حرية – (20/2/2024)
وفقاً لأحدث تقديرات موقع “فوتوتوريال” (photutorial) تلتقط نحو 4.7 مليار صورة يومياً، وعام 2023 التقط نحو 93 في المئة من الصور باستخدام الهواتف الذكية. كما تشير تقارير “غوغل” إلى أن أجهزتها التي تعمل بنظام “أندرويد” تلتقط 93 مليون صورة شخصية يومياً، وفي أحد الاستطلاعات أفاد أشخاص تراوح أعمارهم ما بين 18 و24 سنة بأن الصورة الثالثة من كل مجموعة صور يلتقطونها هي صورة شخصية.
افتقاد التجربة الحية
وكانت انتشرت بكثافة في بداية ظهور منصات الـ”سوشيال ميديا” وتطور الحاجة إلى الصور ثم تطور كاميرات الأجهزة الذكية، ظاهرة انتشار عدد كبير من المصورين لدرجة أن أصبح في كل عائلة تقريباً شخص يمتهن التصوير أو على أقل تقدير يقول عن نفسه إنه مصور. وبذلك أصبح هناك كم كبير من الصور التي تنشر يومياً، هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار كم الصور الاحترافية التي تنشر على المواقع المتخصصة، سواء صور لطبيعة بلدان أو حضارتها العمرانية أو تراثها أو تصوير سلوكات بعض الحيوانات ومهاراتها وغير ذلك.
لكن اللافت للنظر أن الناس العاديين ما زالوا يلتقطون الصور بغزارة وبصورة يومية، وأحياناً على مدار الساعة، وهنا لا نقصد الصور الشخصية أو الـ”سيلفي” أو لقطات مع الأشخاص، بل امتدت حتى شملت تصوير البيئة من حولهم، وهنا السؤال لماذا يصور البشر اليوم مشاهد موجودة مسبقاً بصورة احترافية وبكثافة، سواء في مواقع مختصة بالصور أو على منصات التواصل الاجتماعي؟
يقول فادي، “كنت في رحلة إلى تايلاند وأثناء عرض مميز للدلافين لاحظت تناول غالبية الحاضرين هواتفهم الذكية لكي يوثقوا العرض كاملاً في حين أن هذه العروض منتشرة بكثرة على ’يوتيوب‘ ويمكننا مشاهدتها في أي وقت موثقة بصورة دقيقة وباستخدام كاميرات عدة ومن مختلف الجهات، على رغم أننا هنا لكي نستمتع بالتجربة الحية التي تحتاج إلى الحضور بكامل وعينا حتى تلتقط أعيننا مشاهد وتفاصيل لا تستطيع التقاطها الكاميرات، ونتفاعل مع ما حولنا”.
التصوير والحاجات الأساسية
يقول علماء النفس إن التقاط الصور وسيلة أساسية لتوثيق الذكريات وإن حفظ تلك الجميلة منها تشعر البشر بالأمان وكأنهم يحمون أنفسهم والآخرين من النسيان، ويوثقون شكلاً معيناً للحياة التي يستمتعون بعيشها، ومن جهة أخرى لنعلم الآخرين ببساطة أننا كنا هنا يوماً ما. ويرى بعضهم أن وجودهم اليوم على الـ”سوشيال ميديا” والرغبة في تنشيط حساباتهم من الأسباب الرئيسة، إضافة إلى الرغبة في إعلام الآخرين بالتجارب التي عاشوها على أرض الواقع.
نظراً إلى طبيعة المنصات الاجتماعية التي تركز على التواصل، فمن الطبيعي أن ينبع الدافع الأساس للنشر من نقطة نفسية يحفزها على فكرة التواصل مع الآخرين، ومن الواضح أن سيكولوجية النشر تحاكي بذكاء هرم الحاجات الأساسية عند البشر وتلبيها من ناحية الحاجات الفسيولوجية والأمان والانتماء والتقدير وتحقيق الذات، ووفقاً لمقالة نشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي، فإن أحد الأسباب التي تجعل الناس ينشرون على مواقع التواصل الاجتماعي ترتبط بما يحصلون عليه من ردود فعل إيجابية تحاكي احترام الذات بصورة مباشرة، إذ إن الاهتمام الإيجابي الذي يتلقاه بعض المستخدمين يدفعهم إلى مزيد من المشاركة الاجتماعية ويلهم مستخدمين آخرين.
من وجهة نظر عصبية، يؤثر الاهتمام الإيجابي الذي نحصل عليه من وسائل التواصل الاجتماعي في الوظائف المختلفة للمخ بطرق فريدة وغير مسبوقة لما تتضمنه من محفزات عدة تثير ردود فعل متنوعة، وبهذا يمكن أن تظهر تأثيراتها في الدماغ بطرق متنوعة، إذ يؤدي تراكم الإعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي إلى ما يسمى “تنشيط الدورة الدموية الدماغية” التي تتضمن المكافأة.
