حرية – (7/1/2024)
ارتفع اليوم عدد الصحافيين الفلسطينيين الذين قضوا على يد القوات الإسرائيلية منذ بدء حرب غزة إلى 109، بعد إعلان استشهاد الصحافيين مصطفى ثريا وحمزة الدحدوح، نجل مراسل “الجزيرة” وائل الدحدوح الذي سبق أن فقد زوجته وابنه وابنته وحفيده في قصف إسرائيلي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
بين الواجب المهني والعمل الإنساني، يراوغ الصحافيون الفلسطينيون الموت لنقل الوضع الكارثي الذي يعيشه أهالي غزة منذ بداية الحرب، فسرعان ما أصبحوا شهوداً على المأساة بكل تفاصيلها وشريان حياة لسكان القطاع المحاصر.
الصحافيان مصطفى ثريا وحمزة وائل الدحدوح.
ويرى أستاذ الإعلام الفلسطيني في جامعة “بيرزيت” صالح مشارقة لـ”النهار العربي” أن الصحافي في غزة “يؤدي اليوم دوراً جديداً. فمن جهة، يقوم بعمل فردي بعيداً عن الأداء الجماعي. ومن جهة أخرى، شكل الإعلام الاجتماعي الأداة الوحيدة للتغلب على الحصار الإسرائيلي على المعلومات، ليصبح الصحافي المصدر الوحيد للأنباء مع انهيار المؤسسات الإعلامية. وفي ظل انتشار مواقع التواصل الإجتماعي وغياب مؤسسات إعلامية تعمل بحرية في الميدان، يعمل الصحافي الفلسطيني على نقل الإبادة بحق شعبه إلى العالم”.
وإلى جانب نقل الحقيقة، وجد الصحافي الفلسطيني نفسه يسارع من أجل مساعدة الجرحى ونقلهم إلى المستشفيات، فضلاً عن التخفيف من صدمة الأطفال الذين ترتجف أطرافهم خوفاً عند قصف منازلهم أو إصابتهم
أما في الضفة الغربية، فيختلف هذا الدور، إذ تروي الصحافية الفلسطينية فاتن علوان أن الصحافي لم يضطر إلى اسعاف المصابين ومواساة الأطفال والبقاء إلى جانبهم. مع ذلك، بالتزامن مع حرب إبادة في غزة، تندلع حرب صامتة في الضفة، التي تشكل هدفا خفياً وراء الحرب الحالية.
وتختلف الحرب الحالية على غزة عن سابقاتها بأن أحداثها تنتشر على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ويتحدث مشارقة عن أهمية الدور الذي تؤديه هذه المواقع، مؤكداً أنها أكبر استفادة لأهل القطاع في السنوات العشر الماضية. وبعيداً عن وسائل الإعلام التقليدية، التي هي إما مع فلسطين أو ضدها أو محايدة، أصبحت هذه مواقع متاحة أمام أكبر عدد ممكن من الصحافيين والمؤثرين، ما سمح لهم بنشر أضعاف المحتوى الإعلامي الذي كان يقدم عبر القنوات الرسمية والصحف الورقية والوكالات الوطنية والعربية والدولية. ويشدد مشارقة على أن “رغم تقييد المحتوى، لم تكن القضية الفلسطينية لتصل إلى العالم من دون هذه المنصات، التي وضعت المستخدمين في إطار القضية الفلسطينية، ما أدى إلى إطلاق دعوات واسعة إلى التحرك لوقف الحرب”.
ويشكل الصحافي الفلسطيني اليوم ظاهرة عالمية، إذ أصبح مصدر الأخبار الأسرع والأقرب إلى الواقع. واللافت أن المصور الفلسطيني معتز عزايزة تخطى الرئيس الأميركي جو بايدن بعدد المتابعين عبر “إنستغرام”. وسرعان ما لاقت منشوراته انتشاراً واسعاً منذ توثيقه آثار الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف منزل عائلته في مخيم دير البلح للاجئين. وقُتل ما لا يقل عن 15 فرداً من عائلته، معظمهم من النساء والأطفال. وكان بين الجثث التي صورها أشلاء لفردين من عائلته الأصغر سناً. وحصل عزايزة على لقب “رجل العام” من مجلة “جي كيو الشرق الأوسط” لعمله في تغطية الحرب.
