حرية – (2/1/2024)
تشكل عمارة المساجد المصدر البصري الأكثر اهتماماً من لدن الباحثين العرب، ذلك أن قيمة هذا الصرح الفني تبدو كبيرة بالنسبة إليهم، لا سيما أن معظمهم يتعامل مع هذا المبحث انطلاقاً من كونه عربياً مسلماً ينبغي أن يحافظ على تراثه ويؤرخ تاريخه ويدون أحداثه، فكانت هذه الكتابات تركز على عظمة الإسلام من زاوية تأثيره في المجال الفني.
ويمثل ما يعرف تاريخياً بـ”الفن الإسلامي” قبلة للباحثين لكونه مؤثراً بوحدته الفنية وعناصره الجمالية في معظم الفنون الحديثة منها والمعاصرة، أما الشق الثاني من الباحثين فكان تعامله مع المساجد نابعاً بالأساس من الرغبة في الاستكشاف الجمالي.
من هنا جاءت الدراسة العلمية للمساجد بهدف التثقيف وإبراز خصائص وجماليات عمارة المساجد، بل وكيف تسهم زخارفها في إظهار المراحل المهمة التي قطعتها فنون الزخرفة بالعالم العربي ككل، كما تحرص هذه الفئة إبراز التكامل بين الحضارات القديمة وكيف انصهرت في ما بينها وقدمت خليطاً جمالياً نوعياً، سواء تعلق الأمر بمثاقفة مفروضة ضاعف وهجها الاستعمار أو مثاقفة تلقائية تمت بطريقة سلسة بين الأمم والحضارات خلال مراحل الهدنة والعيش.
والمساجد مصنفة كفضاءات معمارية لقيت اهتماماً مفرطاً من لدن الباحثين، إذ لا يكاد البحث العلمي يخلو من هذه الكتابة التي جعلت عمارة المساجد موضوعاً لها، لكن المتابع لحيثيات هذه البحوث سيرى كيف أنها غدت في لحظة ما مكررة، على رغم أهميتها العلمية الكبيرة، ذلك أن الكتابات يطغى عليها البعد التاريخي الذي يحول بناء المساجد وهندستها إلى أحداث تاريخية، على رغم أنها كتابة تاريخية تفتقر إلى المنهج وتحليل دقيق لفلسفة الفن الإسلامي، كما تظهرها المساجد على مستوى المآذن والأبواب والأقواس وغيرها.
لكن في مقابل ذلك تغيب الدراسات الفلسفية حول المساجد العربية، ليس لأنها لا تدخل ضمن اهتمامات الفكر العربي المعاصر فقط، بل لعدم قدرته على تقديم سردية فلسفية تنطلق من عمارة المساجد وجمالياتها، فالدرس الجمالي مغيب داخل هذا الفكر والنزر القليل المهتم به لا يرقى إلى ما يمكن تسميته بـ”المشروع الفلسفي”، إذ لا يوجد مفكر عربي واحد جعل من لوحة أو فيلم أو منحوتة أو نصب أثري أو نقيشة صخرية أفقاً للتفكير في ما يمكن استحداثه من فكر داخل الفن، كما فعل ذلك جيل دولوز وميشيل فوكو وبيير بورديو وغيرهم.
جماليات العمارة
ما يميز المساجد المقامة على طول العالم العربي أن المسلمين القدامى لم يجعلوا منها مكاناً للعبادة والتقرب من الخالق، بل أيضاً جعلوا منها فضاءً للنقش والزخرفة، حين أطلقوا العنان لمخيلتهم للبحث عن جماليات “إسلامية”، كما أن الاهتمام بالحضارة الإسلامية وجعلها ركيزة أساسية داخل عمارة المساجد جعل جمالياتها مميزة وذات أثر ملموس في شعرية العمارة.
أما المساجد التي تبنى اليوم فتكتفي بتزيين هش على مستوى جماليات الصنعة ولا تعطي الأهمية الكبرى لإعادة استلهام هذا الموروث العربي الإسلامي على تضاريسها المعمارية. ولعل غياباً كهذا لا يفسر إلا بموقع الجمال داخل حياتنا المعاصرة وكيف غدت حياة خالية من الفن والجمال، ذلك على رغم وفرة الإمكانات فلا يوجد مشروع فني يعطي قيمة لهذه الفنون والحرف في حياتنا اليوم، بما يجعها رأسمالاً رمزياً يميز البيئة العربية عن الأمم الأخرى.
