حرية – (30/1/2024)
مع فقد الإنسان للشعر الذي كان يلفّ جسده لم يتمكن الإنسان من التكيُّف مع برودة الشتاء بشكل طبيعي، إذ استخدم آليات عديدة للحفاظ على درجة الحرارة، ألهم تسخير الكثير من الأشياء من حوله لكي يتكيف مع هذه البرودة التي تستمر لأشهر طويلة، وقد تبلغ درجات الحرارة قيماً كبيرة تحت الصفر كما في الدول الاسكندنافية.
إذ اضطر إلى اتخاذ بعض التقنيات التي قد تساعده في البقاء على قيد الحياة رغم لسعة الصقيع القارس. هناك بعض الطرق التي ابتكرها واستخدمها الإنسان في مختلف العصور لكي يتمكن من الحصول على الدفء المطلوب في فصول الشتاء المختلفة، سواء أكانت به ثلوج وجليد أم برودة فقط.
إذ كانت تلك الخبرة قائمة على بعض الممارسات الحياتية، التي مازالت موجودة حتى يومنا هذا، إذ نفعلها بشكل تلقائي اليوم، مثل لبس المعاطف والجلد خصوصاً، وأكل اللحوم والدهون، وشرب بعض المشروبات الساخنة التي ترفع من درجات الحرارة، مثل السحلب والزنجبيل، هذه الممارسات لها جذور تاريخية تعبر عن الخبرة البشرية.
الكوخ أول آليات التدفئة في الشتاء
عندما ودَّع الإنسان الكهوف مندفعاً إلى السهول في بحثه الطويل عن الغذاء، تعرَّض إلى هطول الأمطار والثلوج، ما دفعه لاستنساخ الكهف في أي مكان يرتحل إليه، فبنى كوخاً من الجلود وعظام الحيوانات التي كان يأكلها، ومن بعض الصخور، قبل أن يستخدم الأخشاب وتزداد تلك المواد التي سيصنعها اليوم في بناء المنازل كالإسمنت والحديد.
اكتشف فريق من علماء الآثار اليابانيين بقايا ما يعتقد أنه أقدم بناء صناعي في العالم على جانب أحد المنحدرات بمنطقة شيشيبو شمالي طوكيو. ويقدر عمر الموقع بنصف مليون عام، وهي الفترة التي كان يعيش فيها إنسان (إريكتوس) البدائي في المنطقة. ويضم الموقع ما يعتقد أنه عشر حفر لأعمدة تشكل مخمّسين غير منتظمين يعتقد أنهما بقايا كوخين. وقد عثر على 30 أداة حجرية مبعثرة حول الموقع.
أما قبل 50 ألف عام في سهول ووديان أوروبا، فقد وقف إنسان نياندرتال ومن بعده الإنسان الحديث يتفحص المكان، ليبني كوخاً كما اعتاد أجداده في الجبال، يقيهم زمهرير البرد وقيظ الشمس، فرأى هيكلاً عظمياً يعود إلى “ماموث صوفي”، فلجأ إليه وسكنه، ملقياً على قفصه الصدري الجلود. اختمرت الفكرة في رأسه وقرر أن يستخدم الهيكل العظمي في بناء الكوخ، فوضع العظام الكبيرة في القاعدة، وشيد الكوخ وجعل من النابين باباً له.
تطوّر الأمر أكثر، وأصبحت هناك حاجة لإنسان الكهف الذي كان يشق طريقه للحضارة بأن يصطاد الماموث، وبما أن الماموث حيوانٌ عملاق ولا يستطيع اصطياده بمناورة كما كان يفعل مع الغزال أو الوعل أو الأرانب والظباء، واتخذ من جسده وجلده وفروة الماموث الصوفي مواد لكي تقيه برد أوروبا القارس.
أكل اللحوم النيئة
في القدم اصطاد الاسكيمو عجل البحر حتى يتمكن من سد جوعهم، لكنهم لم يطهوه فأكلوه نيئاً، إذ مكَّنتهم شحومه في تدفئتهم، بل استخدموا شحومه أيضاً في التدفئة الخارجية، وذلك لكي يتمكن من إشعال النار بدون دخان، وبالتالي يتمكن من الحصول على التدفئة المناسبة لجسمه داخلياً، عن طريق سد جوعه بمادة دهنية دسمة، وخارجياً بإشعال النار.
لدى شعب الإسكيمو اعتقاد ثابت بأن أكل اللحوم النيئة يجعلهم أنحف، حيث تمنع مشكلة السمنة، وبالتالي تكون لديهم لياقة بدنية، وسوف يحصلون على الحيوية والمرونة المطلوبة، ولكن هذا الاعتقاد خاطئ تماماً، كان الاعتقاد أن سبب أكل هذه اللحوم النيئة هو عدم توافر الوقود الكافي لكي يتم طهيه، كما أن المناخ في القطب الشمالي غير مناسب للزراعة، فلا يتمكنون من تربية المواشي أو زراعة الأطعمة النباتية، وبالتالي يعتمد نظام غذائهم على الدهون والبروتين الحيواني بنسبة أكبر من الكربوهيدارت.
