حرية – (15/1/2024)
مع بداية كل سنة يتسمر الكل أمام الشاشات لسماع توقعات العام من باب التشوق. هذا ما تعتمد عليه المحطات التلفزيونية والإذاعية التي تخصص فترات من البث لاستقبال “علماء الفلك” والمنجمين، وتفسح لهم المجال حتى يرضوا فضول الناس، فتستفيد من ارتفاع معدلات المشاهدة في الوقت نفسه. ويترقب الناس هذه التوقعات وإن كانوا يرفضون تصديقها في كثير من الأحيان، كما يؤكدون. في هذه الفترة من السنة تزيد أيضاً مبيعات الكتب الخاصة بالأبراج والتوقعات لأن الفضول يسيطر على كل فرد في سعيه إلى معرفة ما يخبئه المستقبل. فمن الواضح أن الموسم الأبرز لقراءة الطالع والأبراج ومتابعة التوقعات يحل في الشهر الأخير من السنة والشهر الأول من تلك التي تليها. ويبدو واضحاً أن هذا الاهتمام بالأبراج الفلكية والتوقعات زاد اتساعاً وانتشاراً بوجود منصات التواصل الاجتماعي، مما سمح بانتقالها من خانة ضيقة في الصحف والمجلات أو الكتب، إلى مستوى أعمق مع صفحات كاملة بهذا الشأن وتطبيقات خاصة بالأبراج، وأيضاً بوجود تنبؤات يومية مفصلة. حتى إن المنجمين باتوا يقدمون استشارات في مكاتبهم الخاصة، فيما القانون اللبناني يمنع العمل بالتنجيم. كما تحولوا إلى نجوم قد ينافسون أهل الفن والسياسة بالنسبة إلى من يقبلون على أي قراءة للمستقبل ويتعلقون بها. لكن، هل يستند ما يقومون به إلى أساس علمي أم في ذلك استغلال للناس ليس إلا؟
فضول تصعب السيطرة عليه
يعيد علم النفس هذا الاندفاع نحو التنجيم وما يقدمه من توقعات إلى حاجة الإنسان إلى الاطمئنان والشعور بالأمان عبر معرفة ما يخبئه له الغد. فعندها يدرك كيفية التصرف كاتخاذ الحذر أو التصرف بهدوء. بصورة عامة، يتشوق الناس إلى معرفة التوقعات، لأن الكل يحتاج نفسياً إلى ما يزرع الأمل في نفسه، ويحدثه عن انفراجات، كما يحصل عادة في توقعات الأبراج. فهي تعطيه معلومات حول الغد المجهول الذي يقلقه، وإن كان لا يصدقها دائماً. حتى إن كثراً يعتمدون في القرارات التي يتخذونها على هذه المعلومات وتتحول الرغبة في قراءة الطالع إلى هاجس، خصوصاً مع بداية العام. هذا ما قد يستغله كثر من المنجمين ممن يسمون أنفسهم “علماء فلك”، فتبدأ التنبؤات في مختلف الجوانب العاطفية والمهنية والصحية للناس، إضافة إلى التوقعات العامة التي يترقبها الكل بشغف، وباتت في السنوات الأخيرة تطاول حتى السياسة والاقتصاد والأمن. وفي مساعيهم لتحقيق الانتشار والمكاسب، يستفيد المنجمون من ضعف الإنسان أمام المجهول وقلقه حيال المستقبل، خصوصاً في الأزمات. هذا ما يحصل حالياً في لبنان. فيجد الإنسان الراحة والأمان في معرفة ما يخبئه المستقبل ليعرف ما ينتظره ويتصرف على هذا الأساس. وتستغل وسائل الإعلام لهفة الناس هذه في عملية التسويق.