تقول صاحبة كتاب “التلامس الحضاري الإسلامي الأوروبي” الباحثة المصرية إيناس حسني، “تعد قبة الصخرة في المسجد الأقصى أول تجربة تحاول إيجاد معادلة فكرية فلسفية جمالية، فالشكل المثمن الذي يشكل قاعدة القبة قائم على التراكب ما بين الدائرة والمربع أي الحركة والسكون، الزمان والمكان”.
أما من الخارج فإن الفضاء السماوي للقبة يتداخل مع التضليع الأرضي للمثمن. والمثمن شكل متوارث في حضارة هذه المنطقة، يتكرر حضوره في حضارة وادي الرافدين والحضارة البيزنطية، وله دلالات علمية وميتافيزيقية. وقيض لهذا الشكل المثمن أن يؤدي دوراً فعالاً في الفن الإسلامي، وليس في المجال المعماري فقط، بل في الزخرفة الإسلامية عموماً، وفق الباحثة المصرية.
إن جماليات المساجد قيمة حضارية للشعوب العربية، بل إنها تمثل هوية بصرية متجددة ودائمة في الزمان والمكان. وتختلف المساجد بحسب البيئة التي توجد فيها، بل إن التاريخ يمارس سحره وفتنته على هذا الصرح المعماري، ويجعله مطبوعاً وموشوماً بهسيسه، ذلك أن التاريخ كائن يتملك الطرز المعمارية أكثر من الأحداث السياسية وشؤونها الاجتماعية.
فما يتبقى منه هو الأطلال والآثار والنقائش، في حين يغربل الزمن كل الأشياء الأخرى التي تبقى منسية في جرار الزمن. ويقول المؤرخ الفني ألكسندر بابا دوبلو “هدف الفنان كان منذ البداية ابتكار عمل نابع من حاجة ماسة إلى إيجاد شكل جميل، أي إيجاد شكل مكون من عناصر ترتبط بعضها ببعض ارتباطاً نابعاً من حاجتها الأساسية إلى وجودها معاً”.
وتتميز المساجد التركية بقيمتها الحضارية الكبيرة، ذلك أن المساجد المنتشرة على طول مدينة إسطنبول تعبر عن تنوع أنطولوجي كبير، هذا التنوع هو الذي يعطي لبعض المساجد مثل أيا صوفيا وأورتاكوي والفاتح وغيرها رونقها وجمالها وتميزها. إنها تظهر بقوة ذكاء الفنان العربي القديم وطريقة استلهامه روح الفن الإسلامي داخل هذه الطرز المعمارية، وذلك وفق طرق مختلفة من التزيين والتفكير والتأمل والصناعة.
مصدر تاريخي
يعتبر عدد من المؤرخين العرب أن العمارة تلعب أدواراً معرفية عدة، فبعد القرآن الكريم والسنة النبوية والأدب التاريخي والمسكوكات (علم النقود) تأتي الكتابات المنقوشة الموجودة على عدد من النماذج المعمارية، فهذه الكتابات تلعب وظيفة تاريخية لكونها تزود الباحث بعدد من المعلومات خلال حقب تاريخية معينة، ذلك أن مرحلة صدر الإسلام تعرف هذا النوع من الكتابات المنقوشة التي يغدو فيها الخط علامة بصرية عن هذه الحضارة التي كثيراً ما اعتبرها المفكر عبدالكبير الخطيبي حضارة العلامة.
إن المأزق الحقيقي في الكتابة التاريخية العربية أنها لم تدخل بعد باب الحداثة على مستوى الكتابة، ما دام المؤرخ العربي يتعامل مع المعمار وكأنه هامش على المجتمع، مع العلم أن بناء الطرز المعمارية بهذه الطريقة وعلى امتداد بلاد العالم الإسلامي يعطي الانطباع الأول عن المكانة التي وصلت إليها هذه الحضارة، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وتنظيمياً.
بهذه الطريقة تغدو المساجد على اختلاف أشكالها وثيقة تاريخية بصرية قادرة على تزويدنا بعشرات الحقائق عن نظم المجتمع الإسلامي في حقب مختلفة من تاريخه.