حرية – (18/1/2024)
على الرغم من أنها تقع داخل قارة أوروبا، فإنك ستُفاجأ عند المشي في شوارعها بوجود الكثير من الرموز المعبرة عن الاتحاد السوفييتي، إنها مدينة “ترانسنيستريا” المولدوفية، أو كما يسميها سكانها “جمهورية ترانسنيستريا”.
جمهورية ترانسنيستريا التي ليس لها وجود
تقع جمهورية ترانسنيستريا، وهي دولة انفصالية، في الشريط الضيق بين نهر دنيستر والحدود الأوكرانية، وهي معترف بها دولياً في الوقت الحالي كجزء من دولة مولدوفا، وعاصمتها تيراسبول.
في حين لم تعترف بترانسنيستريا سوى 3 دول انفصالية هي: أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، وأرتساخ (مرتفعات قرة باغ).
ووفقاً لما ذكره موقع TheCollector الكندي، فقد بدأت قصة هذه الجمهورية، عندما بدأ صعود الحركات القومية داخل الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات، ولا سيما عندما قدم الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف سياسات البيريسترويكا (إعادة الهيكلة) والجلاسنوست (الانفتاح)، والتي سمحت بالتحرر السياسي وسياسات اقتصادية أكثر انفتاحاً في الجمهوريات السوفييتية.
دفع هذا التحرير السياسي إلى تشكيل حركات الاستقلال ذات التطلعات القومية والرغبة في تقرير المصير.
في عام 1988، أدى انبعاث القومية إلى إنشاء حركة الاستقلال – الجبهة الشعبية لمولدوفا.
كان الهدف الرئيسي للحركة هو الاعتراف باللغة المولدوفية باعتبارها لغة الدولة الوحيدة وعودة الأبجدية اللاتينية.
وتضمنت الجبهة الشعبية أيضاً فصائل متطرفة تدعو إلى اتخاذ إجراءات أكثر تطرفاً فيما يتعلق بالأقليات العرقية، وطالبوا بطرد الأقليات من السلاف (الروس والأوكرانيين) من مولدوفا.
في 26 أبريل/نيسان 1990، تم اعتماد العلم الروماني ثلاثي الألوان، فبدأ سكان الأقليات في مولدوفا يتخوفون من إمكانية الاتحاد مع رومانيا وفقدان المساواة اللغوية والتعددية الثقافية بين سكان ترانسنيستريا متعددي الأعراق.
وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي في 1991، تصاعدت التوترات بين مولدوفا وأراضي ترانسنيستريا الانفصالية، ما شد الطرفين إلى صراع عسكري بدءاً من مارس/آذار 1992، وانتهى بموجب اتفاقية وقف إطلاق النار في يوليو/تموز من العام ذاته.
تضمن هذا الاتفاق إنشاء “لجنة مراقبة مشتركة ثلاثية الأطراف”، ضمّت كلاً من (روسيا، ومولدوفا، وترانسنيستريا).
كانت مهمة هذه اللجنة هي الترتيبات الأمنية في الإقليم منزوع السلاح، والذي يضم نحو 20 منطقة على جانبي النهر.
ومنذ اتفاقية وقف إطلاق النار وحتى يومنا هذا لا يزال الوضع السياسي في المنطقة من دون حل.
ولذلك تعترف مولدوفا بترانسنيستريا على أنها جزء من دولتها، بينما تعتبر ترانسنيستريا نفسها جمهورية شبه رئاسية منفصلة ومستقلة بحكم الواقع.
ولذلك فإن ترانسنيستريا لها حكومتها وبرلمانها وجيشها وأجهزة شرطتها، حتى إن لها عملة خاصة بها وجواز سفر ونظاماً بريدياً منفصلاً، وعلماً ونشيداً وشعار نبالة أيضاً، ليس ذلك وحسب، بل حتى مركباتها لها لوحات تسجيل خاصة بها.
