حرية – (22/1/2024)
قد لا تعلم أنه صديقك الأقرب، أو أنك لا تستطيع الاستغناء عنه في يومك، فاستخدامك إياه أصبح حاجة في اللاوعي، إذ تمر بالمكان الذي تضعه فيه تأخذ ما تريد وتكمل يومك دون الانتباه لقيمته، وإن حاولت أو خيرت بينه وبين هاتفك الذكي، فإنك تستطيع البقاء دون هاتفك يوماً كاملاً، لكنك حتماً لن تقدر على أن يمر يومك دون أن تستخدم ولو منديلاً واحداً.
هذا الاختراع غزا حياتنا في صمت وكأنه وجد مع وجود الإنسان، إلا أنه في الحقيقة أخذ زمناً حتى عرفه البشر وأدخلوه في تفاصيل حياتهم اليومية الأساسية.
يعود الفضل إلى الإسبارطيين في ابتكار مفهوم المنديل، إذ كان عبارة عن قطعة صغيرة من العجين تسمى apomagdalie وتقطع لأجزاء صغيرة وتلف، ثم تفرك فيها الطاولة واليدان، وهي العادة التي أدت إلى استخدام الخبز لمسح اليدين.
وقدم الرومان مصطلح المنديل في القرن الـ14 مع نوعين من القماش، الأول “السداريوم”، وهي كلمة لاتينية تشير إلى القماشة التي مسح فيها وجه السيد المسيح عندما كان مملوءاً دماً وعرقاً من قبل امرأة تدعى فيرونيكا، والثاني “المابا”، وهي قطعة قماش صغيرة في اللغة اللاتينية، ومنها اشتقت كلمة الخريطة Map.
كان للمنديل استخدامات عدة، أولها النظافة الشخصية، وهو ما كان متاحاً للملوك والأمراء من الطبقة الرفيعة في المجتمع، إذ كانت مواده تصنع من الحرير والدانتيل، ووضع على طاولات الطعام لمسح اليدين بعد أن كانوا يمسحونها بثيابهم أو بفراء حيواناتهم الجالسة بقربهم، كما كان وجوده مهماً للتمخط به، وهي إحدى الحاجات التي أدت إلى اختراعه.
معانٍ مختلفة
وحمل المنديل معاني مختلفة عبر العصور، فدخل في رموز الحب، فأن ترمي الفتاة منديلها من النافذة، فهو دلالة على ارتباطها ووقوعها في الحب، وعليه فقد كان وسيلة للتواصل بين العشاق، وتعددت استخداماته ولغاته بينهم بحسبه لونه.
وبات المنديل الأبيض اعترافاً بالحب، والأرغواني دلالة على أن هناك رسالة يراد إعطاؤها للآخر، أما المنديل ذو الزوايا الوردية فكان يبوح للآخر بأنه لا يستطيع العيش من دونه.
ودخلت على المنديل تفاصيل مختلفة كالتطريز الذي لعب دوراً في تطويعه بمعظم المجالات، بدءاً من الدلالة على المستوى الطبقي، وصولاً إلى استخدامه في السياسة كرمز للتفاوض ومنح الأمان للآخر، وفي هذا النطاق طرزت زوجة جورج واشنطن مجموعة من المناديل لاستخدامها في الحملة الانتخابية لزوجها، ووزعوا في مؤتمر الدستور الأميركي 1787، ومنذ ذلك الوقت تستخدم المناديل في المنافسة بالبيت الأبيض بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة.
ووجد المنديل طريقه للسجون، إذ كان أداة للرسم والتعبير عن ذوات الثوار الذين ناهضوا عدداً من الأنظمة في دول مختلفة، فكان المنديل وسيلة لإيصال أفكارهم ورؤيتهم عبر التطريز عليه من رسومات وكلمات، كما كان التطريز على المنديل باب رزق لعدد من العائلات.
الانتقال إلى الورقي
ومع التطورات التي حدثت في العالم تحولت صناعة المناديل من القطن والحرير والكتان وغيره إلى الورقية، إذ تقول بعض المراجع إن اختراعه يعود إلى الصينيين، إذ توجد تماثيل لبعض الشخصيات التي تعود لأسرة “شو” قبل الميلاد وهي تحمل بيدها قطعاً من القماش المزخرف. وقيل أيضاً إن الصينيين كانوا يحمون رؤوسهم بالمناديل من أشعة الشمس، وآخرون يقولون إن اختراع المنديل الورقي يعود إلى اليابانيين في عام 1185، وكان شكله مختلفاً عن الذي نعرفه حالياً، وصنع من “لب الخشب”، وبدا قاسياً مثل الورق الذي يستخدم حالياً في صنع “الأوريغامي”، واستخدم لمسح السيوف.
تخصص آلات تقطيع المناديل بحسب طبيعة استخدامه بين المطاعم والمطابخ والحمامات
لكن المؤرخ كارلوس فيساس يقول إن الرسام العالمي ليوناردو دافنشي هو من اخترع المناديل الورقية، وذلك في عام 1491 أثناء عمله رئيساً للاحتفالات عند دوق ميلانو، وقد قام دافنشي بتقديم فكرة مسح وتنظيف اليدين أثناء الولائم.
