود مثال صالح يمكن التشبه به أو التمثل بفضائله.
توصي تعاليم هذه الجماعة السرية بإحراق كل كتب التعليم المسيحي، وتوصي معلمي الدين المسيحي بأن يعلموا محبة خلائق الله، بدلاً من محبة الله ذاته.
أما الطامة الكبرى، والتهمة الكبرى الموجهة للماسون، فموصولة بالجنس، إذ يوصون بأن تصبح كلمة “جنس” كلمة ذات استعمال يومي في صفوف التعليم الديني، مع إدخال صور الجنس في دروس الدين لتعليم الأولاد ما يرون أنه الحقيقة، والتأكد من أن تكون هذه الصور واضحة، بل تشجيع المدارس على أن تصبح من أصحاب الفكر التطوري في مادة التعليم الجنسي.
ويطول الحديث الذي يحتاج إلى شرح عن تلك التوصيات من عينة “اخنقوا المدارس الكاثوليكية عبر منعكم للدعوات الرهبانية النسائية”، وأخيراً وليس آخراً وهذه قد تكون الأهم، “حجموا البابا إلى حد ملاشاته مدمرين جامعاته وفك الوحدة القائمة بينها، واستبدال أسماء المعاهد الدينية باسماء دنيوية لتشجيع ما يسمى بالحركة المسكونية، فعلى سبيل المثال قولوا بدلاً من “مدرسة الحبل بلاد دنس”، المدرسة العليا الحديثة”.
هل ما تقدم كله صحيح أم مختلط، وربما مختلق، وكيف يرى الماسونيون أنفسهم؟
إحدى قاعات متحف الماسونية
البناؤون الأحرار وكاتدرائيات أوروبا
يدافع المنتمون إلى الماسونية عن أنفسهم، باعتبارهم أعضاء في جمعية تاريخية نشأت في أوروبا القرون الوسطى، على هامش حركة البناء الكبرى التي عرفتها كثير من المدن والعواصم التاريخية في دول القارة العجوز.
يعرف الفرجار والمثلث وعديد من الرموز الهندسية بأنها أساسات في هذه الحركة، ويقول هؤلاء عن أنفسهم، إنه في البدء كانت الماسونية المهنية منسوبة إلى بنائي الكاتدرائيات، وكان البناء الحر في القرون الوسطى تياراً سائداً.
أصحاب هذا التفسير، يرفضون كل نظريات المؤامرة المتقدمة من جانب الكاثوليك، ويرون أن المسألة بدت متحولة من عمل مهني إلى جماعة مقبولة، ثم تطورت إلى رؤية تأملية نظرية.
كانت الماسونية التأملية التي نعرفها اليوم قد ولدت في مطلع القرن الثامن عشر في وسط إنجلترا، وقد كان هدفها الرئيس هو توطيد نوع من “الأخوة الإنسانية”، وتجاوز خلافات ذلك العصر.
كانت أوروبا في ذلك الوقت تعيش حالة من الطائفية والعنصرية بشكل مقيت تجاه كل من هو غير كاثوليكي، ولهذا فإن المؤسسين الأوائل للحركة الماسونية فتحوا الأبواب واسعة لاستقبال اليهود والمسلمين والهندوس والبوذيين وأتباع الطوائف كافة ضمن جماعتهم.
من هنا فإن القصد الأكيد والجوهري للحركة الماسونية، تمثل في التآخي بين البشر جميعاً بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق.
والماسوني بخلاف ما روج سابقاً، هو في نظر أعضاء الجماعة شخص مسالم إزاء السلطات المدنية، وينبغي ألا يكون لديه علاقة بمؤامرة ما ضد سلام الأمة وهناءتها.
ونجد آية ذلك في الإعلان السياسي للمحفل الأكبر الفرنسي، الذي يؤكد على أنه لا يتدخل في أية مجادلة تتعلق بمسائل سياسية أو مذهبية، كذلك هي الحال في محافل الشرق الأكبر اللبناني والشرق الفيدرالي وسائر الجمعيات الماسونية في لبنان.
بناء على ما تقدم، فإن الماسونية بالمعنى الصحيح ليست ديناً ولا كنيسة في مزاحمة، أو منافسة.