أكل اللحوم نيئة من آليات التدفئة عند شعب الاسكيمو
إلا أن مطبخهم تميز بالطعام النيء، وهو ما أثار حفيظة العلماء لاستكشاف إصرارهم على الأكل النيء، مع معرفتهم للحرارة، إذ يصطادون الكائنات البحرية مثل الحوت، خصوصاً الحيتان الصغيرة، بالإضافة إلى الأسماك في المياه المالحة والمياه العذبة، ويأكلون معظمها نيئة، كما يتغذون أيضاً على الثدييات البرية مثل حيوان الرنة والدب القطبي، ويأكلون منها الدهون تحديداً نيئة.
ومع العلم الحديث أصبحنا نعرف أن بعد الأكل يتمكن الجسم من الحصول على الطاقة عبر ATP، التي تخرج من جزيئات الطعام بعد هضمه، والتي تشع في الجسم الدفء والقدرة على الحركة، وتساعد الشحوم النيئة على تدفئتهم أكثر.
وأكل الدهون دفع بعض الشعوب للإصرار على أكل لحوم الخراف الصغيرة، لأن عضلاتها لم تنمُ بعد، فيكون أغلب جسمها الدهن، من تلك الشعوب سكان مناطق وادي السند وأفغانستان وباكستان وشرق إيران بالإضافة إلى اليمن.
ارتداء ملابس مصنوعة من جلد الحيوانات
استخدم الإنسان قديماً كل جسد فرائسه، يأكل لحومها لتمده بالطاقة والدفء، وحوافرها للزينة، وأسنانها وعظامها في البناء، اتخذ من فروها وجلدها رداءً لكي تقيه انخفاض درجات الحرارة. وتعتبر أول الأدلة الأثرية لاستخدام الجلود في المغرب.
إذ اكتشفت في منطقة الهرهورة بالقرب من العاصمة الرباط أدوات من عظام الحيوانات، تعود إلى 120 ألف عام، كانت تُستخدم في سلخ الثعالب وحيوان ابن آوى، وهي الأدلة الأولى على أول استخدام لجلود الحيوان، إذ يعتبر ذلك أقدم دليل على صناعة الملابس من جلد وفرو الحيوانات.
في أوروبا ومناطق تساقط الثلوج كان البشر يبيتون للحيوانات، فمع ظهور النهار يبدأ الثلج في الذوبان، وهذا ما يجعل الحيوانات الثديية تخرج من جحورها، فيتمكن الإنسان القديم من اصطيادها وتخزينها والحفاظ عليها حتى يأتي فصل الشتاء، ومن أبرز هذه الثدييات الثور الموسكي، الذي انقرض بسبب كثرة اصطياده، والماموث الصوفي في أوروبا.
مع الزراعة توصل الإنسان في الصين ومصر إلى استخدام الصوف كنسيج، إذ غزلوه يدوياً من أوبار وأصواف الخراف التي يربونها في الألفية الرابعة قبل الميلاد، وبذلك نمى تربية المواشي واستخدامها في النسيج. قبل أن يبتكر المصريون القدماء صناعة النسيج من الكتان العصور المصرية المبكرة، إذ تمكن من استخدام ملابس مصنوعة من الكتان، وحصل على ملابس داخلية لكي تزيد من جسمه.
كما كانت الشعوب التي سكنت مناطق فرنسا اليوم هي أول من استخدم القفازات في اليد للحماية من الصقيع، إذ صنعت من جلد الحيوانات، فيما بعد تطورت صناعتها من الصوف حتى يحصل على ما يريده من الدفء، كما استخداموا غطاء رأس مصنوع من الصوف، أغلب الحيوانات التي تستخدم في هذه الصناعة هي الغزلان والخنازير.
الفحم الحجري وروث الحيوانات
استخدم البشر أوراق الشجر والأخشاب كأحد آليات التدفئة الخارجية، وبعد فترة من استخدام أوراق الشجر وأخشابها في التدفئة في العصور القديمة لإحراقها والحصول على الدفء، استخدم البشر الفحم الحجري في إشعال النار، إذ كان أكثر دفئاً ولمدة أطول من الأخشاب. وتم تطوره من حفرة في الأرض يُسمى بالموقد إلى وجود العديد المداخن في كل كوخ ثم في البيوت.
وقد استخدم روث الحيوانات على شكل أقراص، وتسمى في هذه الحالة باسم (الجلة)، ومن ثم تجفيفها، وتُخزن في الصيف حتى يتم حرقها في الشتاء، وهذه الطريقة البدائية للغاية تساعد الفرد في الحصول على التدفئة في الجو قارس البرودة، وتستخدم حتى الآن في وقتنا الحالي كوقود لبعض المحركات، ولكن يتم إعدادها في أشكال مختلفة ذات أحجام وأوزان غير ثابتة.