وصنع المنديل الورقي من طريق استخلاص وتحضير الورق الخام، وهناك طريقتان لصنع المناديل الورقية من حيث الورق الخام المستخدم، وهما ورقية مصنوعة من منتجات الورق البكر “من لب الأشجار” والمسمى السليلوز، وأخرى من الورق المعاد تدويره.
مراحل التصنيع
ولتحضيره تجرد أشجار الخشب اللين (اللحاء) من القشور الصلبة بآلات خاصة، ثم يمرر المستخلص من شرائح الأشجار من خلال آلات لتقطيعه إلى أجزاء صغيرة، ثم فصلها بعناية إلى دفعات، لتطهى الشرائح واللب مع الماء لبضع ساعات.
وبعد الطبخ تتبخر رطوبة الخشب وتخفض لتتحول إلى ألياف السليلوز واللغنين، وهي مادة لاصقة تربط الألياف معاً وغيرها من المواد، والنتيجة تكوُّن ألياف صالحة للاستعمال وتسمى اللب، وهي المادة الفعلية المستخدمة في صناعة المناديل، ثم يغسل اللغنين ليتخلص من أي مواد كيماوية، وهي خطوة ضرورية جداً، إذ من دونها يصبح لون الورق أصفر مع مرور الوقت، ثم يخلط اللب مع كثير من الماء لإنتاج الورق الخام، والذي يرش بالماء على سطح منخلي مثقوب ليتسرب الماء منه، وبعدها يضغط الورق ويجفف، ثم يكشط بشيفرات معدنية، ويوضع على بكرات كبيرة وينقل إلى آلات تقطعه لأحجام متعددة بحسب مكان وغرض استخدامه كمناديل الوجه والمطبخ والحمامات والجيب والمطاعم وغيرها ثم تعبأ وتغلف وتشحن.أما صنع المناديل الورقية من المواد المعاد تدويرها، فتجمع أوراق النفايات وترتب وتنقل إلى مطحنة، إذ تخلط بالماء والكيماويات لغسلها وفصل المواد الأخرى عنها كالحبر واللاصقات ولتتحول إلى عجينة، وبعدها تنقل لمطحنة الورق، ومن ثم تأخذ إلى مكان تصنيعها، حيث تحول إلى المنتج النهائي مثل النوع السابق، كما تصنع من بعض النباتات مثل قصب السكر وورق الموز والرز.
النقلة والإتيكيت وقواعده
وبحلول القرن الـ20 أصبحت المناديل الورقية جزءاً لا يتجزأ من حياة أي شخص، إذ حدثت نقطة تحول رئيسة في عام 1948، عندما أعطت مؤلفة آداب السلوك الأميركية، إميلي بوست المناديل الورقية ختماً جزئياً بالموافقة.
وعندما سئلت عما إذا كان من الأفضل إعادة استخدام منديل من القماش أو استخدام ورقي جديد، ذهبت إلى “الورقية”، وقالت في ذلك الوقت “إن استخدام المناديل الورقية أفضل بكثير من الكتان التي كانت تستخدم في وجبة الإفطار”، وانتشرت بعدها المناديل في الحفلات والمناسبات الرسمية، في الفنادق وحتى المنازل، ولم يمر وقت طويل حتى استخدمتها المطاعم والقوارب البخارية.
تحمل طريقة استخدام المناديل في المطاعم دلالات مختلفة
وخلال الحرب العالمية الثانية لعبت المناديل دوراً في الموضة، فكان منها المخصص للاحتفال بالعطل وأعياد الميلاد، وغالباً ما تباع في بطاقات هدايا خاصة، وبعد سنوات عدة من الحرب، بمجرد أن بدأت الموضة تنتعش، استخدم بالمان وديور وروشاس وغيرهم من المصممين المناديل كلمسة أخيرة لتصميم الأزياء الراقية.
وأصبحت للمناديل أحجام وقياسات وأنواع متعددة بتعدد استخداماتها، إضافة إلى قواعد تحكمها في بعض الأماكن، ففي إتيكيت الطعام أصبح للمنديل المرافق للأواني الأساسية للطعام رموز ودلالات متفق عليها، وعندما يرفع المضيف منديل السفرة الخاص به، فهو إعلان عن بدء تناول الطعام، وعندها سيتبعه الآخرون، ولكن لم ينتهِ دور هذا المنديل هنا، إذ يجب أن يفرد ويوضع على الرجلين، وإن اضطر أحدهم إلى ترك مقعده، فإن عليه أن يضعه على جهة اليسار، أو يبقيه على الكرسي، ليعرف النادل أو المكان الموجود به أن الشخص لم يُنهِ طعامه، وسيعود، لكن في حالة وضعه على الطاولة في المنتصف، أو من جهة اليمين، دلالة على انتهاء تناول الطعام.