حرية – (3/1/2024)
هل باتت فكرة المثل الأعلى وكأنها تنتمي لعصور سحيقة؟ وعلى رغم أن السؤال يعد مربكاً من الأساس، خصوصاً للصغار الذين يفهمون بصعوبة معنى هذا التعبير، ولكن في كل الأحوال فقد جرت العادة أن يختار الأطفال والمراهقون، لا سيما في الأجيال الأكبر سناً، شخصية يحتذونها، ويجدون مجال تميزها قريباً من أحلامهم وطموحاتهم، حيث يحفزهم نجاح هذه الشخصية على التمسك بهدفهم وتخطي المصاعب في سبيل تحقيقه، لكن كيف يمكن للأبوين التصرف حينما يجدا أن طموح ابنهما الأكبر أن يشتري ألعاباً وهدايا، وأن ينشر على حساباته بمواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات متنوعة له وهو يفتح صناديقها ويكتشف كيف تعمل ويدهش في كل مرة من المحتويات؟
التصرف نفسه يرتبط لأبوين تحلم ابنتهما بأن تمضي غالب يومها على “تيك توك” أو “يوتيوب شورتس”، بينما تعرض أدوات مكياجها وروتين العناية بشعرها، وأن تلتقط فيديوهات خلسة لباقي العائلة وتنشرها أيضاً لمتابعيها أسوة بفتاة مراهقة تقوم بالشيء نفسه بصحبة أبويها وإخوتها الـ13 في إحدى الولايات الأميركية، حيث تحترف العائلة الكبيرة نشر جميع اللحظات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وسط سعادة غامرة بحصولهم على ملايين المشاهدات وآلاف الدولارات بلا مجهود.
في الظروف العادية حدث تشويش خلال المراحل العمرية المختلفة، حيث يكون للشخص أكثر من قدرة بأكثر من مجال حياتياً ومهنياً، كما أن كثراً يعتقدون أنه ليس من الضروري أن يكون لديهم مثال يتشبهون به، ويحاولون الاقتداء بمسيرته وتتبع خطواته، بخاصة أن هذه القدوة قد تسقط من نظرهم فجأة إذا ما جاء بتصرف صادم وغير متوقع، وهنا قد تنهار منظومة القيم التي تم بناؤها وتشييدها على مدى طويل.
بالطبع هذا يحدث حينما يكون المثل الأعلى أحد الشخصيات المعروفة، سواء في مجال السياسة أو الرياضة أو العلم أو الفنون وغيرها، وحتى حينما يكون هذا المثل في المحيط العائلي فإن كونه مثالاً لغيره فهو يضع عليه عبئاً كبيراً، لكن في هذا العصر لم يعد من السهل أن يتمتع “المثل الأعلى” بالمواصفات القياسية، أو حتى بعض منها.
يصنعون قدوتهم بأنفسهم
ناديا عمرو واحدة من الفتيات اللاتي لا يبحثن عن شروط ومعايير “القدوة”، ولا حتى يشغلن بالهن بالمصطلح بمعناه التقليدي، فهي تقول “لا أزال في الصف الثامن، أحاول أن تجاوز كل عام دون رسوب، كي أرضي عائلتي وأتخلص من عبء المدرسة، وحتى الآن ليس لدى أدنى فكرة أن كنت سأكمل حتى المرحلة الجامعية أم لا، وإذا حدث فلا أعرف ماذا سأدرس على وجه التحديد، بخاصة أن النجاح في الحياة أبسط وأسهل كثيراً من حفظ المقررات الدراسية المتعبة، والتي لا نستخدمها في حياتنا”.
الفتاة التي تدرس بإحدى المدارس الخاصة في مصر لا تمانع في متابعة حسابات أخرى كثيرة تتحدث عن طرق تنسيق الأدوات المكتبية المستخدمة في الدراسة وطرق نيل علامات جيدة في الاختبارات، وهي تعلم أنها لا تستفيد منها شيئاً، وتعلم أيضاً أن من يروجون لها معظمهم متعثر في مسيرته التعليمية، ولكنها تسلي وقتها وتبحث عن محتوى مختلف أملاً في إيجاد طريقة لتحقيق أول 10 آلاف متابع على موقع “إنستغرام”.