شرب النبيذ (الكحول)
في العصور القديمة نجد أن بعض الشعوب استخدمت النبيذ (الكحول) حتى تتمكن من الحصول على بعض الدفء، عُرف أن صناعة الخمر بدأت في منطقة القوقاز بجورجيا عام 6000 قبل الميلاد، وصُنع عن طريق مزج العنب والأرز. فعندما يبدأ الفرد في شرب النبيذ تتورد الخدود ويتصبب عرقاً، نتيجة ارتفاع درجة حرارته، ومع تقدم الطب الحديث عُرف السبب الأساسي في هذا الشعور.
يذكر أحد علماء علم الأعصاب والخبير في السموم (تيد سايمون)، أن الكحول يسبب توسعاً في الأوعية الدموية الموجودة قرب سطح الجلد، فيذهب الدم إليها تاركاً كمية قليلة من الدم في الأعضاء الداخلية في الجسم، وبالتالي فإن حرارة الجسم لا تتغير، ولكنها تتوزع بالقرب من سطح الجلد، ولكن هذه الحقيقة خطيرة جداً على صحة الإنسان؛ لأنها عكس طبيعة الجسم.
في القرن الأول الميلادي سعى الروم إلى تسخين النبيذ وخلطه مع بعض التوابل لكي يعطي لهم الدفء لجيوشهم في مناطق القتال في فصل الشتاء البارد، وارتبط النبيذ الساخن بعيد الميلاد عندما تنصّر الرومان، وانتشر في ربوع أوروبا ليكون ملازماً لفصل الشتاء، إذ يعتقد أنه يمنحهم الدفء. كما استخدم في تطهير الماء، وخصوصاً في فترات الأوبئة مثل مرض الطاعون الأسود في القرن السادس عشر.
استخدام نظام التدفئة الأرضية
قد يظن أن التدفئة الأرضية أحد آليات التدفئة الحديثة، إلا أن ذلك بدأ منذ العصر الروماني القديم وحتى الآن يتم استخدام بعض الأنظمة في التدفئة الأرضية، بعد العديد من التغيرات العديدة التي حدثت على مر الزمان، وفي العصر الروماني تم استخدام نظام الهايبوكوست Hypocaust، هذا النظام اعتمد كثيراً على الخشب، حيث تم استهلاك 114 طناً على مدار السنة الواحدة.
قدَّم المعماريون بعض الحسابات الرياضية حول قياس درجة حرارة الغرفة وكمية الخشب المراد حرقه، بالإضافة إلى مدة استمرار الحرارة في الحمام والبيئة، مع افتراض استمرار استخدام الفرن طوال العام.
آلية نقل درجة الحرارة من الفرن إلى الغرفة تتم عن طريق غازات المداخن، مع تركيب الكثير من الدعامات وترتيبها في صفوف على الأرض، وتم تصميم هذه الأرضية بشكل مائل حتى يسهل على الفرد تنظيف الرماد وتجنّب العديد من المشاكل التي تسبب الحريق.
ولكن كان لها تأثير سلبي على المساحة الخضراء في هذه البيئة، حيث تم إعدام العديد من الأشجار حتى يصل الفرن إلى درجة الحرارة المطلوبة للحصول على التدفئة، بالتالي يتم استهلاك عدد كبير من خشب الأشجار.
الطب الصيني القديم والتدفئة
من المعروف أن الطب الصيني قديم قدم حضارتهم، إذ راكم على مدار السنين آليات وتقنيات لمواجهة الشتاء، إذ للطب الصيني أدوات للحفاظ على الدفء والاستقرار في البيوت، وبعيداً عن البيوت، إذ كانوا عادة ما يستقرون في البيوت في فصل الشتاء، ويخرجون في الربيع ويزرعون.
وخلال فترة البيات عادةً ما كانت هناك ممارسات من الطب الشعبي، وذلك للعودة إلى العمل بحيوية جيدة، ومن بين الطرق التي يتحدث عنها الطب الصيني؛ الحفاظ على الرأس بارداً وإبقاء باقي الأطراف دافئة، وأن يكون الرأس بارداً لا يعني تركه مكشوفاً بدون غطاء، ولكن يعني غسل الرأس والوجه بالماء البارد في كل صباح لزيادة المناعة، ما يقوي الإنسان في مواجهة أمراض الشتاء مثل الإنفلونزا وغيرها.
الطريقة الثانية للحفاظ على دفء الجسم هي استخدام حمام القدم مع الزنجبيل، وهذا لكي تتمكن الدورة الدموية من التنشيط في الأطراف السفلية من الجسم، وبعث الحرارة إليها، وهذه الطريقة تتم في المساء قبل النوم مباشرة. بالإضافة لشرب الزنجبيل والجنسنج وأعواد القرفة.
وإضافة الفلفل الحار إلى وصفات الطعام، وذلك لكي يرفع درجة حرارة الجسم، إذ عبّرت تلك التقنيات عن محاولة الإنسان التكيف مع تغيرات الطقس في فصل الشتاء، كما تطورت تلك الآليات فتحولت جلود الحيوانات إلى معاطف، وإحراق الأخشاب وروث الحيوانات إلى تدفئة عبر أجهزة خاصة، أو عبر الغاز الطبيعي، إذ تعبّر عن خبرة الإنسان عبر التاريخ، وتمريرها للأجيال التالية.