حرية – (7/1/2024)
تستقبلك الضاحية إذا كنت قادماً إلى بيروت عبر المطار، رابضة على ثغر الجنوب، جنوب بيروت، شهدت على إذلال الجيش الإسرائيلي عام 1982م، وكانت حاضرة مجازر صبرا وشاتيلا، وسكت إسرائيل لأجلها مذهباً حربياً واستراتيجية ستمثل علامة في تاريخ حروب المدن، يطبقها جيش الاحتلال كل يوم في غزة تقريباً.
الضاحية الجنوبية، التي تكونت من عدة بلدان كانت تمثل حواضر خارج بيروت، إذ هي محصورة بين ساحل بيروت الجنوبي، ويطلع عليها جبل لبنان حارس المطاردين والمشردين، الفارين من بطش المماليك وغيرهم من السلطات المركزية للدول المتعاقبة.
ساحل المتن الجنوبي
الضاحية الجنوبية كانت تعرف باسم “ساحل المتن الجنوبي”، تتبع الضاحية قضاء بعبدا، وتمثل أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في لبنان، حيث تحولت مع الزمن مأوى المهمشين والمحرومين، إذ نشأت على حواف المدن الحديثة مدن المهمشين، الذين سقطوا تحت أرجل رأسمالية الأمولة، أو فشل بناء قاعدة التصنيع، كانت الضاحية من النوع الأول، إذ كانت قبلة الضعفاء والمهمشين الذين استبعدوا اجتماعياً وسياسياً، فكان ذلك حافز الصعود الكبير.
يمثل تعداد سكانها ما يقرب من مليون نسمة، إذ تتجاوز تعداد سكان مدينة بيروت، أما مساحتها فتزيد بـ8.5 كم مربعة عن مساحة بيروت إذ تبلغ مساحتها 28 كم مربعاً، ويوجد بها الشياح، الغبيري، حارة حريك، برج البراجنة، الرمل العالي، الأوزاعي، حي السلم، الشويفات، العمروسية، الليلكي، المريجة، تحويطة الغدير، عين الدلبة، صفير، الجاموس، حي ماضي، بئر العبد، حي معوض، المعمورة، الرويس، الجناح وبئر حسن.
كما يوجد على حدودها الجنوبية خلدة، وفي شمالها بالقرب من بئر حسن يقع مخيما صبرا وشاتيلا، كما يوجد بها مخيم برج البراجنة الشهير الذي حدثت فيه إحدى مجازر حرب المخيمات التي نفذتها حركة أمل إلى جوار الجيش اللبناني والمسيحيين المارونيين عام 1985.
الذكر في القدم.. لبنان المملوكية
رحل إلى “حنتوس” فقيه الزمان الإمام أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، وذلك ليقضي فيها آخر أيامه متعبداً متبتلاً، ليسأل امرأة أين العمران، فذهبت به إلى المقابر، فتعجب من فعلها عندما سألها هؤلاء أموات، فأجابته إنك إذاً تسأل عن الخراب، رأيت الناس تأتي من هناك إلى هنا ولا تعود، فأي دار أحق بالعمران؟!
قبل 1350 عاماً كان أحد أوائل فقهاء السنة الكبار بعد التابعين يقطن تلك المنطقة وفيها قبض ودفن، وصارت “حنتوس” إلى “محلة الأوزاعي” وفيها مسجد أثري يحمل رفاته، بُني في العصر العباسي وما يزال قائماً إلى اليوم، مذهبه كان مذهب أهل الشام والمغرب، عرف عن الأوزاعي ورعه وتقواه، وكان له عظيم الأثر في وأد فتنة قتل مسيحيي لبنان، حتى إن الرئيس شارل الحلو المسيحي كان يرسل النذور والزيت والهدايا للإنفاق على المقام؛ تكريماً لأثره الجليل.
جاء أول ذكر لساحل المتن الجنوبي “الضاحية” في القرن الرابع عشر الميلادي، إذ كان وقتها يسمى ببرج بيروت، إذ سكنت طائفة شيعية كبيرة البرج، وقد ورد ذكر الطائفة في مرسوم الوالي المملوكي عام 1363، الذي صدر ضد شيعة بيروت وصيدا والمناطق المحيطة بها.