في حديثه مع “اندبندنت عربية”، يميز المتخصص في علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية ومؤلف كتاب “سوسيولوجيا التنجيم” نديم منصوري، ما بين علم الفلك كعلم قائم بذاته، وفن التنجيم، ويحرص على الفصل بينهما. ويوضح أن التنجيم موجود منذ العصور القديمة، منذ آلاف السنوات، وكان هناك اهتمام واضح به. وكثيراً ما اهتم الإنسان بحركة الأفلاك والكواكب والتوقعات، إلا أن التنجيم اختلف بين الشعوب. ففي بابل، اعتمدت المهنة للتنبؤ بإرادة الله، وهو ما تبناه اليونانيون لاحقاً. أما في الهند، فقاموا بتطوير علامات مستخدمة حتى اليوم بعد أن استكشفوا هذا العلم، لكن المصريين كانوا أول من استخدم علم التنجيم للتكهن بخصائص شخصية، وغاصوا فيه حتى أصبح هذا العلم جزءاً مهماً من ثقافة عديد من القدماء. بصورة عامة، كان هناك اهتمام بمن يعملون في هذا المجال لمتابعة حركة الأجرام السماوية.
إلا أن التنجيم ارتبط أيضاً عبر العصور بمجموعة من التقاليد والاعتقادات حول هذا المجال. وكان الملوك يلجأون إلى المنجمين لاكتشاف ما ينتظرهم، ويترقبون التوقعات على أساس حركة النجوم. منذ ذاك الوقت، كان فضول الإنسان الدافع الأول ليظهر هذا الاهتمام بالمنجمين. وكان الأشوريون والكلدان أول من صنفوا الأبراج وفق أشكال معينة وأطلقوا عليها التسميات المعروفة الآن بالاستناد إلى حركة الكواكب، حتى أصبحت تعرف بـ”الأبراج الفلكية”. إلا أن هذا النوع من القراءات لا ينطبق على كافة شعوب العالم، إذ تتخذ الأبراج الصينية أشكال حيوانات، وتكون على أساس سنوات الولادة، فيما ثمة شعوب أخرى صنفتها على أساس الشجر. وفي ظل هذا الاختلاف، ما من قراءات موحدة بين مختلف الشعوب في هذا المجال، وقد يكون هناك تضارب أيضاً بين قراءات المنجمين.
بين التنجيم والعلم
بصورة عامة، أصبحت هذه التصنيفات الخاصة بالأبراج متوارثة عبر الأجيال وبين الشعوب. وأصبح كل كوكب يرمز إلى أمر ما في الأبراج الفلكية، من دون أن تكون هناك قاعدة علمية وراء التصنيف، فارتبط عطارد مثلاً بالذكاء، وأصبح بلوتو كوكب الدمار في القراءات الفلكية القديمة، لكن في العلم من المفترض النظر إلى معادلة معينة حتى يكون من الممكن الارتكاز إليها، بحسب ما يوضح منصوري. وإذا عدنا إلى دراسة دقيقة لعلم الفلك، تتبدل حركة الشمس. وتشير القراءات إلى أنه أصبح هناك 13 برجاً فلكياً وليس 12 في مسار الشمس كما قسمت قديماً. وهذا الاكتشاف يتطلب تغييراً يرتبط بتوقعات الأبراج أيضاً، لكنه أمر مستبعد لأنه يحدث تغييراً جذرياً في هذا المجال.
من جهة أخرى، يحدد علم الفلك حركة الخسوف والكسوف، وتوقيت الصلاة، ويعطي معلومات دقيقة في هذه المجالات العلمية. في المقابل، لا يمكن القيام بتوقعات، أو إعطاء معلومات عن المستقبل من خلال حركة النجوم والكواكب، كما يدعي البعض.
ويقول منصوري، “في دراسة أجريتها وقابلت فيها منجمين في لبنان، حاولت الحصول على معلومات منهم، لكن بدا واضحاً رفض الكل إعطاء معلومات. كما حاولت التأكد إذا ما كانوا يستندون إلى العلم، وأخفقوا جميعاً في الاختبارات، ما أكد عدم وجود متابعة فعلية في علم الفلك. في المقابل، من يقدمون هذه التوقعات التي ترضي فضول الناس ورغبتهم في معرفة ما يخبئه المستقبل، يرفضون تسميتهم بالـ(منجمين)، ويتخذون صفة (علماء الفلك) لإضفاء مزيد من الصدقية والرصانة على صورتهم، وإبعاد صفة التدجيل التي قد يربط البعض بينها وبين من يقرأ الطالع أو يعطي معلومات عن المستقبل. في الواقع، علم الفلك هو تخصص علمي قائم بذاته يتطلب سنوات عديدة من الدراسة والمتابعة، فيما ذلك لا ينطبق على المنجمين الذين يكتفون بالقيام بدورة لا تتخطى الأشهر، وقد دخلوا المجال من طريق الصدفة، كما تبين. في المقابل، لدى كثر من المنجمين مصادر معينة للمعلومات يستفيدون منها في توقعاتهم. واللافت أنه في الدراسة التي أجريتها، تبين أن 60 في المئة من الناس ضمن عينة من 1000 شخص، تعتبر التنجيم كذباً لكنه يؤمن الراحة النفسية، وهؤلاء الأشخاص أنفسهم يترقبون التوقعات وقراءات الأبراج”.
