حرية – (19/2/2024)
على رغم دخولنا عصر العلم والتقنيات الحديثة، ما زالت فكرة الشبح التي أكد العلم الحديث ارتباطها بالخرافة، قادرة على السخرية من قوانا العقلية. إذ تتجلى الفكرة حديثاً من خلال الفنون ضمن مظاهر وقوالب المغامرة والكوميديا الساخرة بعد أن احتلت مساحة كبيرة ضمن أعمال الرعب والعنف. وتختلف أسطورة الشبح في بنائها وإنشائها واقعياً عن كل مثيلاتها المستخدمة في السينما حديثاً وقديماً، والتي من أشهرها أسطورة الزومبي ودراكولا والمستذئبين. ويعود ذلك إلى أن منشأ هذه الأسطورة العميق هو عالم البحار، وفي كونها ليست مرتبطة بشكل مباشر بقوى الطبيعة على الأرض وخصوصاً في المناطق الحضرية والمدن الحديثة. لذلك ازدهرت هذه الأسطورة من خلال فكرة بدائية وهي “عودة الروح” إلى الأرض بعد الموت، لتعبّر عن رغبتها في الانتقام العنيف أو لتصحيح الخطأ الذي حدث قبل انتقالها إلى عالم الأموات. وظهرت الأشباح أكثر من أي وقت آخر في العصور الوسطى، إذ تحدثت عنها مخيلة السينما الحديثة ضمن قالب زمني وطابع جمالي رومانسي، يحمل روح العصر (الفيكتوري) كما في فيلم الرسوم المتحركة “جثة العروس 2005” للمخرج تيم برتون وهو من بطولة جوني ديب.
قراصنة الكاريبي
ويعد جوني ديب واحداً من أكثر النجوم الذين عبّروا سينمائياً عن تطورات أسطورة الشبح التي حضرت بقوة في عدد من أعماله الفنية الناجحة. إذ أعاد النجم إنتاج الأسطورة وقولبتها ضمن نمط المغامرات الكوميدي، وتوّج مسيرته التي تحدثت كثيراً عن الأشباح بسلسلة “قراصنة الكاريبي” وتحديداً من خلال الجزء الخامس الذي جاء بإخراج كل من يواكيم رونينغ وإسبن ساندبرغ. ولعب فيه ديب شخصية القرصان الأشهر “جاك سبارو” الذي يواجه مجموعة من أخطر الأشباح القراصنة الموتى في مثلث الشيطان البحري. بدوره نقل بروس ويليز شخصية الشبح إلى أبعاد نفسية حديثة ضمن قالب حضاري وعلمي، يعيد ترتيب الفكرة من منظور نفسي بحت تحديداً عبر فيلم الرعب النفسي الشهير “الحاسة السادسة” THE SIXTH SENSE الذي صدر عام 1995.
حقبة الروح الشريرة
أخذت أسطورة الشبح مكانتها الأولى في الفنون من خلال الرسم، خصوصاً في حقبة “الروح الشريرة” الخيالية، التي مرت بها أوروبا بعد عصر النهضة، وانطلاق الثورة الصناعية من الأمبراطورية البريطانية لتغزو أوروبا كلها والولايات المتحدة الأميركية. لذلك ارتبطت الأسطورة في بداياتها بالرعب والخوف، إذ نقل رسامو تلك الحقبة مجسمات مخيفة لنساء بمظاهر مشوهة. فارتبطت الأسطورة بالنساء أكثر من الرجال. لأنها دخلت الواقع من خلال فكرة “دنس المرأة” التي سادت تحديداً في القرون الوسطى. ومع تطوّر العلوم وانتهاء تلك الفترة وتحوّل المرأة إلى عضو عامل وفاعل في الحياة الحديثة، انتهت تلك الأسطورة نهائياً من الوجود، وأصبحت لها تطبيقات أخرى في زمن الفنون البصرية، من خلال ألعاب الفيديو، التي ركزت أكثر على الجانب المادي والمرئي والمحسوس والمدرك في حياة الإنسان.
الشبح والمرأة
وفي العهد الفكتوري الذي انتهى تقريباً بحلول عام 1901، تميزت أسطورة الشبح بارتباطها الوثيق مع عالم المرأة. وارتبط هذا العصر أوروبياً بظلم المرأة واضطهادها جنسياً وجسدياً. لذلك كانت معظم الأشباح معبّرة عن فكرة الأرواح النسائية التي تعرضت للظلم أو للقتل بشكل عنيف، كما هي الحال مع حادثة قتل زوجة الملك الاسكتلندي مالكوم في قصر كليمز التاريخي عام 1043، والتي أحرقت بتهمة الشعوذة بعد قتل زوجها. تقول الأسطورة إن روحها كانت تحوم في أرجاء القلعة لأنها ترغب في العودة إلى الأرض. وأما هدف العودة إلى الأرض لمثل هذه الأرواح فهو ظاهر من خلال فيلم “جثة العروس”، الذي تدور أحداثه حول محاولة شبح فتاة قتلت يوم زفافها وتحللت في غابة وأصبحت هيكلاً عظمياً، اختطاف شاب خائف من الزواج، إذ تأخذه الفتاة إلى العالم السفلي، لكنه يحاول باستمرار الفرار منها والعودة إلى عروسه على الأرض.