وفقاً لآخر إحصاء عددي مسجل، والذي كان في 2015، فإنه يعيش في ترانسنيستريا حوالي 470 ألف شخص مؤلفين من المجموعات العرقية التالية:
1- روسيين (34٪)
2- مولدوفيين (33٪)
3- أوكرانيين (26.7٪)
4- بلغاريين (2.8٪)
صحيح أن ترانسنيستريا من الناحية الفنية هي جزء من دولة مولدوفا، ولكن لديها نظام حكومي خاص بها وعملة خاصة بها، ولا يمكن دخولها إلا بجواز سفر.. إليك أبرز الأشياء التي تميز جمهورية ترانسنيستريا:
1- دولة تحافظ على فكرة الاتحاد السوفييتي
إذا زرت يوماً ما ترانسنيستريا فإنك ستجد شوارعها مليئة بتماثيل فلاديمير لينين الأب الروحي والمؤسس للدولة السوفييتية، لا سيما التمثال الذي يقع في الساحة أمام مبنى البرلمان، والذي يقف فيه لينين بينما يتطاير رداؤه المصنوع من الجرانيت من خلفه وكأنه بطل خارق.
حتى إن رمز المنجل والمطرقة السوفييتي الشهير، يملأ الجدران في الشوارع وأبواب المحلات.
ولذلك تعتبر ترانسنيستريا جمهورية شبه سوفييتية حتى بعد أكثر من 3 عقود من تفكك الاتحاد.
بالإضافة إلى ذلك فإن ترانسنيستريا هي المكان الوحيد في أوروبا الذي لا يزال يستخدم المطرقة والمنجل على علمه.
في السابق كان علم جمهورية مولدوفا الاشتراكية السوفييتية هو علم ترانسنيستريا حتى ديسمبر/كانون الأول 1991.
عندما أصبحت مولدوفا مستقلة، رفضت بعض الأماكن في ترانسنيستريا رفع العلم المولدوفي الجديد، واستمرت في رفع علم الاتحاد السوفييتي.
كان الاستخدام المستمر لعلم جمهورية مولدوفا الاشتراكية السوفييتية السابقة شائعاً وأعيد تقديمه رسمياً كعلم ترانسنيستريا في عام 1991.
وعلى الرغم من التأثير الاشتراكي على العلم وشعار النبالة، فإن ترانسنيستريا ليست دولة اشتراكية.
وفي 2009 ناقش المجلس الأعلى اقتراحاً باستبدال العلم المدني (وهو أحمر وأخضر وأحمر دون المطرقة والمنجل) بعلم جديد يحمل ثلاثة خطوط أفقية بالألوان الأبيض والأزرق والأحمر، وهو تقريباً مطابق لعلم الاتحاد الروسي.
وفي عام 2017، أقر المجلس الأعلى اقتراحاً يجعل التصميم الجديد للعلم الوطني الرسمي لترانسنيستريا مكوناً من (خط أحمر علوي ويحتوي في أقصى اليسار على مطرقة ومنجل ونجمة شيوعية – وخط أخضر – وخط أحمر)، ويُرفع فوق جميع المؤسسات الحكومية.
بالإضافة إلى ذلك فإن برلمان جمهورية ترانسنيستريا يُدعى “مجلس السوفييت الأعلى”، فيما لا يزال جهاز الخدمة السرية في البلاد يُسمى KGB، تيمناً بوكالة الاستخبارات الخارجية والأمن الداخلي في الاتحاد السوفييتي.
2- عملة ترانسنيستريا وجواز سفرها
لجمهورية ترانسنيستريا عملة خاصة بها تسمى “روبل ترانسنيستري”، وهي ذاتها العملة المستقلة التي أصدرها الإقليم في عام 1990 قبيل تفكك الاتحاد السوفييتي.
ينقسم الروبل الترانسنيستري إلى 100 كوبك، فيما لا يمكن استخدام هذه العملة سوى في ترانسنيستريا، إذ لا يعترف بها على أنها عملة قانونية.