حاسة سادسة وراء التوقعات
أما الحاسة السادسة التي يعتمد عليها المنجمون في التوقعات التي يرضون جمهورهم بها، فتندرج ضمن خانة “ما وراء علم النفس” التي تتخطى الطبيعة البشرية، بحسب منصوري. ومن الممكن أن تكون لدى البعض قدرات خارقة لها خصائص معينة، فإنها مسألة لا يحسمها العلم للتأكيد إذا ما هذه القدرات التي قد يتمتع بها شخص قد تسمح له بمعرفة الغيب وقراءة المستقبل. أما الأديان فقد حسمت الموضوع، وأكدت أنه لا يمكن لأحد أن يعرف ما في الغيب، وتوقع ما قد يحدث في المستقبل. وهو مما يؤكد أنه لا يوجد علم يمكن أن يكشف عما سيحصل المستقبل.
يؤيد عالم الفلك فارس بارازي فكرة أن الحاسة السادسة موجودة لدى بعض الأشخاص ربما، وأن لا علاقة لها بعلم الفلك الذي يرتكز على حركة الكواكب والأجرام السماوية فقط لا غير. في الوقت نفسه يربط بين العلم والتنجيم، مشيراً إلى أن أحد التفسيرات العلمية المهمة لعلم الفلك هي حركة المد والجزر، والتي يعرف ارتباطها بحركة القمر وجاذبيته. ويقول، “لكل كوكب ضمن مجموعتنا الشمسية تأثير خاص بفضل ذبذبات كهرومغناطسية يطلقها في الفضاء، وتلعب دوراً مهماً في حياتنا. فحركة الكواكب هي الأساس العلمي والوحيد لعلم الفلك وللتوقعات العامة أو الخاصة بالأشخاص، والتي تبنى على أساس تاريخ وساعة الولادة، ويستحيل أن يبني أي فلكي توقعاً من دونها. أيضاً، يمكن لعلم الفلك الغربي أن يعرف مسبقاً بكثير من الأحداث التي قد تحصل مع الإنسان بدقة فائقة تصل إلى حد إمكان التمييز في التوقعات بين توأمين ولدا في اليوم نفسه والساعة ذاتها، ولو كان الفارق بين ولادتيهما دقائق معدودة”. ويميز بارازي هنا بين علم الفلك والتدجيل الذي يشهده الكل في مختلف وسائل إعلام على مختلف الشاشات عبر أشخاص يدعون العلم والمعرفة للقيام بتوقعات هي عبارة عن أجندات جهزت مسبقاً لهم من قبل سياسيين أو أشخاص مهمين مقابل مبالغ طائلة يتقاضونها لتخويف الناس من المجهول. أما علم الفلك فيرتبط بحركة الكواكب وبمدى تأثيرها في الناس “كعلم قائم يدرس في أهم جامعات العالم”. لذلك، لدى أهم رؤساء العالم والمشاهير مستشار فلكي يساعدهم على اتخاذ قراراتهم ويتوقع ما يخبئه لهم المستقبل.
تنقسم الآراء حول صدقية التوقعات التي نسمعها، لكن في كل الحالات، قد لا تكون المشكلة في سماعها، أو في تتبعها، إنما في تحولها إلى هاجس يسيطر على حياتنا وعلى تحركاتنا، هذا ما يستغله فعلاً من يدعون العلم والمعرفة.
كارين اليان ضاهر