يحكي فيلم “جثة العروس” قصة فتاة قتلت ليلة زفافها
في علم النفس
وفي فيلم “الحاسة السادسة” وهو من بطولة بروس ويليز، يدّعي طفل مضطرب عقلياً القدرة على مخاطبة الأموات، ويزعم أنه يرى الموتى بشكل دائم، فيما يقوم طبيب نفسي بمعالجته وذلك من خلال توجيه الطفل إلى مساعدة الأرواح العالقة على الأرض، ولمعرفة أسباب ظهورها، وذلك قبل الانتقال إلى العالم الآخر. وتتكرر هذه المتلازمة السينمائية عبر معظم الأفلام التي تتعلق بأسطورة الشبح، لتؤكد أن الهدف من العودة هو تصحيح الخطأ الذي وقع أو مجرد الانتقام العنيف كما في فيلم “قراصنة الكاريبي” وغيرها من الأعمال.
زوال الأسطورة
خلال عقود قليلة من الزمن، تحولت أسطورة الشبح من حقيقة تغزو الخيال البشري وتحتل السينما إلى خيال محض نادر الظهور والوجود، فهذه الأسطورة مرتبطة بالجماعات الإنسانية المنقرضة في العصر الحديث. وهي جماعات كانت تؤمن بعودة الأسلاف والأجداد إلى الحياة وقدرة الإنسان على التواصل معهم ضمن الحياة اليومية، وظهر ذلك جلياً في حكايات شعوب أستراليا الأصليين وغيرها من الحضارات التي تآكلت بعد ظهور العلم وانحسار الخرافة.
جذور أفريقية
لكن جذور هذه الأسطورة، وفق مصادر عدة منها الموسوعة العلمية العربية والأوروبية، تعود إلى الديانات الأفريقية، وذلك نظراً لأنها ارتبطت بشكل جذري بالطبيعة، وتؤكد الأساطير والروحانيات القديمة وتحديداً الأفريقية منها، أنه لا يمكن التخلص من الأرواح الشريرة التي تضل طريقها إلى الواقع إلا من خلال “رمح الأجداد”. ويرمز الرمح للقوة الخارقة والوحيدة القادرة على إبطال تأثيرات الأرواح الشريرة. ولذلك كانت أسطورة الشبح واحدة من أعنف الأساطير. ومن اللافت للنظر أن فيلم “قراصنة الكاريبي” في جزئه المذكور سابقاً (الخامس)، تحدث عن سعي البطل الخرافي سبارو للحصول على رمح بوسيدون، الذي يسمح له بالسيطرة على كافة البحور. فيما تكرر ذُكر الرمح ذاته في فيلم “أكوامان 2018″، مما يؤكد أن إبطال أسطورة الشبح المرعبة مرتبطة في كل العصور القديمة بوصول البطل إلى الرمح القادر على ذلك.
يعد جوني ديب واحداً من أكثر النجوم الذين عبّروا سينمائياً عن تطورات أسطورة الشبح من خلال سلسلة قراصنة الكاريبي
أسطورة مختلفة
ضمن هذا الوصف، تعد أسطورة الشبح أكثر اختلافاً من غيرها، وتختلف كلياً عن أسطورة الزومبي ودراكولا والمستذئبين وغيرها من المخلوقات الخيالية مثل الجن والشيطان والعفاريت. لكن المفارقة تكمن في كون أسطورة الشبح لم تدم طويلاً مثل بقية تلك الأساطير، ويمكن القول إنها انتقلت إلى مجال الأحلام والشعوذة مع مرور الوقت وتغير الزمان. فالشبح حديثاً يُفضّل البقاء في الظل، ولا يظهر للعيان، وهذا جزء من فكرة إغريقية قديمة أيضاً، مفادها بأن لكل شيء روحاً حتى الحجر والرعد وغيرها من الأشياء.
رأي العلم
وفق مؤلفات أوروبية ترجمت ونشرت على موقع “واي باك مشين 2020″، فإن “الإجماع الساحق للعلوم هو أن الأشباح غير موجودة، مع ذلك فإن من المستحيل ضحد وجودها”. إذ يربط العلم حديثاً وجود فكرة الشبح بالهلوسات الدماغية الإنسانية. ويؤكد التفسير العلمي الأشهر حديثاً لظاهرة الشبح على الجانب الفلكي، وفكرة وجود ترابط وثيق بين ظاهرة تأثير الحقول المغناطيسية الغامضة التي تنتج على مناطق من الأرض بسبب الرياح الشمسية على عقولنا. مما يعني أن الظاهرة مرتبطة تماماً بالخرافة وبعض المعتقدات الدينية، لكنها لم تكن مكتشفة حتى نهاية العصر الفيكتوري.
أخيراً، وفي هذا السياق جاء تفسير العلم لفكرة الشبح ضمن علوم حديثة أخرى مثل الكيمياء والفيزياء من خلال دراسات تاريخية ربطت بين الهلوسات الدماغية للإنسان وطبيعة بناء المنازل القديمة، والتي كانت جميعها تحتوي على مجارٍ مائية تمر عبر صخور الغرانيت، إذ يولد احتكاك الماء بهذا الحجر الصخري طاقة كهرومغناطيسية تؤثر أيضاً على عقل الإنسان، فيما تزايدت حديثاً مثل مصداقية هذه النظريات خصوصاً بعد اكتشافات أثرية أكدت استخدام حضارات قديمة لغازات معيّنة تسبب الهلوسة في معارك مع أعدائهم، والتي من أشهرها غاز أول أكسيد الكربون.