وذكرت في مخطوطة للمؤرخ صالح بن يحيى التنوخي توفي عام 1453م، إذ ذُكر قصة امتناع سكان قرية برج بيروت عن دفع إقطاع الأرض لأحد الأمراء الدروز، وقتلهم “العبد” الذي بعثه لهذا الغرض ورميهم إياه في بئر يُعرف مكانها اليوم بـ”بئر العبد”.
كما ذكر في سجلات ضرائب الطابو العثمانية لعام 1545، وبحسب الطابو فإن عدد سكان البرج 169 أسرة، و11 عازباً وإمام واحد، وجميعهم من المسلمين الشيعة. كما جاءت تحت اسم “برج الشيعة” في كتابات اسطفان الدويهي البطريرك السابع والخمسين للمارونيين توفي عام 1704.
من المتن إلى الضاحية
ظهر في هذه المنطقة “رائد إحدى الحركات الاستقلالية العربية” عبد الكريم قاسم خليل الذي ترأس مؤتمر باريس الشهير عام 1913، لكنه سرعان ما أعدم على يد جمال باشا في 20 يوليو/تموز 1916.
قبل الحرب الأهلية 1975م كانت الضاحية جزءاً من المستوطنات الريفية التي تتزايد تحضراً خارج بيروت، حيث يسكنها المسيحيون والشيعة. بين عامي 1920 و1943، توافد العديد من الشيعة من جنوب لبنان وسهل البقاع إلى الضاحية، هرباً من حملة الانتداب الفرنسي على المتمردين الشيعة في يونيو/حزيران 1920. ومع إهمال الدولة، وصل المزيد من الشيعة في أوائل الستينيات هرباً من الصعوبات المالية، شكلوا حزام الفقر في لبنان، على هامش مدينة بيروت في الجنوب والشرق على شكل هلال.
بحلول بداية عام 1975 كان 47% من الشيعة اللبنانيين يعيشون في بيروت الكبرى -بما فيها الضاحية-، زاد عدد سكان الضاحية خلال الحرب الأهلية في العام الأول نزح 150 ألف شيعي من كانتون بيروت الشرقية في أعقاب العنف الطائفي في السبت الأسود ومذبحة الكرنتينا، وذهب معظمهم إلى الضاحية، من بينهم آية الله البارز محمد حسين فضل الله. وكان معظم النازحين معدمين، وهو السبب الذي يدفعهم للبحث عن تمثيل سياسي، وكيان يمثلهم في صراع الغاب هذا.
وصل المزيد من الشيعة إلى الضاحية في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عامي 1978 و1982، مما أدى إلى نزوح أكثر من 250 ألف لاجئ وتسبب في تدمير ما يقرب من 80% من القرى في الجنوب، وبسبب رفضهم العيش تحت الحزام الأمني الإسرائيلي في جنوب لبنان، انتقل المزيد من الشيعة من قراهم إلى بيروت، وبحلول عام 1986 كان ما يقدر بنحو 800 ألف شيعي يعيشون في الضاحية، الغالبية العظمى من الشيعة في لبنان.
بحسب مسح إدارة الإحصاء المركزي لعام 2007 فإن 49.7% من الضاحية هم من خارجها نزحوا في الأعوام الماضية، إذ يشكل 24.3% من البقاع، و9.7% من بيروت، و15% من جبل لبنان، و0.7% من الشمال.
يوجد في الضاحية الجنوبية 193 ألف أسرة، يشكل الشيعة 85% من سكان الضاحية الجنوبية، وما يقرب من 10% مسيحيين مارون، 4% مسلمين سنة، و1% أخرى. باستثناء الفلسطينيين الذي تتراوح أعدادهم على التقريب بين 62-95 ألف نسمة في مخيمات البراجنة وصبرا وشاتيلا، كما أن مخيم البراجنة بعد الأزمة السورية 2011 استقبل أعداداً ضخمة من السوريين الفارين من أتون الحرب الأهلية.
