حرية – (13/2/2024)
كغيرها من الحرف التقليدية التاريخية، تقاوم صناعة الفسيفساء في تونس الاندثار وتصارع من أجل الصمود على رغم الاهتمام الكبير بها، فقد امتد هذا الفن منذ العهد الروماني ليستمر إلى اليوم، وما زالت هذه الصناعة تنتشر في صفوف الحرفيين في مدينة الجم من ولاية المهدية بالساحل التونسي، هذه المدينة التي تضم أهم الورشات وأفضل الحرفيين.
وتكاد مدينة الجم تكون متحفاً مفتوحاً لهذه الحرفة، فلوحات الفسيفساء منتشرة في أكثر من مكان في الشوارع والمحلات وواجهات بعض المنازل.
إتقان وإبداع
بدأت حبيبة في ممارسة حرفة الفسيفساء منذ نعومة أظفارها وأصبحت اليوم مصدر رزقها الرئيس في ورشة خاصة وسط المدينة.
تقول “يستغرق إنجاز لوحة أحياناً أسابيع عدة وهي تتطلب كثيراً من الدقة والإتقان والإبداع والصبر أيضاً وهو الأهم في هذه المهنة”.
يستغرق إنجاز لوحة أسابيع عدة وهي تتطلب كثيراً من الدقة والإتقان والصبر
تضيف حبيبة الشابة الثلاثينية “في البداية كان الأمر صعباً جداً بالنسبة إلي لا سيما عند تكسير الحجارة لقطع صغيرة متساوية الحجم”. واصلت وهي تبتسم “لقد جرحت أصابعي مرات عدة لكن اليوم بات الأمر مختلفاً، إذ أصبحت الحجارة أفضل أصدقائي وشيئاً ممتعاً أحولها كيفما أشاء إلى لوحات جميلة”، وتواصل حبيبة “الفسيفساء مهنة جميلة وراقية، وإذا أتقنتها يمكن أن تكون مصدر رزق جيد”.
إلا أن حبيبة ترى أن مهنة الفسيفساء في خطر إذا ما تم الحفاظ عليها وتشجيع بعض الشباب على احترافها.
لا تجذب الشباب
من جانبه، يقول مدير متحف دار الجم رضا حفيظ في حديثه: “تعتبر صناعة الفسيفساء من الحرف الثمينة والنادرة لما تتطلبه من مهارة في تطويع الحجارة وتليينها لرسم مشهد له دلالات يستلهمها الحرفي أو الفنان من سياق تاريخي أو سياسي أو اقتصادي أو ديني”.
ويواصل حفيظ “انتشار هذه الحرفة في مدينة الجم بالذات له دلالات كبرى مرتبطة بالبعد الحضاري للمدينة ومسرحها الروماني الأكبر بعد مسارح روما، والذي يتوافد إليه السياح مما ساعد على التعرف أكثر فأكثر على هذه الحرفة التقليدية والتاريخية”.
واجه فن الفسيفساء الكثير من التحديات في تونس (اندبندنت عربية)
إلا أن حفيظ يأسف للتحديات التي تواجهها مهنة صنع الفسيفساء منذ أزمة كورونا، قائلاً “نشهد اليوم ابتعاد شباب عن هذه الحرفة التي تتطلب كثيراً من الدقة والصبر”، مواصلاً “حتى طلبة الفنون الجميلة بالكليات يدرسون مادة الفسيفساء لكن للأسف يتوقفون عند الجانب النظري، ولا يريدون القيام بتجارب تطبيقية لتعلم الحرفة داخل الورشات المنتشرة في بعض المدن التونسية”.
وأضاف في سياق متصل “نجد في مدينة الجم ثلاثة أنواع من الفسيفساء: الرومانية والصناعية والميكرو فسيفساء، التي تحظى بانتشار أكبر نظراً إلى أنها نوع من الفسيفساء الصناعية الرقيقة”. ولفت إلى أن “عديداً من السياح يقبلون على هذه النوع من الفسيفساء الذي يعيد رسم بعض اللوحات الفنية الخالدة كالموناليزا مثلاً أو قد يطلبون صوراً خاصة أحياناً”.
ويفيد رضا حفيظ بأن هناك عدداً قليلاً جداً من الحرفيين والحرفيات القادرين على ممارسة هذه المهنة التي تتميز بصعوبتها ودقتها، وهي لوحات تتطلب كثيراً من الوقت مقارنة باللوحات العادية الرومانية.
العهد الروماني
من جانب آخر، يرى حفيظ أن تونس تضم إرثاً عالمياً من لوحات الفسيفساء، إلا أنه لا يتم استغلاله كما يجب، ويضم متحف باردو في العاصمة تونس أكبر مجموعة فسيفساء في العالم من حيث العدد والقيمة”. وتعد هذه اللوحات أفضل وسيلة لمعرفة الإطار التاريخي والاجتماعي الذي عاشته تونس في العهد الروماني، منذ سقوط قرطاج إلى دخول العرب في القرن السابع الميلادي.
نجد في مدينة الجم ثلاثة أنواع من الفسيفساء: الرومانية والصناعية والميكرو فسيفساء
وتضم لوحات الفسيفساء صوراً ومشاهد تعبر عن الأيديولوجيا والتفكير في ذلك العصر، فضلاً عن تجسيدها طريقة العيش في تلك الحقبة التاريخية.
كما تغطي هذه اللوحات مساحة تعادل خمسة آلاف متر مربع، مقسمة على آلاف اللوحات.
ومن أكبر هذه اللوحات لوحة “سوسة” التي تبلغ مساحتها 130 متراً مربعاً، وتزن أربعة أطنان، وقد اكتشفت هذه اللوحة في محافظة سوسة جوهر الساحل التونسي، وفيها تجسيد للبحر و”لإله البحر نبتون، الإله الحامي للمدينة في تلك الفترة”، بحسب المعتقدات الأسطورية وقتها.
لكن لعب المجتمع المدني دوراً في إعادة الحياة لهذه الحرفة لتصمد مهما اشتدت عليها الأزمات، على غرار إنجاز جدارية فسيفسائية ضخمة في الجم في مارس (آذار) 2016، بلغ طولها 12.5 متر فيما بلغ عرضها 2.40 متر بمساحة إجمالية تقدر بـ30 متراً مربعاً. وقد تم نقلها لاحقاً إلى باردو، إذ تضم الجدارية صوراً لضحايا العملية الإرهابية التي حدثت في متحف باردو عام 2015.
وعثر في مدينة الجم التي كان اسمها في العصر الروماني تيسدروس، على منازل عدة فيها لوحات من الفسيفساء يعود تاريخها إلى العهد الروماني من بينها “دار أفريقيا”.
ويعود أصل كلمة “فسيفساء” للفظ اليوناني “muses” وهي آلهة الفنون والجمال والإلهام الفني التسعة اللاتي رافقن الإله “أبولو”، وقد دخلت هذه الكلمة إلى اللغة العربية على اسم “psephos” التي عربت لاحقاً لتصبح “fass”. وتعني هذه الكلمة اللاتينية الأصل مكعب “cubes” أو “dices” وهي الأشكال المكعبة والمنتظمة المقطعة من الحجارة.