ناديا التي بالكاد أكملت عاملها الـ12 لديها حساب نشط على “إنستغرام”، وآخر على “تيك توك” تحاول أن تجرب حظها بين حين وآخر في أن تحظى بعدد ضخم من المتابعين أسوة بمن تشاهدهم، من ثم فهي تسوق لنفسها بالطريقة التي تتعلمها بالخبرة والمتابعة، وهي تعلم يقيناً أن كل ما تحتاج إليه هو منتجات مبهرة للعناية بالبشرة وكاميرا هاتف جيدة، وأفكار غير تقليدية للمقالب التي يمكن أن تنفذها في أصدقائها وشقيقها كي تتمكن من أن تحصل على أكبر عدد من المتابعين، وتصبح “مؤثرة” مثل نجوم هذا العالم الذين يجنون أموالاً طائلة، لكن هل الأمر سلبي إلى هذه الدرجة؟ أم أن تلك المعارف والخبرات على بساطتها قد تؤثر إيجاباً في شخصيات هذا الجيل؟
المستشارة التعليمية والباحثة التربوية آلاء جلبي، تعترف أن نوعية “القدوة” تغيرت جداً حيث إن “التيك توكرز” و”اليوتيوبرز” باتوا هم الصورة المثالية للنجاح بالنسبة إلى الأطفال والمراهقين، ولكن هذا لا يعني أبداً أنهم جيل غير مؤهل لتحمل المسؤولية أو لديهم صفات سيئة.
وتتابع جلبي “كل الفكرة أنهم مطلعون على أمور كثيرة ومختلفة للغاية بعكس كافة الأجيال السابقة، من ثم فالمقارنة هنا في غير محلها، لذا من المنصف ألا نحكم على الجيل الذي يختبر وسائط بهذه الغزارة دون تريث”، وتلفت آلاء النظر إلى أن الأطفال في هذا العصر دوماً يفاجئوننا بأفكار مبدعة ومبتكرة وبسلوكيات إيجابية لم تكن متوقعة.
وأشارت الباحثة التربوية إلى أنه على رغم أن مثال الطموح بالنسبة إليهم وظائف لا تعترف بها أسرهم مثل المؤثرين ومن على شاكلتهم، الذين يستقون منهم معلوماتهم وخبراتهم في الحياة على الغالب، لكن أيضاً مهارتهم في البحث والوصول إلى البيانات تقوي لديهم الخبرات.
وأضافت جلبي “على سبيل المثال لم يكن أحد يتصور هذه المشاركة الفعالة لكثير ممن ينتمون للجيل (زد)، وحتى لمن ولدوا ما بعد العقد الأول من الألفية الثالثة في أمور تتعلق بدعم القضية الفلسطينية، وهو موقف أدهش حتى أسرهم”.
وصفة خاصة للنجاح
وفقاً لآخر إحصاء لموقع (visualcapitalist) فإن أعلى المشاهير دخلاً على “إنستغرام” تحدد أرباحهم وفقاً لعدد المتابعين ومستوى التفاعل على المحتوى، وكذلك المجال الذي ينشط به الحساب، حيث يأتي نجم كرة القدم كريستيانو رونالدو على رأس القائمة بنحو 2.5 مليون دولار للمنشور الإعلاني الواحد، حيث يزيد عدد متابعيه على الـ610 ملايين متابع، وتليه نجمة الموضة كايلي غينير ثم ليونيل ميسي والمغنية سيلينا غوميز، بعوائد تتراوح ما بين 1.7 و1.8 مليون دولار للمنشور الدعائي الواحد.