التمثيل السياسي ومعركة خلدة
حفزت احتياجات المهاجرين من أتون الحرب الأهلية في بيروت التضامن الشيعي والاعتماد على الذات، الأمر الذي ركز على عزلة الضاحية الحضرية، وازداد تهميشها، فبدأ المفكرون يبحثون عن حل لواقع المهمشين، وكان موسى الصدر المكفر ورجل الدين الشيعي ذا النزعة اليسارية والذي أطلق عليها “ضاحية المحرومين”، كانت الضاحية مرتعاً للأفكار اليسارية بصفة عامة، وأضاف إليها موسى الصدر بعداً إسلامياً، واستتبع بمرجعيات كبيرة ومؤثرة مثل محمد حسين فضل الله الذي ستولد في كتاباته فكرة حزب الله.
تأسست حركة أمل على يد موسى الصدر الذي اتخذ من “الشياح” في الضاحية الجنوبية مقراً له، دعمت أمل الفلسطينيين في نضالهم، إلى أن دخلت إسرائيل لبنان مرتين في 1978 عملية نهر الليطاني الأولى، وفي اجتياح بيروت 1982، وفي الأخيرة شكلت حركة أمل والمقاومون الفلسطينيين جبهة أوقعت الجيش الإسرائيلي في معركة شهيرة في منطقة “خلدة”، أسرت على إثرها دبابات العدو الصهيوني وتنقل بها في بيروت للاستعراض.
هناك ولد حزب الله، هذه المرة بأفكار تقترب من ولاية الفقيه، وبرز الحزب بشكل فعلي في حرب المخيمات 1985م عندما وقف ضد حركة أمل التي شنت حرباً ضد فلسطينيي المخيمات لاستئصال منظمة فتح العاصفة بقيادة ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف بتحريك ودعم سوري، وبدافع من شيعة بعض الجنوب المهجرين الذين رأوا أن عمليات منظمة التحرير ستؤدي إلى تدمير بلادهم أكثر.
في تلك الأرجاء ولد حزب الله وتحالف مع فتح بادئ الأمر، وأوقف النزيف الفلسطيني بعد هزيمة كبيرة لهم على يد إسرائيل بخسارتهم حلفاء مثل الحزب الشيوعي والاشتراكي التقدمي، وهزيمة أحد حلفائهم وهو حركة المرابطون الناصرية.
استراتيجية الضاحية
بعد أن تفوقت إسرائيل في القوة النيرانية الجوية باستهداف منظومات الدفاع الجوي السورية في حرب 1982م، وفي تقييد حصول مصر على السلاح، أصبح التهديد المباشر لجيش الاحتلال هي حركات المقاومة، إذ تعتبر حرب المدن وحروب العصابات والحرب غير المتكافئة هي نقطة ضعف في منظومة التسليح الإسرائيلية.
وبعد انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، طور غادي أيزنكوت رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي ومجموعة عسكريين تكتيكاً لردع الجماعات التي تهدد أمن الاحتلال كحزب الله. إذ كان من الملاحظ بعد الحرب العالمية الثانية وخطة “مارشال” إعادة الإعمار كانت تساعد الحلفاء والمهزومين في الانخراط أكثر في التماهي مع سياسة المنتصر والأقوى.
كما استخدمت إعادة الإعمار في إعادة هندسة المدن والبلدات المدمرة بحيث يسهل السيطرة عليها، وكذا بناء الاقتصاد الخاص بها بأن يكون مرتبطاً بالشبكة الرئيسية التي تهيمن عليها المركز -كالولايات المتحدة-، لكن في حالة الحروب اللامتكافئة فذلك غير متحقق، لأن الجماعة ستظل شبكة لا تأخذ طابع الدولة.
وهنا ولدت استراتيجية استخدام سلاح إعادة الإعمار كسلاح ضمن أسلحة الحرب، إذ تقوم إسرائيل بتفوقها الجوي على تدمير البنية التحتية للمواطنين والمجتمع تدميراً كبيراً، حتى تضغط على الحاضنة الشعبية لحزب الله في الضاحية الجنوبية، في وقت محدود، وترفع عليه التكلفة لأقصى مدى، وبعد توقف الحرب تبدأ مسار مساومات حول إعادة الإعمار، وسميت هذه العقيدة التدميرية “بمذهب الضاحية”، وكان أول استخدام لها في حرب يوليو/تموز 2006، وتكررت في غزة منذ 2008 وبلغت ذروتها اليوم في حرب 2023.