حرية – (3/1/2024)
أعادت مشاهد نقل القتلى والمصابين في قطاع غزة إلى الأذهان حال الإسعاف في العصور القديمة، التي كان المصابون فيها يحملون على نقالات ترفع على الأكتاف أو على عجلات يدفعها إنسان أو تجرها خيول وبغال. ولعل جملة “شكراً يا إسعاف” التي خرجت من طفلين فلسطينيين وانتشر صداها عالمياً، تلخص الأهمية البالغة للإسعاف الذي اقترن مفهومه منذ بداية الصراع البشري بضحايا الحروب، الذين كانوا قبل وجوده يتركون على الأرض يعانون نزف الجروح وألم الانتظار حتى انتهاء المعركة.
التاريخ والنشأة
منذ القرن السادس الميلادي، بدأت الجيوش الرومانية الاعتناء بالجنود الجرحى، بنقل المصابين منهم على خيول تحمل سروجاً معدة خصيصاً لهم، وعين الإمبراطور البيزنطي فلافيوس موريكيوس آنذاك، فرقاً من الخيالة لحمل المصابين إلى الخيام الطبية المجهزة بعدد من الأطباء والجراحين لتضميد جراحهم أثناء الحرب. واستمر ذلك النمط في تقديم الإسعاف إلى أن خصص الصليبيون في القرن الـ11 عربات لنقل الجنود المصابين إلى خيام تقدم لهم الإسعاف قبل نقلهم إلى مستشفيات القدس.
وفي عام 1476 أمرت ملكة إسبانيا إيزابيلا الأولى بتصميم عربات لنقل جنودها الجرحى خلال المعارك، وعلى رغم أن مختلف جيوش أوروبا كان لديها حتى منتصف القرن الـ18 مستشفيات ميدانية وثابتة وأطباء وجراحون متخصصون لعلاج الجرحى أثناء الحروب، إلا أن خدمة نقل الجرحى من ميدان المعركة وإسعافهم في الخيام الطبية لم تكن متوفرة.
وفي عام 1792، أحدث كبير الأطباء بجيش نابليون بونابرت، دومينيك جان لاري، تغيراً نوعياً في مفهوم الإسعاف، فبعد مشاهدته معاناة الجرحى الفرنسيين في معركة ليمبورغ وهم ينزفون على الأرض لساعات، ابتكر لاري عربة بهيكل خفيف ذات عجلتين ومزودة بغطاء للحماية تجرها خيول، قدمت العلاجات الأولية للجنود قبل نقلهم إلى خيام الرعاية الطبية، واعتبرت عربة لاري أول عربة إسعاف رسمية تزود بمجموعة طبية لخدمة جرحى الحرب، وهي التي مهدت في منتصف القرن الـ19 لحصر كلمة “Ambulance” على الوسائل التي تنقل المرضى والمصابين، في حين كان هذا المصطلح قبل ذلك، يشمل المستشفيات الميدانية والعربات المخصصة لعلاج المصابين.
بعد ذلك طور لاري عربته لتصبح بأربع عجلات، وتوفر قدراً أكبر من السلامة للمرضى وتمنحها مرونة في السير بين المنحدرات، ومنذ ذاك الوقت، أصبح نقل الجرحى والمصابين على عربات إسعاف خاصة أثناء الحروب هو المتبع عالمياً. وكمنافسة لعربات لاري، عمد البارون بيرسي لتجهيز عربات إسعاف تحمل طاقماً طبياً ومجهزة بأدوية وضمادات، ونقلها إلى ساحة المعركة لتضميد جراح الجنود هناك.
عام 1877، افتتح جون فورلي، أحد مؤسسي “إسعاف القديس يوحنا” جمعية إسعاف “سانت جون”، وبدأ حملة قومية لتدريب الأشخاص على إجراءات الإسعافات الأولية، وهو المصطلح الذي ابتكرته جمعيته، ومن هنا بدأ تاريخ الإسعاف المدني في بريطانيا، ثم طور إسعاف “سانت جون” أشكالا عدة من عربات الإسعاف، من بينها نقالة ثابتة بين دراجتين إلى دراجة رباعية العجلات. ومع تفشى وباء الكوليرا في العالم، ابتكر الجراح الأميركي إدوارد دالتون، نظاماً لمواجهة المرض، باستدعاء فريق متخصص بالتطهير في عربة مجهزة، وهو ما اعتبر النواة الأولى لابتكار سيارة الإسعاف بمفهومها الحديث.