ويفسر مشارقة هذه الظاهرة بأن الانتشار عبر مواقع التواصل الاجتماعي اليوم غير محكوم بالمال ولا بالهيمنة السياسية ولا العسكرية، بل بمحتوى ابداعي يصل إلى العالم ويتمكن من التأثير فيه واقناعه، وهذا ما أفاد الفلسطينيين. ويشير إلى أن السنوات الأخيرة “أثبتت أن فلسطين هي إحدى القضايا التاريخية العادلة في العقل العربي والعالمي، وعامل انتشار واسع لأي شخص يتحدث عنها بأريحية شديدة. وفي ظل الفظائع التي ترتكب بحق الشعب، تسللت القضية إلى خارج السياسة، لتحاكي انسانية العالم”.
أساليب مبتكرة لنقل الصورة رغم الحصار
في وقت يعاني جميع سكان غزة من نقص في الوقود والغذاء والماء، يحتاج الصحافيون إلى الكهرباء لشحن الهواتف والكاميرات وأجهزة الكمبيوتر، وإلى شبكة الإنترنت والاتصالات لنشر محتواهم، ما دفعهم إلى ابتكار أساليب جديدة، مثل الصعود إلى أسطح منازل لالتقاط الإنترنت.
ويشيد مشارقة بتكتيكات مليئة بالإبداع، منها التقاط الصور والفيديوات، ثم ربط الهاتف على عصا ورفعه في الهواء من أجل التقاط الشبكة وتحميل المواد عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ويسير البعض مسافة تصل إلى كيلومترين للوصول إلى منطقة مزودة بالإنترنت، كما يأخذ بعض الناشطين الصغار في السن هواتف أشقائهم من أجل شحنها في مناطق أخرى.
استهداف الصحافيين
حذر شريف منصور، منسق برنامج لجنة حماية الصحافيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أن حرب غزة هي أخطر وضع يشهده الصحافيون في التاريخ. وأشار إلى أن الأرقام تظهر ذلك بوضوح، مستنداً إلى أن الجيش الإسرائيلي قتل عدداً من الصحافيين خلال عشرة أسابيع أكثر من أي عدد قتله جيش آخر أو كيان خلال عام.
ولا تميز القوات الإسرائيلية بين أهدافها، فتقتل المدنيين من أطفال ونساء، كما الصحافيين الذين يؤدون واجباتهم في الميدان. وفاق عدد الشهداء الصحافيين 107 صحافياً منذ بداية الحرب. مع ذلك، لا يمكن للصحافيين تغطية الحرب من الخطوط الخلفية ولا التراجع إلى مكان آمن نسبياً عند الضرورة. فهم يعيشون وسط ما وصفته صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية بـ”حملة قصف مدمرة”.
وتؤكد علوان لـ”النهار العربي” أن الصحافي في غزة ليس لديه الخيار، فهو في قلب الحدث، ولا يمكنه عدم المخاطرة أو النقل من مكان أكثر أماناً لأن كل القطاع يواجه الدرجة نفسها من الخطورة.
ونشر عزايزة رسالة جاء فيها: “لا أحد في أمان، وما من مكان آمن في غزة… الخوف في كل مكان. يمكنني إما البقاء في المنزل أو الخروج… فلماذا علي أن أبقى؟ يجب أن أظهر للعالم الحقيقة من خلال عدسة الكاميرا”.
أما مراسل “الجزيرة” وائل الدحدوح، فواجه سلسلة من المآسي، آخرها اليوم الأحد، بعد استشهاد نجله الصحافي حمزة مع زميله مصطفى ثريا بعدما استهدفت غارة إسرائيلية سيارتهما غرب خان يونس. وسبق لوائل الدحدوح أن تلقى على الهواء مباشرة، أثناء تغطيته للقصف المتواصل على القطاع في 25 تشرين الأول، نبأ استشهاد زوجته وابنه وابنته وحفيده (ابن حمزة) وعدد من أفراد عائلته في غارة جوية إسرائيلية، إثر قصف منزلهم في مخيم النصيرات وسط غزة، وهو المنزل الذي لجأوا إليه بعد قصف حيّهم وعقب دعوة القوات الإسرائيلية للمدنيين إلى التحرك باتجاه جنوب القطاع. وأصيب الدحدوح في وقت لاحق إثر غارة أدّت كذلك إلى استشهاد زميله المصور سامر أبو دقة، لكنه عاد بعد يومين فقط ليرتدي سترته الصحافية، وظهر عبر الشاشة مع ضمادة على معصمه، لتقديم تغطية حية من داخل غزة.
https://www.facebook.com/watch/?v=360748852971806
وفي 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، خلع مراسل “تلفزيون فلسطين” سلمان البشير باكياً سترته الواقية وخوذته بينما كان يبث على الهواء مباشرة خارج مستشفى ناصر في جنوب غزة. وكان البشير ينقل خبر رحيل زميله محمد أبو حطب الذي قُتل مع 11 فرداً من عائلته في غارة جوية على منزلهم في خان يونس. وقال: “هذه السترات والخوذات الواقية لا تحمينا… لا شيء يحمي الصحافيين”.