يصر الماسونيون على أن الكنائس غير الكاثوليكية قد تفهمت هذا الموضوع أكثر من الكنيسة الرومانية، وإن بقي الكاثوليك منذ زمان بعيد على عدائهم الذي تجدد أخيراً في إعلان مجمع العقيدة والإيمان الأخير…
لكن ماذا عن الحرومات السابقة في المؤسسة الرومانية الكاثوليكية تجاه الماسونية وإلى أي الباباوات تعود وفي أي أزمنة؟
من البابا أكليمنضس الثاني عشر إلى فرنسيس
يحتاج الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة إلى نوع من الأبحاث المستقلة القائمة بذاتها، غير أننا في اختصار غير مخل نشير إلى أن بداية العداوة الحقيقية بين الجانبين تعود إلى زمن البابا أكليمنضس الثاني عشر، فقد كان صاحب الحرم الأول عام 1738 لكل مسيحي ينضم إلى هذه الجماعة، وأما مبرراته في هذا الحرم فهي “أن السرية التي تفرضها الماسونية على الطلاب الراغبين في الانضمام إليها، وتحيط بها في كل نشاطاتها، تخلق جواً من الغموض والانزعاج والشك، جواً يسمم علاقاتها بالعالم الخارجي”.
الأمر نفسه فعله البابا بندكتس الرابع عشر سنة 1751، لأسباب عدة منها، “السرية التامة لما يجري في محافلها، والاتفاق العام على إلغاء الجمعيات السرية غير النظامية لما عرفته من دسائسها وشرورها الجمة”.
واعتبر البابا بندكتوس الرابع عشر، أن هذه الجمعيات لا خير فيها إذ لا يدخلها أحد إلا وتلحقه وصمة العار والشنار، لا سيما لأن الماسون كذبوا فأعلنوا أن حرم البابا السابق قد بطل، ولم يعد يطال المنضمين إلى الجمعيات السرية.
استمرت حرمانات البابوات تباعاً، ففي عام 1790 شجب البابا بيوس التاسع ما عرف بإعلان حقوق الإنسان في فرنسا، ذلك الذي احتوى على أفكار ديمقراطية عن الحرية والمساواة “مغلوطة في مبدئها ومشؤومة في تطبيقها”، قادتنا (بحسب بيوس التاسع) “إلى سقوطنا وخزينا وأنحطاطنا”، ويضيف الحبر الأعظم “صحيح أن مفاهيم الأخوة والمساواة والتقدم والرغبة في رفع الطبقات المتواضعة هي مسيحية، لكن الثورة ألبستها ثوباً علمانياً مناهضاً للدين والمسيحية، وهو ثوب ينزع إلى إفساد طبيعة جزء من التراث الإنجيلي الهادف إلى تنمية الحياة الإنسانية في اتجاه سام ونبيل”.
ولعل الدافع الحاسم للكاثوليكية المعادية للماسونية وجد في الرسالة البابوية Humanum genus أو “الجنس البشري”، الصادر عن البابا لاون الثالث عشر في عام 1884، فقد كتب اعتراضه الأساسي على الماسونية قائماً على فكرة المذهب الطبيعي واتهامه لهم بتكريس آلهة حديثة مثل العقلانية والطبيعة.
حلل ليو الثالث عشر المبادئ والممارسات الفلسفية من نوع الشرق الكبير القاري، واعتبر أن الهدف النهائي والمبدئي للماسونية كان تدمير أي أساس ديني أو نظام مدني أنشئ في جميع أنحاء العالم المسيحي، واستحدث نظام جديد مؤسس على القوانين المرسومة خارج أحشاء المذهب الطبيعي.
أما الرجل الذي وجه السهام إلى صدر الماسونية عام 1980، فقد كان الكاردينال راتزينجر السابق الإشارة إليه، الذي بات لاحقاً البابا بندكتوس، فقد قدم تقريراً جاء فيه أن الماسونية تنفي الوحي، والحقيقة الموضوعية، وأن اللامبالاة الدينية أساسية للماسونية، وأنها ربوبية، تنكر إمكانية الوحي الإلهي مما يهدد الاحترام الواجب لمنصب تعليم الكنيسة، كما ينظر إلى الطابع السري للطقوس الماسونية إلى أنها تشير إلى تحول فردي، وتقدم مساراً بديلاً للكمال، ما ينفي العمل الإلهي في الكون والفرد معاً دفعة واحدة.
الأمر نفسه، أي الاعتراض على الماسونية جرت به المقادير في حبرية البابا يوحنا بولس الثاني الممتدة من 1978 وحتى 2005.
وها هو فرنسيس يمضي بدوره في الاتجاه ذاته، لتظل المعركة قائمة بين الماسونية الغامضة والكاثوليكية الغاضبة إلى أجل غير مسمى.