سيارات وطائرات
عام 1890 بدأت شركة “”Hess and Eisenhardt، لتصنيع السيارات بصناعة سيارات الإسعاف، إلى أن ظهرت عام 1899 أول سيارة إسعاف كهربائية مزودة بمحركات، تمكنت من السير 20 إلى 30 ميلاً، وامتازت حينها بالسرعة والسلاسة في التنقل حفاظ على سلامة المريض بدرجة أكبر، وكانت آخر إصدارات الشركة من سيارات الإسعاف عام 1937. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، زاد الاهتمام بسيارات الإسعاف، فطورت الولايات المتحدة الأميركية سيارات من نوع “دودج” بمحرك أقوى وسرعات أكبر ووزن بلغ نصف طن، في حين استخدم البريطانيون سيارات إسعاف “روفر 9” التي كانت تتسع لنقالة أو نقالتين، وتحمل ثلاثة إلى ستة جرحى جالسين.
بالتزامن مع ذلك، طورت دول عدة خدمة الإسعاف الجوي، وتمت أول عملية نقل مصابين عبر الإسعاف الجوي عام 1915، حين قام طيار فرنسي، بإجلاء ضابط صربي جريح من ساحة القتال إبان الحرب العالمية الأولى. أما البريطانيون فاستخدموا الإسعاف الجوي للمرة الأولى عام 1917، وأدى إلى تقليل زمن رحلة الإنقاذ من ثلاثة أيام براً إلى 45 دقيقة فقط جواً. واعتبر إنقاذ جندي أميركي جريح من غابات ميانمار جنوب شرقي آسيا أول استخدام لمروحيات الإسعاف في إجلاء الجنود المصابين من أرض المعركة، في حين شاع استخدام الإسعاف الجوي خارج إطار الحروب، بعد أن تمركزت أول مروحية لإسعاف المدنيين بمستشفى سانتا مونيكا الأميركية عام 1954، وسرعان ما انتشرت تلك الخدمة في أرجاء القارة الأميركية، وتباعاً انتشرت حول العالم.
تجهيزات ولوازم
دور الإسعاف البالغ في إنقاذ حياة المصابين، بخاصة في حالات الحوادث الصعبة والتعرض لنوبات قلبية، زاد من أهمية تجهيزاته لتصبح مستشفيات متنقلة ومجهزة بشكل تام، لا سيما بعد أن أدت حادثة تحطم قطار هارو ويلدستون في لندن عام 1952 لمقتل 112 شخصاً، كان من الممكن إنقاذ عدد منهم لو أن سيارات الإسعاف آنذاك كانت مجهزة بشكل أفضل. ومنذ ذاك الوقت، بدأ الاهتمام بتصنيع موديلات حديثة من العربات وتجهيزها بأفضل الإمكانات واللوازم الإسعافية.
وتتضمن سيارات الإسعاف التي لا تكاد تخلو في الوقت الحاضر من أي مكان في العالم، تجهيزات طبية ضرورية مثل أجهزة قياس العلامات الحيوية، وأجهزة الأكسجين، وحقائب الإسعافات الأولية، ووسائل لعلاج الحروق، وأسرة لنقل المرضى، وجبائر، وأربطة، وغيرها من المستلزمات اللازمة لإتمام عمليات إنقاذ عادية، وتأمين أقصى حد ممكن من الحماية والراحة وتجنب تدهور وضع المريض، أو فقدان حياته.
الإسعاف إبان الحرب الأهلية الأميركية
ويحدد القانون الصحي المنظم لكل بلد معايير للاستخدام السليم والفعال لسيارات الإسعاف، وعلى رغم وجود بعض الاختلافات الطفيفة، تبقى المواد الأساسية مشتركة بين جميع الدول، نظراً إلى دورها الحيوي والعاجل في تقديم الإسعافات الأولية. وتحتوي مركبات الإسعاف في أغلب الأحيان جهاز تنفس ومطفأة حرائق وعتاد الإنقاذ وأجهزة التثبيت وكميات من الضمادات والعصابات، إضافة إلى عتاد الإنعاش وعتاد القطع والتفكيك وجهاز اتصالات لاسلكي وإشارات الخطر وأجهزة الإضاءة، وهناك سيارات يوجد فيها طبيب مسعف وممرضين لإجراء تدخل عاجل لمعالجة الإصابات على الفور، وتضم تقنيات التهوية القصبية وجهاز إلكتروني لقياس نبضات القلب وجهاز كهربائي لإنعاشه، إضافة إلى أدوية استعجالية وأدوات الحقن الوريدي وتجهيزات قسطرة معقمة، إلى جانب أدوات حقن بالمخدر.
ألوان مختلفة
وتتميز سيارات الإسعاف عن غيرها من السيارات المستخدمة في المجال الصحي طابع خاص يمكن الكبير والصغير من التعرف عليها، وصوت تنبيهها يختلف عن دونه من المركبات، فيجلب الانتباه حتى قبل وصولها إلى المكان، وتعد الأضواء أو الومضات من أهم المميزات الضرورية لسيارات الإسعاف، إذ تعمل كتحذير نشط للسائقين لإبلاغهم بقرب وصولها، وتطلب منهم إخلاء الطريق، وتتميز معظم هذه الأضواء باللون الأبيض الناصع والأزرق والأحمر.