اللائحة تضم أسماء كبيرة أخرى في عالم الفنون والتجميل والرياضة وبينهم كيم كارداشيان وتايلور سويفت وكاتي بيري وكيندال غينر وجينفير لوبيز وجاستن بيبر، وغيرهم، وكما هو واضح فالشهرة والنجاح المهني جاء أولاً، ثم ترجم في مئات الملايين من المتابعين، ومن ثم نسبة تفاعل قياسية جعلتهم محط أنظار شركات الدعاية والإعلان، وذلك كونهم موهوبين في حقول متعددة، حيث وصلوا لإنجازاتهم بالاجتهاد والدراسة والمثابرة، وكذلك التدريب وحسن الإدارة.
وفي حين تبدو شخصيات مثل الأدباء والعلماء والمفكرين وحائزي نوبل بعيدة كل البعد من مخيلة نجوم جيل المراهقين في هذا العصر، إلا أن حتى الاحتذاء بمشاهير في مجالات الكرة والغناء والتمثيل وحتى الطب والهندسة لم يعد أيضاً يستهويهم كثيراً، وإن كان بالطبع عدد منهم لديه مواهب في تلك المجالات، ولكن مقارنة بمن يبحثون عن الربح السريع والشهرة العابرة للقارات في وقت قصير بلا تعب فهم نسبة أقل بكثير.
“التيك توكرز” نجوم المرحلة
يقول آدم محمد (10 سنوات)، إنه يحب كرة القدم للغاية ويحلم باحترافها على طريقة لاعب ليفربول المصري محمد صلاح، لكنه اصطدم بعوائق كثيرة حينما حاول التسجيل في نادٍ كبير على رغم مهارته التي يعترف بها مدربوه في الأكاديمية التي يلعب بها، من ثم فهو يشعر بصعوبة تحقيق ما يطمح إليه في هذا المجال وفي الوقت نفسه يقضي وقتاً طويلاً على تطبيق “تيك توك” ويرسل دعوات إلى أصدقائه للانضمام.
ويشارك محمد في تحديات كثيرة محاولاً أن يكسب بعض الأرباح، كما أنه لا يتوقف عن تصوير أي شيء غريب تقع عليه عيناه أثناء سيره بالشارع في طريق عودته من المدرسة التي لا تبتعد كثيراً عن البيت، وهي مدرسة حكومية، وبحسب قوله، لا تشدد فيها الإدارة كثيراً على مسألة عدم استعمال الهاتف المحمول.
يرى آدم أنه من السهل أن يصبح أحد مشاهير “إنستغرام”، وأن يكسب منه أموالاً كثيرة، دون أن يحتاج إلى أن يدخل كلية مرموقة ويستنفد أموال أبويه في دروس الثانوية العامة مستقبلاً، مشيراً إلى أنه يحاول الاجتهاد في “تيك توك” كي لا يجد نفسه، وقد أصبح مصدر خيبة أمل للعائلة مثلما حدث مع معارف متعددة حوله ممن صدموا بنتائجهم في المرحلة الثانوية، فبعضهم لم يتمكن من دخول الجامعة من الأساس بسبب تدني الدرجات.
ومن هنا يعتبر محمد أن شهرة “تيك توك” مضمونة بالنسبة إليه، وأنه من خلال متابعته لمشاهير كثر فهو تدريجاً سيصبح مثلهم في يوم من الأيام.
طموح الصغار ونظريات الكبار
بحسب الهيئة التنظيمية للاتصالات في المملكة المتحدة فإن “تيك توك” هو التطبيق الأكثر شعبية لدى الأطفال المراهقين، وبخاصة ما بين عمري 12 و15 عاماً، وكما هو واضح فهو سن صغيرة للغاية وخطرة أيضاً ودقيقة فيما تعلق بتشكل الوعي.
وبحسب التقرير الصادر قبل أشهر قليلة فإن 30 في المئة منهم يعتبرون هذا التطبيق هو المصدر الأول للمعلومات والأخبار، في حين أن مستخدمي “تيك توك” حول العالم يزيدون على مليار و200 مليون شخص، واللافت أنه في العالم العربي من الرائج جداً أن يمتلك أطفال دون الثامنة حسابات على هذا التطبيق الأكثر جاذبية لهم، حيث يتحايلون على شروط إنشاء حساب بطرق عدة ويشبعون فضولهم.
