حرية – (7/1/2024)
“متعة عصرية” للجسد والنفس واحتفاء بالنساء بعد الولادة واستثمار اقتصادي للعراقيين
تشكل حمامات السوق الشعبية في بغداد جزءاً من تاريخ وتراث العاصمة العراقية التي عرفتها الأجيال جيلاً بعد جيل، وعلى رغم تطور أساليب الحياة وارتداء ثوب الحداثة إلا أن حمام السوق بقي موروثاً اجتماعياً يصر عليه البغداديون.
والحمام العام وسيلة يستخدمها الإنسان لتنظيف جسده، وعلى رغم توفرها في كل بيت عراقي اليوم، إلا أن الذهاب إلى حمامات السوق الشعبية له طابع خاص، إذ يكون لقاء الناس والاختلاط بهم وتبادل الأحاديث الاجتماعية ومعظمها تكون عند أبناء المنطقة الواحدة، فضلاً عن اعتبارها وسيلة للاسترخاء من ضغوط الحياة.
وكانت الحمامات الشعبية في بغداد شيدت بناء على طلب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، إذ إن معظمها بني بالقرب من المساجد، وكانت من أشهر الحمامات البغدادية القديمة (السيد وأيوب والباشا والفضل)، ولم تختصر تلك الحمامات على الرجال فقط إنما شملت حتى النساء، إذ كانت المرأة الحامل بعد أن تلد طفلها تحضره للحمام وسط زغاريد النساء تعبيراً للفرح عن المولود الجديد.
خدمات حديثة
وفي ظل تطور التقنيات والحداثة، باتت الحمامات الشعبية في بغداد مواكبة للحداثة والتطور، إذ كان في السابق الاختصار على تنظيف جسد الزبون وتدليكه، أما اليوم فالحداثة انعكست على أساليب الحمامات الشعبية في العراق وباتت الخدمات التي تقدم متعددة ومتنوعة منها “ساونا ملحية وبخارية وجاكوزي حار وبارد وتدليك وحلاقة متكاملة ومساج بالزيوت والكريمات وتنظيف البشرة بجهاز الهايدروفيشل، كذلك قاعة للألعاب الرياضية والحجامة، وتقديم المشروبات المعتادة من الشاي والقهوة وغيرها”.
ويشير صاحب أحد الحمامات الشعبية في بغداد ويدعى أبو محمد، إلى أنها مرتبطة بالموروث الشعبي في العراق، مضيفاً “كان آباؤنا وأجدادنا يقصدون الحمامات الشعبية ليس فقط لغرض تنظيف الجسد، إنما تشكل جلسة أخرى شعبية بين الأصدقاء وأبناء المنطقة الواحدة، إذ يقضي الزبون وقته مستمتعاً ومخففاً من كاهل وضغوط الحياة ولو لوقت قصير على رغم أنها جميعاً كانت بسيطة جداً”.
وأوضح أن الحمامات كانت تشهد اكتظاظاً بالزبائن لا سيما في أوقات العطل، فضلاً عن إقامة بين الحين والأخرى حفلات بسيطة بسبب وجود شخص يريد أن يتزوج فيقوم أصدقاؤه ومن بالحمام بالزغاريد والرقص والغناء.
رأى أن تطور أساليب الحياة انعكس على اندثار تلك المهنة وحصرها، إذ إن معظم الحمامات تحولت إلى مخازن أو محال للاستفادة منها لذلك هجرت من كثير من أصحابها إلا أن القليل اليوم مقاوم لتلك التحديات، وعلى رغم توفر الحمامات في جميع المنازل.
وتابع أن “للحمامات الشعبية ارتباطاً وثيقاً في ذاكرة العراقيين، إذ نقدم اليوم كثيراً من الخدمات لتلبية متطلبات الزبائن ولمواكبة الحداثة”، مبيناً “أن أيام الجمع والعطل الرسمية نشهد إقبالاً كبيراً من الزبائن فضلاً عن المناسبات كالأعياد والأعراس”.
وفي هذا السياق يشير الباحث الاجتماعي علاء وليد إلى أن حمامات السوق الشعبية كانت جزءاً لا يتجزأ من اهتمامات العراقيين، لكن اليوم وبفضل التقنيات وتطور أساليب الحياة تغير كثير من المفاهيم لدى المواطن العراقي ليس فقط الأمر مختصر على حمام السوق إنما شمل جميع مفاصل الحياة.
في الآونة الأخيرة شهدت هذه الحمامات تطوراً ملحوظاً يمزج بين الأصالة والحداثة
وقال إن كثيراً من الحمامات شهدت اندثاراً نتيجة عدم مواكبتها لتطور أساليب الحياة إلا أنها بقيت تحمل كثيراً من الذكريات للعراقيين، مبيناً أن الحمامات الشعبية اليوم تقدم وسائل ترفيه متعددة، ومن الناحية الاقتصادية كانت حمامات السوق الشعبية في العراق من أكثر أنواع الاستثمار المجزية.
تأثير اقتصادي ملموس
وفي هذا السياق أوضح أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي أن حمامات السوق بمثابة جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي والاجتماعي للعاصمة العراقية، وهي تعكس بشكل مباشر الهوية العراقية العريقة.
وأضاف “في الآونة الأخيرة شهدت هذه الحمامات تطوراً ملحوظاً يمزج بين الأصالة والحداثة، مما كان له تأثير بالغ في الجوانب الاقتصادية في المدينة، إذ تعد حمامات السوق مركزاً للتجمع الاجتماعي ويلتقي الناس ليس فقط للاغتسال ولكن أيضاً لتبادل الأخبار والقصص وإجراء الأعمال”.
وتابع “في الوقت الحاضر تحولت هذه الحمامات إلى مراكز تجمع بين العادات التقليدية والخدمات الحديثة مثل الساونا والجاكوزي وعلاجات التجميل، مما جذب فئة أوسع من الزبائن، إذ إن التأثير الاقتصادي لهذا التطور ملموس في جوانب عدة”.
ونوه بأن “تحديث الحمامات أدى إلى خلق فرص عمل جديدة في مجالات البناء والتجديد والخدمات، ومع ازدياد الطلب على خدمات حمامات السوق تزايدت أيضاً الفرص التجارية المتعلقة بمنتجات العناية الشخصية والتجميل، مما أسهم في تنشيط الاقتصاد المحلي”.
وختم حديثه بقوله “لو أخذنا على سبيل المثال التجربة التركية في هذا المجال، إذ أسهمت هذه الحمامات في جذب عديد من السياح الباحثين عن تجارب ثقافية فريدة. يأتي السياح ليس فقط لتجربة الحمامات التقليدية، بل أيضاً للاستمتاع بالتطورات الحديثة التي تم تقديمها، هذا الجانب السياحي يعزز من إيرادات المدينة ويسهم في تحسين صورتها عالمياً كوجهة ثقافية وتاريخية”.
جبار زيدان