ولأن لون سيارة الإسعاف يتميز بقدرته الكبيرة على جذب الانتباه، فإن معظم الدول حول العالم تستخدم اللون الأحمر والأبيض والأخضر والأصفر بشكل رئيس، وتحمل هذه الألوان دلالات صورية، إذ يرمز اللون الأصفر إلى الانتباه، بينما يرمز اللون الأحمر إلى الخطر، ويدل اللون الأخضر والأبيض على المجال الصحي والطبي. وعادة تكون التحذيرات البصرية السلبية جزءاً من تصميم سيارة الإسعاف، وتشمل استخدام أنماط التباين العالي.
أما القديمة كتلك الموجودة في البلدان النامية، فعادة ما تزود بالأنماط المطبوعة، بينما تحمل سيارات الإسعاف الحديثة تصميم العاكس الخلفي الذي يعكس الضوء من المصابيح الأمامية للسيارات. وفي أستراليا تميل معظم سيارات الإسعاف لاعتماد اللون الأبيض والأحمر في حين تعتمد بريطانيا استخدام اللونين الأخضر والأصفر معاً، أما في الولايات المتحدة الأميركية فتأخذ سيارات الإسعاف اللون الأحمر. ويشغل الشعار مساحة كبيرة على سطح سيارات الإسعاف، ويتكون من هلال يرمز إلى الهلال الأحمر في الدول العربية، بينما تستخدم سائر الدول رمز الصليب الأحمر، لكن بعض الدول تستخدم رمز علمها مثل إسرائيل التي تستخدم رمز نجمة داوود الحمراء، ولا تزال نجمة الحياة التي تستخدم في المجال الطبي هي الأكثر شيوعاً بين الرموز.
تطور هائل
بعيداً من الحروب التي أطلقت الحاجة إلى وجود مركبات الإسعاف، ووفرت بيئة خصبة لتطورها عبر الزمن، ظل تقديم المساعدة للمرضى والمصابين بأسرع وقت ممكن مصدر قلق إنساني دائم.
وتمكنت إمارة دبي عام 2017 من تصميم مركبة إسعاف هي الأطول في العالم، إذ يبلغ طولها 18 متراً، ولديها القدرة على استيعاب 44 مصاباً في المرة الواحدة، إضافة إلى تطورها التكنولوجي، فهي مزودة بخدمات الإنترنت، وكاميرات مرتبطة بالأقمار الاصطناعية، بجانب أن سقفها مجهز لأن يكون مهبطاً للطائرات المخصصة لنقل المصابين.
أول سيارة إسعاف تجرها الخيول
في حين كشفت شركة أميركية عن نموذج مركبة إسعاف طائرة سترى النور قريباً، تستطيع تقديم خدمات الإسعاف والإنقاذ في أي مكان وتحت أي ظروف، بما في ذلك المناطق النائية، أو في المواقع التي تقطعت بها السبل وتحطمت الطرق البرية المؤدية إليها.
وكشفت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، في سبتمبر (أيلول) الماضي، أن الشركة الأميركية ابتكرت مركبة الإسعاف الطائرة لتشبه سفينة الفضاء وتستطيع التحليق في الجو بسرعة تصل إلى 460 كيلومتراً في الساعة، ويمكن أن تصل إلى المرضى أو إلى مكان الحادثة في غضون ثماني دقائق فقط. وتقول الصحيفة، إن “مواصفات هذه المركبة تبدو وكأنها شيء من سلسلة الخيال العلمي، لكنها ستصبح قريباً في متناول اليد ومستخدمة في العالم لتحسين خدمات الإسعاف والطوارئ”.
وعلى رغم أن ما أعلن مجرد نموذج مبدئي، إلا أنه سيتم بناء هذه الطائرة لحمل معدات الطوارئ واختصاصي طبي مدرب إلى المناطق النائية التي يصعب الوصول إليها في الريف، وسيكون عضو الطاقم هو الطيار والمستجيب الأول. وتحمل الطائرة التي يجري العمل على تطويرها اسم (JA1 Pulse) وهي من إنتاج شركة (Jump Aero) ومقرها ولاية كاليفورنيا الأميركية. وحصلت الشركة المنتجة على عقد بقيمة 3.6 مليون دولار من القوات الجوية الأميركية لتطويرها. ومع ذلك، فإنها لن تحل محل سيارات الإسعاف التقليدية، لأنه لم يتم تصميمها لنقل المرضى، حيث إنه من المفترض أن يتم نشر كل من مركبة (JA1 Pulse) الطائرة وسيارة الإسعاف البرية التقليدية في الوقت نفسه في حالة الطوارئ، مع قدرة المركبة الطائرة على الوصول إلى مكان الحادثة أولاً بمعدات إنقاذ الحياة.