حرية – (6/2/2024)
لعل السؤال المبدئي الذي يمكن طرحه هنا، متعلقاً بذلك النص الياباني القديم الذي لم تكف الشعوب الأخرى عن نقله إلى لغاتها ليعيش حياة كوزموبوليتية قل نظيرها، ويضحى عنوانه على كل شفة ولسان منذ مئات السنين، ولا سيما لدى كثر حفظوا عنوانه دون أن تقيض لهم قراءته. ولا شك أن أمل كثر منهم سيخيب ما إن يقع بين أيديهم هم الذين يعرفون شيئاً ويستسيغونه حول تلك النصوص التي تصل إليهم من الثقافات الآسيوية متميزة عادة بطول استثنائي. فالواقع هو أن تلك النصوص، وعلى ضآلة عدد الأكثر شهرة من بينها، تتميز عادة بطولها الاستثنائي الذي قد يمضي راهب أو كاتب متنسك سنوات حياته كلها وهو يدبجه واضعاً فيه كثراً من الأفكار.
والحقيقة أن النص الذي نتحدث عنه هنا هو ذاك المعروف بـ”هوجوكي” الذي ستكون أولى المفاجآت المتعلقة به كونه قصيراً للغاية، وليس فقط مقارنة مع ما يماثله من نصوص، وحتى مقارنة مع ما قد يوحي به اسمه للوهلة الأولى، لكن هذا النص الذي لا يتجاوز طوله الـ40 صفحة، كان له من التأثير في الأدب والفكر اليابانيين، ومن خلالهما على كثر من آداب الشعوب الأخرى، بأكثر مما كان لأي نص آخر من نوعه، ذلك أنه نص يسبر في العمق لا في الطول. وذلك، أيضاً، لأنه نص تأملي كتبه راهب في صومعته، من دون أن ينسى ولو للحظة أنه في نهاية أمره إنسان، يكتب ليعبر عن نفسه، وربما أيضاً يكتب لنفسه، من دون أن يتطلع إلى أن يقرأ الآخرون ما يكتبه.
ذكريات من 10 أمتار مربعة
النص عنوانه في اليابانية إذاً، “هوجوكي”. ومقطع “جو” الذي يتوسط الكلمة هو قياس ياباني قديم لمساحة الأرض ويساوي نحو ثلاثة أمتار في ثلاثة، وهو القياس المعهود الذي كانت عليه صوامع الرهبان اليابانيين في ذلك الحين، وذلك الحين هو بدايات القرن الـ13 الميلادي أو العام الثاني من عصر “كنرياكو” أحد عصور التاريخ الياباني. أما العنوان فيعني ما يماثل “ذكريات من صومعة تبلغ مساحتها 10 أمتار مربعة”. وهي، بالتحديد، الصومعة التي عاش فيها الراهب البوذي الياباني كامو شوميي، وكتب نصه التأملي المؤسس ذاك، بعد أن ترك البلاط الإمبراطوري، حيث تربي وكان يعيش، لكنه في لحظة معينة من حياته – وهنا تطالعنا مفاجأة ثانية تتعلق بهذا النص، تخلى عن ذلك العيش الرغيد، مفضلاً عليه حياة العزلة والتأمل.
“هوجوكي” هو، إذاً، نص تأملي كتبه ذلك الراهب، ليصف فيه انفكاكه عن العالم المادي وعثوره على سلام الروح الداخلي في ذلك المكان الذي آثر أن ينعزل فيه بعيداً من ملذات العالم الدنيوي التي كان يتيحها له عيشه السابق في حمى البلاط الإمبراطوري. ويقول دارسو هذا النص إن الأساس فيه هو لغته الجميلة، اللغة التي تصل ما بين الطبيعة والمشاعر الإنسانية العميقة التي كان يعبر عنها كامو شوميي، وهو نفسه الذي عدا عن ذلك النص السردي التأملي الذي كتبه نثراً، اشتهر بأشعاره العميقة التأملية التي ربما كانت أول ما عرفه الشعر الياباني من تعبير عن الإنسان في علاقته بالوجود والطبيعة.
غلاف إحدى الطبعات المترجمة لكتاب “هوجوكي”
عزلة تبدأ في الـ50
كامو شوميي، كان في الأصل ابناً لراهب من كبار رهبان واحد من المعابد الشنطوية البوذية اليابانية. وكان ذلك الراهب – الأمير يخدم في معبد كامو الذي سمي الولد باسمه، لكنه مات فيما كان الابن طفلاً فألحق هذا الأخير، يتيماً، بالبلاط الإمبراطوري في كيوتو، ولكنه حين تجاوز الـ50 من عمره، وبعد أن عاش سنوات طويلة في البلاط، قرر كامو ذات يوم أن الوقت حان لكي يهجر ذلك كله، وينزوي في مكان يتأمل فيه. وهو بالفعل انصرف إلى صومعة، هي عبارة عن كوخ صغير بناه بنفسه في الجبال المحيطة بمدينة كيوتو – العاصمة اليابانية في ذلك الحين، وعاش في ذلك الكوخ. وكان نص “هوجوكي” أول ما كتبه هناك، راغباً منه أن يكون نصاً فلسفياً يتحدث عن الحياة وقصرها في الزمن وآلامها، وعن الأخطار التي تحيط ببني البشر في كل لحظة. والكاتب، لكي يعطي أمثلة حية، يعرفها الناس جميعاً، عن تلك الأخطار، يورد في نصه كوارث عاشها الناس هناك، ولا تزال ذكراها محفورة في أعماقهم: الحريق الذي أتى على مدينة كيوتو في عام 1177، والإعصار الذي عصف بتلك المدينة في عام 1180، مما أدى إلى نقل العاصمة من كيوتو إلى فوكووارا في ذلك العام نفسه. وإثر ذلك يصف كامو المجاعة التي حلت بالبلاد والأوبئة التي تبعتها، ولا سيما الطاعون الذي قضى على الألوف من السكان. وأخيراً يصل إلى وصف الزلزال الرهيب الذي ضرب المنطقة نفسها في عام 1185.