والنتيجة أن هناك تشويشاً هائلاً فيما يتعلق بمستقبلهم المهني، فهناك قسم منهم لا يعرفون أصلاً ماذا يريدون، وآخرون يعتبرون أن المسارات التقليدية للمهن المعروفة مثل المعلمين والمهندسين والأطباء والضباط أصبحت شيئاً عفا عليه الزمن، ولم يعد له جاذبية، ولم يعد حتى مجزياً مادياً مقارنة بمتاعبه.
التعميم أمر غير عادل بالمرة، ومن غير المنطقي أن يتم نعت كامل الجيل بعدم الاطلاع وبالمحدودية وبأنهم يسيئون استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن بالحديث مع ما يقارب 20 طالباً في الصف السادس الابتدائي لم يعرف سوى طالبين منهم فقط من هو عميد الأدب العربي طه حسين، وعدد كبير منهم تخيلوا أنه هو من يظهر في فيديوهات متداولة مرتدياً نظارة سوداء ويسير في الشارع يغني أغنية “المسحراتي”، وبالطبع المقصود هنا الموسيقار الكبير الراحل الشيخ سيد مكاوي، فلمجرد أن كليهما كفيف فقد اختلط عليهم الأمر بكل بساطة.
لكن هل يمكن القياس على هذا الموقف واعتباره مؤشراً إلى طريقة تفكير هذا الجيل الذي يرى أن نجومه أشخاص مختلفون تماماً حتى فيما يتعلق بالفنون والآداب والرياضة، حيث يعتقدون أن العمل في تلك المجالات مرهق تماماً وعلى الأرجح هم حتى وإن أحبوا بعض المشاهير هنا وهناك فليس من الضروري أن يكون لديهم الرغبة في التشبه بهم.
كثير من أبناء هذا الجيل لا يفضلون من الأساس اعتماد نموذج معين يتلمسون خطاه، بل يرون أنهم يمكنهم صنع مسيرتهم بطرق مختلفة وليس شرطاً أن تحمل قصص نجاحهم مثابرة وتخطياً لعقبات، كما أن هذا النجاح عادة بالنسبة إليهم يعني تحقيق عوائد مالية بطرق يسيرة وسريعة بغض النظر عن المجال، وهي أمور تتحقق عادة في حالة “الإنفلونسرز”.
وتعلق الباحثة التربوية آلاء جلبي مؤكدة أن الأطفال ما بين الـ10 سنوات والـ17 سنة، ليسوا جميعاً لديهم رغبة في أن يكون أمامهم قدوة معينة، أو مثل أعلى، لافتة إلى أنهم من الطبيعي أن ينبهروا بالناجحين، ولكنهم يختارون ما يناسبهم من تفاصيل مسيرتهم، وقد يختلفون معهم في بنود كثيرة.
وتوضح جبلي “أعتقد أن هذا قد يكون أفضل كي لا يقعوا في فخ التقليد، فمن الأسلم لهم متابعة أكثر من نموذج واختيار الجوانب الأفضل من كل منهم، حيث يسعون إلى الاستكشاف دون أن تكون لديهم قدوة مطلقة، فهم يتأثرون بعدد من المشاهير الذين يسهمون في تكوين شخصياتهم”.
وتختتم آلاء جلبي حديثها بالقول إن هناك فجوة كبيرة بين أجيال السبعينيات والثمانينيات وبين أبناء هذا الجيل، بمعنى أن الأكثرية لا يفهمونهم ولا يقدرون اهتماماتهم، معتبرة أن كل جيل لا يتقبل ما بعده، وهكذا، مضيفة “الحقيقة أنهم قد يكونون أفضل منا في المعلومات وسرعة البديهة، ويتعلمون المهام بحرفية ومهارة ويتقنون أكثر من عمل في الوقت نفسه، لكن مثلاً قد لا يتمتعون بقيم مثل الصبر والتأني والحقيقة أنهم قد لا يحتاجون إليها أصلاً، فكل وقت له جيل يواكب متطلباته”.