ووفقاً لما ذكره موقع Young Pioneer Tours، تتألف العملات الورقية من: 1 و5 و10 و25 و50 و100 و200 و500 روبل، في حين تنقسم العملات المعدنية إلى نوعين: الأول: معدني ويتألف من 5 و10 و25 و50 كوبك، والثاني: بلاستيكي ذو شكل هندسي تم تقديمه في عام 2014 للاحتفال بالذكرى العشرين لعملة ترانسنيستريا، ويأتي في فئات 1 و3 و5 و10 روبلات.
أما بالنسبة لجواز سفر ترانسنيستريا فهو غير صالح للسفر إلى معظم دول العالم، فيما يُسمح للمواطنين بالحصول على الجنسية المزدوجة.
إذ يحق للمواطنين الحصول على جواز سفر مولدوفي أو روسي أو أوكراني للسفر إلى الخارج.
لا يمكن استخدام جواز سفر ترانسنيستريا إلا للسفر إلى أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وهي الدول التي لا تطلب تأشيرة من مواطني ترانسنيستريا.
تم إصدار أول جواز سفر لترانسنيستريا في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2001.
أما شكل الجواز الخارجي فمكتوب عليه جواز سفر باللغة الروسية، بالإضافة إلى وجود شعار المنجل والمطرقة والنجمة السوفييتية.
3- نادي كرة القدم الأشهر في مولدوفا
بالإضافة إلى ذلك، فإن ترانسنيستريا هي موطن واحد من أشهر وأعرق الأندية الأوروبية والمولدوفية، وهو نادي شريف تيراسبول الذي يشارك بشكل مستمر في البطولات الأوروبية.
كما أن نادي شريف تيراسبول، الذي تأسس سنة 1997، والذي يشارك في المسابقات المولدوفية، مسيطر بشكل كامل منذ سنوات على جميع البطولات المحلية.
حقق النادي 23 بطولة دوري من أصل 24 مشاركة حتى الآن، كما حقق كأس مولدوفا 11 مرة، وكأس السوبر 7 مرات.
شارك النادي بشكل مستمر في مسابقة دوري أبطال أوروبا، ولكنه في الكثير من الأحيان لم يكن يستطيع التأهل إلى دوري المجموعات.
ولكن في عام 2021، شارك النادي في دوري المجموعات، وقد حقق مفاجأة كبيرة بالفوز على نادي ريال مدريد بطل أوروبا بنتيجة 2-1 على استاد سانتياغو برنابيو في مدريد.
ترانسنيستريا.. برميل البارود في المنطقة
تعتبر جمهورية ترانسنيستريا بمثابة برميل بارود قابل للاشتعال في أي لحظة.
ففي الوقت الذي يدعي فيه الترانسنيستريون أن الناتو يمد مولدوفا بالسلام للسيطرة على جمهوريتهم، فإن المولدوفيين يدعون أنّ روسيا سوف تتجه للسيطرة على الإقليم بعد الانتهاء من حربها مع أوكرانيا.
ففي مايو/أيار 2022، وبعد نحو 30 عاماً من الحرب الباردة في المنطقة، هزت عدة انفجارات مواقع استراتيجية في ترانسنيستريا.
الأمر الذي دفع السياسيين ليتحدثوا عن خطر انتشار حرب روسيا في أوكرانيا إلى مولدوفا عبر المنطقة الانفصالية المدعومة من موسكو.
ونشأت المخاوف بعد أن قال مسؤول عسكري روسي كبير إن “المرحلة الثانية” من حرب روسيا ضد أوكرانيا سوف تشتمل على الاستيلاء على ممر بري يؤدي إلى ترانسنيستريا، حيث يعاني المواطنون الناطقون بالروسية من التمييز”.
ثم، بعد بضعة أيام، وتحديداً في مساء يوم 25 أبريل/نيسان، أطلق عدة رجال مجهولي الهوية صواريخ “آر بي جي” على مبنى وزارة أمن الدولة في وسط تيراسبول، عاصمة ترانسنيستريا.