استخلاص الدروس من الكوارث
والحقيقة أن الحديث عن هذه الأحداث العاصفة والمميتة التي حلت بمنطقة واحدة من مناطق اليابان في وقت واحد تقريباً يشكل وصفها القسم الأول من هذا الكتاب. ومن الواضح أن كامو لم يصف هذه الأحداث، إلا لينطلق منها إلى القسم الثاني من كتابه، وهو القسم الذي يبدو أكثر أهمية، وذلك لأن الكاتب يستخلص فيه دروس القسم الأول، ولا سيما من خلال ذلك التناقض الكبير بين روحية كل من القسمين. فلئن كانت الأخطار والكوارث تهيمن على القسم الأول، فإن الهدوء والدعة يهيمنان على القسم الثاني، لأن الكاتب يروح فيه واصفاً الحياة التي يعيشها هو في الكوخ المعزول وسط جمال الطبيعة وهدوء عناصرها. فالإنسان الذي يجد نفسه منجرفاً في حياة مادية، بحسبه أن يخرج من تلك الحياة، ويلتحم بالطبيعة لكي يجد خلاصه كما فعل هو. صحيح أن كامو لا يزعم أنه انفصل كلياً عن ماضيه، فهو في تلك الحياة التي ينعم بهدوئها ويصف جمالها ودعتها، يظل يعيش تحت وطأة ذكريات الأيام والأحداث الحزينة، ولكن أفلا يعرف الشيء بنقيضه؟ بلى، لأنك إن لم تذق طعم الحزن، لن تتمكن من معرفة لذة الفرح. ومن هنا يشكر كامو، ربه، لأنه جعله يعيش الحزن ثم الفرح، الكارثة ثم الهدوء، الشر كما الخير معاً. وهذا ما يجعل من كتابه نصاً إنسانياً عميقاً وواقعياً، لأن الكاتب لا يحاول هنا أن يدعو الناس جميعاً إلى الاقتداء به في وحدته وعزلته والتحامه بالطبيعة، لأنه يعرف أن ذلك ليس واقعياً. من هنا نجده يكتفي بوصف ما حدث وما كان يمكن أن يحدث – بل سيحدث كثيراً من بعد رحيله في التاريخ الياباني الذي تعلمه تلك الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية طوال قرون من الزمن.
الحياة بكل ما تحمله
بالتالي من الواضح أن جل ما يريده الراهب الأديب كامو في هذا الكتاب، إنما هو التأكيد أن الحياة يمكن أن تتألف من كل شيء: من الأفراح ومن الأحزان، من السعادة والتعاسة، وبخاصة من الخير كما من الشر. المهم هو كيف نتعامل نحن، معشر البشر معها. ومن هنا اعتبر الكتاب دائماً كتاباً في السيكولوجية البشرية، لا دعوة إلى الهرب. فهنا يعري الكاتب، بحسب قول واحد من الذين كتبوا عنه ووصفوا كتابه، “يعري فؤاده، ويصف نفسه وحياته” في نص هو نشيد للحياة ودعوة إلى التماشي مع ما تعطينا إياه الحياة، فإذا كانت الطبيعة هنا، محيطة بذلك الكوخ، فإنها هنا لكي يعيش المرء وسطها ويتأمل، في محاولة منه، ليس لنسيان أحزان الماضي، بل لإدراك قيمة تلك الأحزان في وسم كل ذلك بالطابع الإنساني. إنه الخلاص، ليس من طريق الهرب، بل من طريق التأقلم مع الأحداث ومعرفة كيفية الرد عليها.
والواقع أن هذا البعد هو ما أعطى ذلك الكتاب طابعه، وجعله – كما ستكون حال كتابين فرنسيين لا شك أنهما تأثرا به: “كانديد” لفولتير، و”الأمير الصغير” لسان أوكزوبيري من بعده – واحداً من النصوص التي يقرأها اليابانيون ويؤمنون، بفضلها، بالحياة على رغم كل شيء. وبقي أن نشير هنا انطلاقاً من تنويهنا بالكتابين الفرنسيين، أن كتاب الـ”هوجوكي” قد ترجم إلى كثير من اللغات، وتأثر به عدد كبير من الكتاب في شتى بقاع الأرض.