في المقابل، يتحدث مشارقة عن دوافع كثيرة لمواصلة الصحافي عمله الميداني رغم خطورة الوضع، مشيراً إلى أن “المواطن العربي وليس فقط الفلسطيني، عندما تتعرض أرضه للاحتلال، سرعان ما تظهر لديه غريزة الدفاع عنها”. ويشير إلى “عوامل إضافية أخرى ظهرت في المناطق التي طالها العدوان الإسرائيلي، لا سيما بين الفلسطينيين واللبنانيين والأردنيين والمصريين الأقرب إلى حدود فلسطيين، الذين نشأت لديهم ذاكرة طويلة الأمد عن الاحتلال والاجتياح والمجازر”، لافتاً إلى أن اللبناني، على سبيل المثال، يدرك ما حدث في قانا وتل الزعتر وغيرها من المناطق. وبالتالي، يرى أن “ذاكرة الألم التي صنعتها آلة البطش الإسرائيلية تحولت المحرك الأكبر للأجيال الجديدة”، وهي “لا تتلاشى مع الزمن، بل تشكل ذاكرة جماعية تغذي الصمود والمقاومة”.
ورغم أن إسرائيل تنفي استهداف الصحافيين، حذرت بعد مرور ثلاثة أسابيع من الحرب وكالتي “رويترز” و”وكالة الصحافة الفرنسية” من أنها لا تستطيع ضمان سلامة مراسليهما في القطاع. وفي خطوة أثارت قلق المراسلين، قال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن بعض المراسلين الفلسطينيين كانوا “شركاء في جرائم ضد الإنسانية”، بعد اتهام المصورين الصحافيين المستقلين الذين يعملون في وسائل إعلام عالمية بأن لديهم معرفة مسبقة بعملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وأدت إلى مقتل أكثر من 1200 شخص.
ولا تقتصر الاعتداءات الإسرائيلية على الصحافيين في الميدان، بل تمتد إلى استهداف أفراد عائلاتهم في منازلهم، وهو ما عبَّر عنه الدحدوح قائلاً: “بينتقموا منا في الولاد”.
إلى ذلك، قصفت القوات الإسرائيلية أكثر من 50 مقراً إعلامياً أجنبياً ومحلياً داخل قطاع غزة خلال الفترة الماضية، من بينها مكاتب عدد من المؤسسات الإعلامية في برج الغفري، الذي يضم مكاتب “وكالة الصحافة الفرنسية” وقناة “الجزيرة”، و”قناة الشرق”، والمجموعة الإعلامية الفلسطينية. وتعطلت الإذاعات الأربعة والعشرون في قطاع غزة وتوقفت عن البث بسبب نفاد مصادر الطاقة.
قلب الرأي العام
ترى علوان أن الجهود الذي يبذلها الصحافيون قلبت الرأي العام بالكامل، مشيرة إلى أن الجيل الجديد في الولايات المتحدة، الذي لم تعرّفه حرب غزة على القضية الفلسطينية فحسب، بل على مفهوم الحرب وواقعها المأسوي، بدأ يطالب الإدارة بتغيير سياساتها الخارجية. وشكل ذلك نقلة نوعية في تاريخ القضية الفلسطينية.
ويؤكد مشارقة بدوره أنه يرى للمرة الأولى مؤسسات عالمية، على غرار الجامعات الأميركية والشركات الأوروبية والأحزاب، تواجه انقسامات داخلية بسبب مواقف جديدة من القضية الفلسطينية، ما يعود جزئياً إلى التغيرات الإعلامية التي أحاطت الحرب الحالية.
وللمرة الأولى، تجتاح التظاهرات الداعمة للفلسطينيين الشوارع الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا، ويندد غربيون بشدة بأعمال إسرائيل، بدلاً من الرضوخ لفكرة التخويف التي توجهها مجموعات الضغط اليهودية.
ويلفت مشارقة إلى أن التغيير ظهر على الصعيد السياسي أيضاً، إذ أرغم “حزب العمال البريطاني” على إجراء تغييرات كبيرة في الداخل بسبب ارتفاع وثيرة التأييد للقضية الفلسطينية. ويوضح أن الحزب الديموقراطي الأميركي بات يخشى فشله في البقاء في السلطة بسبب مواقف الرئيس جو بايدن الداعمة لإسرائيل. لذا، يخلص إلى أن “الحرب الحالية فرضت تحولات غير مسبوقة على العالم، لكنها حدثت على نحو طبيعي، بعيداً عن الجهود الدبلوماسية العربية”.