فعندما قام الباحثون بتحليل أدمغة أشخاص أثناء تصفح “إنستغرام” لاحظوا نشاطاً أكبر في المناطق العصبية المتورطة في معالجة المكافأة والإدراك الاجتماعي والتقليد والاهتمام عند مطالعة الصور ذات عدد الإعجابات العالية، وعندما يتلقى مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي تعليقات إيجابية أو إعجابات تطلق أدمغتهم مستقبلات الدوبامين التي تيسر نقلها هذه المنطقة.
لكن الأكيد أن هذا السعي المستمر إلى القبول على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى مشكلات نفسية كبيرة لدى بعضهم، إذ تؤثر وسائل التواصل بطرق عدة في النمو النفسي، نظراً إلى الدور الكبير الذي تقوم به التأثيرات العاطفية هنا.
التأثير قي الذاكرة
تشير دراسة نشرت في مجلة العلوم النفسية في موقع “سيج” (sagepub) إلى أن التقاط الصور قد يقلل في الواقع مما نتذكره عن الأشياء التي يتم تصويرها، وأثبتت دراسات عدة أن الناس كانوا أقل قدرة على تذكر الأشياء التي صوروها بكاميراتهم مقارنة بالأشياء التي لاحظوها بأعينهم فقط، وبدا أنهم يتذكرون تفاصيل أقل عما صوروه مقارنة بتفاصيل الأشياء التي رأوها ولاحظوها، وبمقارنة ذاكرة كل منهم وجدوا أن ذاكرة الأشخاص الذين سبروا المشهد بأعينهم غالباً ما تحوي تفاصيل غير موجودة في الصورة، أي تقع خارج الحدود الفعلية للمشهد الملتقط، وكأننا مع الوقت استبدلنا وضع المشاهد في ذاكرتنا البشرية من خلال الاعتماد على ذاكرة أخرى خارجية (ذاكرة الكاميرا)، وكأن التقاط الصور أكثر أهمية من الوجود بشكل حقيقي وفعلي، لنصل إلى مكان أصبحت فيه الغالبية لا تهتم بما تنظر إليه بقدر ما تنشغل بتصويره.
الحقيقة أنه غالباً ما تفوت الأشخاص المولعين بالتصوير أحداث حقيقية كثيرة من حولهم، أحداث ترتبط بأشخاص من لحم ودم، بينما يحاولون جاهدين توثيق الحدث، في حين أن الغاية من التنقل والتعرف إلى أماكن جديدة وعيش مغامرات هي التجربة التفاعلية مع البشر ومع الأشياء ومع الكائنات من حولنا، وليس توثيقها وتصويرها بشكل شخصي.
تقول رندا، وهي شابة مولعة بالسفر والتعرف إلى ثقافات جديدة، “لاحظت خلال الأعوام الأخيرة أنه غالباً ما يفوتني كثير من الأحداث وأنا مشغولة بالتصوير، وحين يذكر لي بعض الأشخاص حدثاً ما أجد نفسي عاجزة عن تذكره لأنني لم أكن واعية فعلياً لما حولي، فعيني دائماً على شاشة الهاتف الذكي ومشغولة بالتوثيق”.
التقاط الصور الواعية
من منظور آخر، يعد التقاط الصور واحداً من العوامل التي تضخم أو تثبط الاستمتاع بالتجارب، لذا من الممكن أن نوازن تجربتنا من خلال التصوير الواعي وعدم الانسياق وراء التصوير من دون هدف، فبحسب جمعية علم النفس الأميركية، من الممكن أن يزيد التقاط الصور من التفاعل مع التجربة ذاتها ويعزز الاستمتاع بالجوانب الإيجابية منها، كما يمكن أن يؤدي التقاط الصور الواعية إلى زيادة المشاركة والاستمتاع بالتجربة، مثلاً قد يؤدي التقاط صور أثناء تناول الطعام إلى زيادة الإعجاب بالطعام، وربما يؤدي تكراره مع الوقت إلى تحسين الحال المزاجية والرضا العام عن الحياة، أي قد يسمح التقاط الصور بتذوق أكبر للحظة ذاتها أو للتجارب المستقبلية.
ويدعم التصوير الشخصي وظائف متعددة، مثل الرغبة في إعادة الانغماس مرة أخرى في لحظة ماضية، أو خلق فرصة لاستعادة الذكريات ونقل شيء ذي مغزى عن شخصية الفرد وقيمه ونظرته للأشياء وما إلى ذلك. وتشير الأبحاث إلى أن ما يسمى “صورة الشخص الثالث” (الصورة التي يطلب فيها الشخص المعني أن يصوره شخص آخر حتى يظهر في المشهد)، يمكن أن تصور بشكل أفضل معنى الأحداث وتذكّر الأشخاص أكثر بمغزى الصورة.