وفي الليلة التالية، تم الإبلاغ عن انفجارات في مطار تيراسبول، وفقاً لمسؤولين في ترانسنيستريا، نتيجة لهجوم بطائرة من دون طيار.
ووقعت حوادث أخرى عندما تم إسقاط برجي راديو كانا يبثان ترددات الراديو الروسية في المنطقة.
لماذا تشعر أوكرانيا بالقلق؟
منذ بداية الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط 2022، أعربت كييف بشكل روتيني عن قلقها بشأن احتمال وقوع هجوم من الأراضي الانفصالية المولدوفية، إما من قبل قوات ترانسنيستريا أو من قبل القوات الروسية المتمركزة هناك.
وتشترك أوكرانيا في حدود طولها 400 كيلومتر مع ترانسنيستريا، التي تستضيف قوة حفظ سلام روسية قوامها 1500 جندي ولها جيشها الخاص.
على سبيل المثال، في تقرير صدر في 17 أبريل/نيسان 2022، ادعت هيئة الأركان العامة الأوكرانية أن 3 ألوية بنادق آلية تابعة لجيش ترانسنيستريا تخضع لفحص الاستعداد القتالي بمشاركة ضباط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB).
وبحسب الأوكرانيين، كشف الفحص أن هذه الوحدات لم تكن مستعدة للقيام بعمليات قتالية.
ومن ناحية أخرى، أبلغ المسؤولون المولدوفيون بانتظام عن عدم وجود أي علامات على وجود نشاط عسكري مشبوه في ترانسنيستريا.
وتحاول تيراسبول إقناع السلطات الأوكرانية بأنها لا تشكل أي تهديد عسكري بالبلاد، مع احتفاظها بعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع موسكو.
كيف تعيش دولة ترانسنيستريا؟
على الرغم من توجهاتها في السياسة الخارجية، وعلاقاتها السياسية الوثيقة مع موسكو، واعتمادها الاقتصادي على الاتحاد الروسي، فإن ترانسنيستريا تحتفظ ببعض السيادة، ولا تخضع المنطقة بالكامل لسيطرة موسكو.
لسنوات عديدة، احتفظت شركة شريف، وهي تكتل محلي يسيطر على جميع الأعمال التجارية الكبرى في الإقليم، بنفوذها على السلطات السياسية في تيراسبول.
يُعرف مالك الشريف، رجل الأعمال فيكتور غوان، بأنه الشخص الأكثر نفوذاً في ترانسنيستريا، فيما كان “الرئيس” الحالي للمنطقة الانفصالية، فاديم كراسنوسيلسكي، يعمل سابقاً في الشركة.
ومع ذلك، لا يمكن وصف ترانسنيستريا بأنها منطقة مكتفية ذاتياً من الناحية الاقتصادية.
في عام 2021، كان ما يقرب من نصف صادراتها من مصنع المعادن، الذي يزود مولدوفا ودول الاتحاد الأوروبي بالمنتجات المعدنية.
فيما شكلت الكهرباء التي يتم توفيرها للضفة اليمنى لنهر دنيستر -أي مولدوفا- عن طريق سد الطاقة الكهرومائية 20% أخرى من الصادرات.
يتم ضمان القدرة التنافسية لمؤسسات ترانسنيستريا بشكل أساسي من خلال انخفاض أسعار الغاز.
لسنوات عديدة، ظلت شركة غازبروم الروسية المملوكة للدولة، من خلال إحدى الشركات التابعة لها في مولدوفا، تزود ترانسنيستريا بالغاز دون الحاجة إلى الدفع.
فيما تدفع الشركات والأسر في ترانسنيستريا ثمن الغاز الروسي بتعريفات أقل بكثير من أسعار السوق.
وتستخدم سلطات ترانسنيستريا عائدات هذا الغاز وفقاً لتقديرها الخاص.